د. محمد الهادي الطاهري - طارف وتليد

أي فرق بين ما اقترفه هذا الصبيّ اليوم حين أخذ مفتاح السيارة في غفلة مني ومن أمه ومضى بها في شوارع المدينة المكتظة بالسيارات والمترجلين وما اقترفته أنا أيام كنت في مثل سنه حين سمح لي أبي رحمه الله بركوب الفرس وحذرني من حملها على الركض إذا أوردتها الماء ولكني كنت أحملها على الركض كل يوم وبعد أن ترد الماء؟ لم أجد فرقا كبيرا بين الوضعيتين فهذا الصبيّ خالف تعليماتي ولم ينتصح بما نصحته به مرات عدة وأنا أيضا لم أمتثل لتوصيات أبي وركضت بفرسه خلافا لما أوصاني به. وكان أبي قد استشاط غضبا مما اقترفته ووبخني طويلا على فعلتي الشنيعة وأنا أيضا استشطت اليوم غضبا مما فعله ابني ووبخته طويلا على فعلته التي بدت لي هي أيضا فعلة شنيعة. أنا اليوم لا أختلف في شيء عن أبي. لقد كنت نسخة منه في كل شيء تقريبا، في غليان الدم في الرأس وفي تهدج الصوت وفي اللغة النابية وفي رعشة اليدين والشفتين ثم في الإضراب عن الطعام في موعد الغداء والاكتفاء بالتدخين والزفير. وكذلك زوجتي لم تختلف في شيء عن أمي رحمها الله فقد كانت مثلها تماما مسكونة بالخوف ولم يهدأ لها بال حتى رأت السيارة تتوقف أمام المنزل ورأت ابننا ينزل منها سليما تماما كأمي حين رأتني أنزل من على ظهر الفرس سليما معافى. الآباء هم الآباء في كل مكان وزمان وكذلك الأمهات. أما الأبناء فمختلفون. لقد اكتفيت حين فعلت فعلتي منذ أكثر من خمس وأربعين سنة بالصمت فلم أرفع عيني في وجه أبي الغاضب ولم أبرر فعلتي ولم أحتج على تلك اللغة النابية التي خاطبني بها. أما ابني فلم يرض بخطابي العنيف ودعاني إلى الكف عن الصراخ في وجهه بكلمات يمتزج فيهن الحجاج بما يشبه عدم الرضا على ما بدر مني تجاهه . لم كل هذا يا أبي؟ لم أتجاوز بالسيارة حدود الحي وها أنا بخير وسيارتك بخير هي الأخرى فعلام كل هذا الغضب. هذا مفتاح سيارتك خذه. أنا لم أكن كهذا الطفل أبدا. لقد استوعبت أهم وجوه الرسالة التي فجرها أبي في وجهي وأدركت أنه كان يخاف علي من خطر الوقوع فما أنا بفارس وما كان لي أن أعتلي صهوة الفرس فضلا عن حملها على الركض. وأدركت أنه كان يخاف على فرسه أن يصيبها داء من فرط الركض بعد أن وردت الماء. قانونان اثنان لابد من احترامهما. ولا أعتقد اليوم أن إبني هذا قد فهم الرسالة. يمنع عليك يا بني أن تقود السيارة وأنت غر لم يؤذن لك بعد ولهذا المنع مقاصد أولها حمايتك من خطر الطريق وحماية أبويك من تهمة اسمها إهمال العيال وعقوبتها مذلة. أنا اليوم كما كان أبي وابني اليوم كما كنت أنا من وجه ولا شبه له بي من وجه آخر والزمان بعيد فيه طارف وتليد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى