د. خالد عبدالغني* - بمناسبة اليوم العالمي لدعم اللغة العربية في 18 ديسمبر .. نجيب محفوظ واللغة العربية الحلم رقم (100) من أحلام فترة النقاهة

"هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاض واحد وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقاً لمعرفة المسئول عما حاق بنا، ولكني أحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم اسمعها من قبل حتى اعتدل القاضي في جلسته استعداداً لإعلان الحكم باللغة العربية فاستدرت للأمام،ولكن القاضي أشار إلي أنا ونطق بحكم الإعدام فصرخت منبهاً إياه بأنني خارج القضية وإني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي ( )".
في هذا الحلم يتضح التكثيف حيث قاعة المحكمة والقاضي والزعماء واللغة العربية والحكم بالإعدام والإدانة لتحول أوضاع المجتمع المصري إلى تدهور ونكبات ، وفي تحليل ذلك الحلم أعجبنا ما كتبه محمد سمير عبد السلام حيث يقول :" تولد المحكمة كسياق إبداعي افتراضي من داخل مفردات الواقع نفسه ، فالواقع في الأحلام سياق تصويري فريد ومتغير ، فالسارد / المتفرج (نجيب محفوظ) في ساحة المحكمة يصير متهماً ومسئولاً عن الجرائم ، وإن إدانة الذات هنا (ذات نجيب محفوظ) هي إدانة لفعل المشاهدة بوصفه معرفة بالعبث المتكرر ، فالعارف خبير بالجريمة وحالم بها وممثل لها في نص الحلم ومن ثم اكتسب مدلول الفاعل في تداعيات الكتابة ( ).
وهكذا يتضح أن نجيب محفوظ قد تمثل في هذا الحلم القول الشائع "الساكت عن الحق شيطان أخرس ، أو المشاهد للفعل مشارك فيه ومن ثم يستحق العقوبة، وفي التحليل النفسي أن الرغبة تساوي الفعل، ومن هنا فإن هناك إدانة لكل أفراد المجتمع الذين رأوا الفساد والدمار الذي لحق بنا بمحض إرادتهم ولذا فهم مشاركون في الجريمة، كما يلفتنا إلى قضية مهمة تتصل باللغة العربية وتأكيده على أهمية استخدامها في الحياة ، فكثير من المشكلات بدأت في الظهور في استخدام اللغة خاصة بين الشباب والمراهقين وسيطرة مفردات جديدة لا هي بالعربية ولا الأجنبية وهي قضية ستحتاج لجهود المخلصين لمواجهتها خلال المرحلة القادمة والتي نبهنا إليها نجيب محفوظ بإشارته تلك حيث قال :" استعداداً لإعلان الحكم باللغة العربية". ومؤخراً كتب كثيرون عن خطورة ضعف استخدام اللغة العربية نتيجة لسيطرة اللغات الأجنبية في تعليم الأطفال في مرحلة ما قبل التعليم الإبتدائي. ويبدو من متممات هذه الأسطورة الإبداعية لدى نجيب محفوظ بوصفه عروبته المتجذرة في ذاته، وسكناه في اللغة العربية سكنى العاشق المتوحد بمعشوقه، وربما لهذا كان علي يقين ثابت من المقولة التراثية "الشعر ديوان العرب:، وهذا اليقين جعله يتحفظ علي بعض المقولات الطارئة: "الرواية ديوان العرب"، "المسلسل التليفزيوني ديوان العرب"، ولا شك أن إيثار المقولة الأولي مؤشر علي وعي محفوظ بالحقيقة الجوهرية للإبداع ـ علي وجه العموم- ، فالشعر فن اللغة بكل جمالياتها، واللغة فيه أداة وغاية معاً، أما الرواية فإنها تستخدم اللغة بوصفها أداة، ثم تقدم إضافات وهوامش علي هذه الأداة، ونعتقد أن عشقه للغة وسكناه في دروبها هو الذي باعد بينه وبين كتابة "الحوار" للسينما، لعدم قدرته علي التعامل بالعامية تعاملاً فنياً، وذلك برغم أنه كتب ما يقرب من مائة "سيناريو" لأفلام سينمائية أولها: "عنتر وعبلة" ، وأكثر من ثلاثين سهرة تليفزيونية، واثني عشر مسلسلاً تليفزيونياً، لكنه كان حريصاً علي أن يردد: "إن أدبي في كتبي، وليس في السينما أو التليفزيون"
(ص 42 - 45 من كتاب . نجيب محفوظ وسردياته العجائبية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى