أبو يوسف طه - رحلة إلى الماوراء

نمت ممددا على ظهري، بدأ سرب من أشخاص أعرفهم محمولا في سحابة رمادية باهتة في شفافية البخار، حين تدنو من فوقي يميل منها شخص لايبدو منه إلا وجهه ، فمه مفتوح وعيناه مغمضتان ثم يتبدد فيخلفه شخص آخر، ينتهي المشهد بأن أراني طافيا فوقي شخص آخر. أستيقظ فزعا كآخر الموتى . حدث هذا في الليلة الأولى التي أُخبرت فيها بعد زيارة عيادة الطبيب بأن استفحال السرطان لن يدع لي فرصة للحياة، وأنني سأموت بعد عشرين يوما، عشرون يوما هو الزمن الذي بقي النصيب الضئيل لختم وجود امتد ستة عقود.
الجو صحو ، الأشعة الموشورية تتلألأ، الصيادون ينزلقون بقواربهم المتأرجحة في حضن المحيط، أسراب النوارس تهوي مختطفة الأسماك الملقاة على الرصيف، شيخ يسير ببطء، مقوس الظهر. يندفع شخص ملتح شاهرا مدية، يسددها نحو عنق الشيخ الذي سقط وقد غمر الدم ياقة معطفه . قال رجل دنا من الجسم المترنح المسجى « نجيب محفوظ « . أجنحة النوارس الهاربة المُصدرة أصواتا قبيحة تصطفق. وقف فرانز كافكا قرب منزل والده مترددا في الدخول، متهيبا من والده المريض الذي يعامله بقسوة ويغلظ له القول بسبب غيابه المتكرر عن المنزل، يركز كافكا نظره الحاد على ثلاث ممثلاث يرافقهن رجل، علق على هيئاتهن ، فاجأته نوبة سعال، تقوس حتى اقترب وجهه من ركبتيه ، قذف لعابا ممزوجا بالدم، دس يده في جيبه، سحب منديلا، مسح فاه، سار جهة المنزل، وضع يده على الدرابزين، رفع رأسه نحو النافذة.
قال أبي بصوت واهن « الموت علينا حق « انهمرت دموعي، وضعت يدي على كتفه. كان أجله يدنو، لم يعد يتذكر شيئا، هزل وشحب لونه
بدأت خالتي ترفرف بشكل غريب بيديها كدجاجة تتأهب لطيران مُعاق، دموعها تسيل بين خطوط أو نقط متباعدة ، انفرج فمها وتصلب وجهها. غادرت إلى العالم الآخر، فرغ سريرها، عمتي ممددة فوق ذات السرير. قالت لأمي التي رفعتها أثناء معاناتها من تشمع الكبد، وهي تشير بسبابة معقوفة إلى ركن في الحجرة ، قامت أمي وأتت بحُقٍّ، فتحته . قالت عمتي بعد ذكر أسماء نساء من ذويها « لك سبع لويزات ذهبية، الباقي لـ …»
شخص أبي بمريلة من الخيش من جوف المخبزة ، بعد إغلاق فوهة الفرن التي تشبه عينا ضخمة شديدة الإحمرار. أخبرته بنجاحي في امتحان شهادة البكالوريا ، ابتسم، لمعت عيناه ، قبلت ظاهر كفه، منحني ورقة نقدية من فئة عشرين ريالا، وضع أصابعه على جيب قميصي، تحسس علبة كازا سبور . أُدخن، نعم، أصبحت رجلا . أبي لم يقل شيئا . وجهه شمس مشرقة.
عندما يزورني معايدون، أمني نفسي أن يهبني كل واحد منهم قسطا من عمره . لماذا هم أصحاء وأنا ينهشني الداء الخبيث ، أغار.
كلما أقلعت بسيارتي نحو مولاي ابراهيم طائرالجبال، تلفت انتباهي الطريق الممتدة المليئة بالثغرات، أردد في سري « هذه حياتي، أخشى أن يبتلعني تمساح الردى دون إتمامي روايتي ( مرج السعادة) . غرفتي مربعة واسعة ، حواف سقفها شريط جبص منقوش، تتوسطه لوزة مقعرة من خشب ذي تشكيل أبدعته يد صَناع. أنا ممدد على سرير، تواجهني نافذة مسدل عليها ستار جميل مَضاعف، تتوهج مصابيح الثريا، تنعكس الأشعة على الجدران الملمَّعة ذات اللون البنفسجي، المكتبة شامخة بما حوته من كتب، لوحة للفنان لحسن الفرساوي البارع في مؤاخاة التشكيل وأشعار لصوفية وشعراء مغاربة ، يتدفق منها سحر آخاذ، بساط مزركش لصق السرير، علب أدوية، طاولة حائطية فوقها سجل، أقلام، أوراق، مصباح صغير، كل ذلك بات محايدا ، باردا بلا روح ، أنا الوحيد الذي أتنفس، حينما أستيقظ من النوم أولد من جديد لأستهلك يوما آخر يغدو منزوعا من الأيام المتبقية .
يسكب رجل الماء الدافيء على جسمي، يعاونه ثان على لفه في كفن، يحملانه ثم يضعانه فوق نعش في صحن الدار . أسمع النواح ثم تلاوة القرآن، يتأرجح النعش، طريق المقبرة التي اعتدت دخولها مرافقا كل جنازة تعبر الحي، وُضعت داخل القبر، سورة ياسين وأدعية … ثم ضوضاء مغادرة المشيعين، ارتعبت ، أراهم مبعثرين ثم مرتبين في صف متعرج يزحف نحو الباب مغادرين، يغادرون، أنظر إليهم متوسلا، لقد تركوني وحدي.

أبو يوسف طه


بتاريخ : 16/12/2022


* الاتحاد الاشتراكي
  • Like
التفاعلات: مصطفى معروفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى