د. سيد شعبان - ترانيم عيد الميلاد!

ركبت الحافلة التي تتداعى أركانها؛ مثل كل شيء يضربه الذبول باتت تعاني الموات؛ هل حقا يصيب الآلات الوهن؟
حين يكون الفقر على المرء أن يتدبر حاله، لاسبيل لرفاهية في وقت الغلاء؛ أعاني خواء حافظة نقودي؛ متى أراها منتفخة؟
أخرجت لمحصل التذاكر قسيمة الركوب،أسلمت عيني للنوم؛ بدا لي العالم أشد صخبا؛ حين ذاك تجمعت كل الأحزان في سلة واحدة، كلما مددت يدي أخرجت هما؛ أيقظني الصخب، حاولت الترنم بأغنية محببة إلى قلبي: أغدا ألقاك؟
يشاغلني طيفها، لاأدري لها عنوانا؛ أشعر بدفء الأنثى، في مدينة بلاقلب على المرء أن يوجد عالمه الذي يلوذ به.
تهرب الكلمات التي كنت تمثل طيفها في مخيلتي؛ تاه لحنها الجميل فتداخل الإيقاع، يدوي في أذني صوت ارتطام الحافلة بمطب؛ في المذياع فيروز تشدو بصوتها الأرجواني: الطفل في المغارة وأمه مريم!
تردد الجوقة خلفها نفس الكلمات؛ أتذكر أن هذا العام يوشك على الرحيل.
أتساءل لمن تقرع الأجراس؟
فالصغار يتامى في بلاد تختزن النار؛ يضرب الجوع بطون العصافير؛ يخيم الشتاء فوق المدينة التي زارها الوباء.
لقد كانت سنة كبيسة؛ ارتدى الناس فيها أقنعة مزيفة.
يتوقف غراب فوق تمثال يتوسط الميدان، يجري وراءه عامل البلدية الذي ينظف وجه المدينة.
ثمة صوت ناي حزين يأتي من بعيد؛
على موجة إذاعية:
نبأ عاجل: مسئول كبير أصيب بفيروس؛ يتراقص جواري في الحافلة شيخ معمم؛ لقد انتقم الله منه؛ يضربني الصمت بمعوله الصدأ؛ يبدو أن العالم يسقط في الهاوية.
- أنت لاتعرف كم كان مسيئا!
أحاول أن أوضح له أن ذلك وباء يضرب العالم؛ يتمتم: أنت لا تؤمن بالقضاء والقدر.
أتصنع التجاهل؛ يصخب في وجهي؛ يتهمني بالتعاطف معه؛ أحاول إقناعه بأن هؤلاء لديهم مختبرات ولقاحات أكثر تقدما؛ يعرض بوجهه عني، ألتمس حرارة الشمس؛ تخيم سحابة سوداء فوق قرصها فتحجبه.
تلوح نذر عاصفة، حين يضرب المطر تلك المدينة ترتدي حلة مغايرة؛ يبدو أنها تغتسل مما لحق بها من أوشاب؛ لا أحد يحتفي بالحدائق والورود الذابلة، يأتي الشتاء فيتغير كل شيء.
أبحث عن وجه فيروز؛ كل النساء تشبهها، علها تغني لي ليلة الميلاد، ساعتها سأشعر بدفء لايقاوم؛ إنها تجيد تنغيم الصوت.
تلتفت إلي امرأة عجوز تخبرني بأن عظة البابا ستكون عن لعنة الحروب؛ يداهمني سؤال؛ متى يا غبطة البابا تعظونهم بألا يجربوا آلات الموت في الأطفال؟
يحرك يده اليمنى وقد عقد نطاقا أحمر حول وسطه، يردد: المجد لله في الأعالي وفي الأرض السلام وعلى الناس المسرة!
ليت ذلك يكون حقيقة؛ ترى هل يرضى المسيح بكل هذه الآثام؟
تتحدث الصحف عن جرائم يرتكبها الكهنة في دهاليز بيت الرب، إنهم يكذبون؛ ليتهم كفوا عن هذا العبث!
أخرج كتابا من حقيبتي: الحرب والسلام؛ يتفرس الشيخ في وجهي؛ يشعرني بأنني مصاب بالجنون؛ يبتعد عني؛ يصيح بأعلى صوته؛ يشير إلي قائلا: هذا رجل أصابه الشيطان بمس؛ يتحاشاني ركاب الحافلة؛ تبتعد عني المرأة العجوز؛ تتحسس أساورها الذهبية؛ تنكفيء مسرعة إلى جوار السائق؛ يصاب الجميع بالذعر؛ تحاصرني العيون؛ أحاول الحديث إليهم؛ يكادون يقفزون من النوافذ؛ فالأبواب تتكدس عندها جموع الركاب وقد أصابهم الذعر.
كم من الجرائم ترتكب باسم الرب!
تتبلد خطواتي في ذلك الموقف، أحاول أن أقفز من باب الحافلة الخلفي؛ ثمة أكوام من بضائع شتى، تنظر إلي فتاة في لهفة؛ تبتسم لي؛ تعرض علي مقعدا بجوارها، ألقي بجسدي عليه، أشرد لحظات؛ تتابع الصور في مخيلتي:
ترانيم ليلة الميلاد، طفل رضيع يتمزق جسده، امرأة ثكلى، صغار يقتلهم الجوع، رجل يرتجف من البرد، أنثى تتراقص في علب الليل، دخان أزرق يتصاعد؛ شيخ يفتي بحرمة الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، صافرات تدوي؛ كلاب تتشمم بقايا أناس مروا من هذا الطريق؛ بطاقات هوية مبعثرة وقد غطاها لون الحمرة، تتابع نشرات الأخبار؛ لقاح كرونا يدخل حيز التطبيق، ترامب يرفض تهنئة بايدن، يخرج راكب هاتفه ويتغزل في أنثاه.
تبتسم لي الفتاة مجددا، تطلب رقم هاتفي؛ أخبرها به، تسرع بالاتصال بي، تغريني بقطعة حلوى، تخرج منديلا معطرا، تمسح حبات العرق عن وجهي، تبدو طيبة القلب، أسألها عن وجهتها، تنظر في الفضاء البعيد، تخبرني أنها تحتاج ظلا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى