أشرف الخضري - شرفة الموت (الدقائق الأخيرة في حياة أنطون تشيخوف).. قصة قصيرة -

حَطَّت حَمَامَةٌ بَيْضَاء عَلَى سِيَاج الشُرْفَة ، و نَظَرْت إلَى دَاخِلِ الغُرْفَة ، وَأَخَذَت تَهَدِلُ وتهز رَأْسِهَا .
كَانَت أُوِلِجَا الْمَرْأَة النحيفة الممشوقة الَّتِي يَبْدُو وَجْهُهَا كوَجْهِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ وَجْه زَوْجَة جَدِيدَةٍ فِي عَامِهَا الثَّالِثِ مِنْ الرِبَاطِ الْمُقَدَّس ، تَجْلِس بِجِوَار سَرِير وَحِيدٍ فِي غُرْفَةٍ بمستشفى فِي أَلْمانِيا .
تَفْزَع وتنتفض وَتَشْعُرُ أنْ قَلْبها يَتِمّ انْتِزَاعَهُ مِنْ مَكَانِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يسعلُ فِيهَا زَوُجُهَا بِوَهَن وتغطي وَجْهَه الْجَمِيل غَمَامَةٌ رمادية . أَمَّا إذَا وَضَعَ مِنْدِيلُه الْقُمَاش أمَام فَمِه ، وَبَصَق فِيهِ قَطْرَات دَمٍ ، فَكَانَت تَشْعُرُ أَن فَاسًا هَوَى عَلَى ظَهْرِهَا بِقُوَّة .
أُخِفْت توترها وقلقها ، وَتَلَأْلَأَت حَبَّات دَمْعٍ مُحْتَبِسَة ، نَهَضْت مِن مَقْعَدُهَا وَاقْتَرَبَت مِن السَّرِير ومسدت رَأْسَ زَوْجِهَا بِيَدِهَا بِحَنَان وَمَالَت عَلَيْه كَأَنَّهَا تتشمم أَنْفَاسَه ، لتمنحه طَاقَة حُبّ وَإِخْلَاص.
وَقَالَت : ستتعافى يَا حَبِيبِي قَرِيبًا ونعودُ إلَى بَيْتِنَا وأشجارنا وعصافيرنا .
نَظَرَ إلَيْهَا زَوْجُهَا الْمَرِيضِ وابتسم.
رَفَع يَدَهَا لشفتيه وَتَرَك قُبْلَة واهنة ، نَظَرَ للحمامة بتمعن وَرَهْبَة وَشَعْر أَن نِهَايَةَ الرِّحْلَة صَارَت أَقْرَبَ مِمَّا تَصَوُّر .
قالت أولجا: هل أزعجتك الحمامة البيضاء؟ إنها فأل جميل لهذا الصباح يا حبيبي.
لكن بوريس تريجورين زوجها ابتسم لها،ولم يقل شيئا،لأنه نظر إلى الحمامة مرة ثالثة وأخذ يفكر ويفكر ويفكر وسأل نفسه سؤالا مرا أكثر مرارة من مرضه القاسي العربيد.
لماذا ينبغي أن يموت الإنسان؟
ولماذا خلق الله الموت؟
وما الحكمة في أن أموت وأنا لم أعش بعد؟ ما الفائدة التي سيحصدها الرب من قطف زهرة حياتي وهي نضرة ويانعة؟
كان قد تخلى عن العزوبية منذ ثلاثة أعوام فقط،وقرر بعدما بلغ الواحدة والأربعين أن لا يخاف الوحدة ولا الزواج،وكم كان هذا القرار صعبا وفظيعا بالنسبة إليه،فهو يكره الكذب والادعاء والسخافات،يكره حماقات النساء والتكلف المرضي الذي يمقته بقوة،يكره أن يعيش حياة مليئة بالنفاق والتمثيل والأكاذيب،ترعبه قسوة امرأة تعتبر زوجها الحبيب قفازا باليا،زوجها الذي كانت تنتهد على ركبتيه في غرامهما الأول وتعتبره مخلصها وأملها ونور حياتها،لم يكن يريد أن يعيش التجربة المؤسفة،لم يكن يتمنى أن تكون لديه " دموع لا يراها العالم " كأبطاله المتزوجين التعساء،لم يكن يريد أن يعيش آلام " إيفان إيليتش " بطل رواية أستاذه العظيم.
لكن ربما لرحمة القدر أو سخريته فقد أفزعته كلماته التي كتبها حول بطله كلخاس الفنان المسرحي،الذي أكل المسرح حياته وأذاب شمعته فصرخ صرخة مدوية.
" أنا وحيد كالريح في الخلاء،بلا زوجة ولا أبناء،إذا مت لن يتذكرني أحد "
وخوفا من مصير بطله فعلها أخيرا،بعد إلحاح وتحفيز من أولجا،لكنه نبهها قائلا: أريد زوجة كالقمر،تغيب أياما،تكتمل أياما،تنقص أياما،لا تحتل سمائي كل ليلة.
رأى تريجورين في السنوات الماضية، نظرات الأسى والشفقة والحزن الخفي في أعين أحبابه ،في عيني أمه وأخته الأقرب لقلبه،وفي عيني صديقه وأستاذه ،والرفيق العزيز مكسيم،وكانت الكلمات الصامتة في أعينهم تتحول إلى عبارة واحدة سوداء ومريرة
" خسارة أن ينتزع الموت هذا الفنان العبقري من بيننا مبكرا ".
عاد من شروده على أثر لمسة حانية من أصابع زوجته على خده،فقال لها برقة وذوق كعادته: أنت شمس حياتي،والتفت ناحية الشرفة لكن الحمامة لم تكن هناك.
نهض من الفراش وتماسك،ساعدته أولجا في ارتداء المعطف الأحمر الذي يحبه،وتحرك باتجاه الشرفة ببطء.
كان يحب اللون الأبيض والأحمر والأزرق،أحب قوس قزح،أحب الصدق والنقاء والبساطة والشرف،أحب الأشياء الحقيقية الملهمة.
كانت سعادته الكبرى،أن يرى أخوته سعداء، كان يمنحهم كل شيء يستطيع أن يقدمه لهم،نقوده القليلة،عطفه،حنانه،حبه الصادق الكبير،يفرح عندما يقدم شيئا ما لإنسان فقير أو تعيس،عندما يعالج الفلاحين البسطاء مجانا،حين يزرع بيديه شجرة توت أو شجرة ورد أو حور، أو يعد مأوى لكلب يتيم يهيم في الطرق،كان يمس بيديه أرضا خربة فتدب فيها الحياة.
خرج للشرفة،تحسس بأصابعه موضع الحمامة،نظر للسماء،ومرت أمام عينيه كل لحظة بؤس ومعاناة طويلة وكل لحظة فرح مرت كالبرق ثم اختفت كالعدم،كطفولته الغارقة في الأسى والشقاء.
وقفت أولجا وراءه ووضعت قبضتيها أمام فمها وأحست بانقباض في صدرها وحزن كبير،لقد ندمت أنها ألحت عليه للمجيء إلى ألمانيا،رغم تحذير الأطباء من خطورة السفر الطويل بالقطار ،على حالته الصحية المتدهورة،توهمت أن الرحلة الشاقة ستنهي معاناة زوجها مع المرض،وسيتاح لها تركيب طاقم أسنان جديدا،الأمر الذي سبب لها توترا وخجلا دائمين،أحست بخزي وندم لغيابها كثيرا عن غرفة زوجها المريض،أرادت أن تحقق بعض المتعة والتغيير لنفسها،وتعرض زوجها على أطباء أفضل،ويستمتعان بالسفرية،لكن خابت ظنونها،وساءت حالته أكثر كما توقع أطباؤه،أحبت أن تسأله هل أعد لك إفطارا،لكن سكتت وظلت تراقبه في صمت.
السل أصاب تريجورين منذ سنوات وتمكن من رئتيه شيئا فشيئا،وهاهو الآن في بادن فايلر في ألمانيا ربما تحدث معجزة غير متوقعة،الطبيب البارع والكاتب العظيم الشهير تريجورين،الذي عالج المرضى لسنوات يحتاج اليوم لطبيب ولكن الدواء عزيز وبعيد وغير مأمول.
كانت رحلته لجزيرة سخالين في أقاصي الشرق،رحلته المشؤومة،لقد انتقلت إلى روحه آلاف العذابات للمعتقلين والمنسيين والمنبوذين،الذين اعتبرتهم الإمبراطورية الروسية، نوعا من البشر لا يستحقون الحياة،فبنت معسكرات ضخمة معزولة،وشيئا فشيئا تحولت الجزيرة كلها إلى سجن كبير،وأحس تريجورين في لقاءاته العديدة مع سكان الجزيرة أنهم أشخاص بلا روح.
تنقل من مدينة لمدينة ومن قرية لقرية،ومن قطار لسفينة ،لعربة تجرها خيول مرهقة،وقطع مسافة عذابات حقيقية من مدينة القباب الذهبية إلى الجزيرة،ليرى ويسمع ويشاهد ويعرف،ومن هناك عاد الطبيب الشاب المليح الممشوق ذو الشارب واللحية الصغيرة بدائه القديم أشد شراسة وفتكا،وسكن رئتيه ونشر شعاع الأسى في عينيه العسليتين لسنوات.
اقتربت أولجا من زوجها وضمته من ظهره برقة،قالت:يوليو جميل في ألمانيا،قريبا نعود إلى جنتنا وتنير بيتك.
كانت أصابعها مسدلة كالستائر على كتفيه،نقل يده اليسرى ومس يدها على كتفه الأيمن،وهز رأسه وقال:قريبا يا حبيبتي قريبا.
حاول ابتلاع كلمة قريبا،تذكر بيته الأبيض الجديد الذي يشبه كوخا ضخما من الجليد،لكن أمنية العودة كانت جافة متيبسة كحبة قمح لفحتها النار.
هناك بيته الدافيء،أشجاره المحببة التي زرعها بيده،مجسم السفينة البيضاء الشراعية الصغيرة فوق الدولاب الصغير،صورة أستاذه العظيم ليف تولستوي على الحائط هناك فوق الجميع،حضن أمه الحبيبة وأخته ماريا.
يا الله كيف يمكن ترك كل هذا الجمال مبكرا؟
أحس أن قدميه تعبتا من الوقوف في الشرفة،شعر كأنه في الثامنة والثمانين وليس فقط في الرابعة والأربعين،تذكر محل البقالة الذي كان يملكه أبوه،والساعات الطويلة التي وقفها على قدميه،وإذا تعب وجلس وأغمض عينيه قليلا رغما عنه ،أيقظته لكمة قوية من الأب الصارم ،ويتطاير الرذاذ مختلطا بالدم من فمه وأنفه قبل أن يتلقى السباب والشتائم .
زفر بحزن وتنهد،وتجسد أمام عينيه صبي صغير معذب،فكر أن يهرب ذات يوم من دكان الإسكافي الذي يعمل لديه،لكنه خاف من البرد والجليد لأنه لا يملك حذاء،وضحك تريجورين في قلب دوامة الأسى والأحزان،وابتسمت أولجا وضمته أكثر وسألته ما الذي يضحكك؟
قال: تذكرت عبارة صبي صغير معذب،دعكت زوجة معلمه، فسيخة في وجهه لأنه شرع في تقشيرها من الذيل،فأرسل لجده رسالة استغاثة وأوصاه ألا يعطي الهارمونيكا لأحد وأن يخبيء له جوزة مذهبة.
قالت أولجا:أوه يا عزيزي،إنه فانكا بطلك الصغير.
قال:ما أشبهه بي وما أشبهني به!
قالت:يا حبيبي أنت كاتب عظيم مشهور ونجم وعلاوة على ذلك فأنت طبيب ممتاز،وكاتبي المسرحي المفضل،انظر لي،لقد أغويتني وسحرتني وها أنا الآن زوجتك.
استدار تريجورين ونظر لزوجته الممثلة المسرحية المشهورة،نظر في عينيها تماما،وصمت قليلا.
كان يحدث نفسه،من أغوى من؟
من الذي يصدق أنني استسلمت بعد كل هذه السنوات من العزوبية والوحدة واتخذت قراري الأحمق وتزوجت؟
ما الذي كان سيحدث لو ظللت أعزبا،هل سيتوقف العالم عن الحياة؟
كم أنا وحيد حتى وأنت على بعد قبضة يد مني.
- إلى أين ذهبت يا حبيبي؟ما كل هذا الشرود؟فيما تفكر؟
- تذكرت طفولتي القاسية يا أولجا،لم يكن هناك شيء يفرحني،سوى الهروب من المدرسة لحضور مسرحية،كنت أدخر كل قرش يقع في يدي وأنفقه هناك،سحرني المسرح مبكرا،وأنا في الثالثة عشرة،كنت أجلس في الصفوف الخلفية،التذاكر في الخلف أرخص،أشاهد وأسمع وأنفعل وأتعايش وأتقمص.
أفلس أبي وترك بلدتنا الصغيرة هربا من الدائنين،وأخذ أمي وأخوتي وفر إلى مدينة القباب الذهبية،وبقيت وحيدا،أعطي الدروس الخصوصية لأوفر طعامي ومصروفاتي،اصطدت طيور الحسون والديوك البرية الرومية وبعتها كي أرسل القليل من المال لأخوتي وأمي،كانت أياما صعبة،وبعد نجاحي في الثانوية ذهبت إليهم و التحقت بكلية الطب وعدت لدفء العائلة.
- لماذا أنت حزين يا حبيبي؟أنت لم تتوقف لحظة واحدة عن دعم أخوتك ومساندتهم طوال عمرك،حتى المرضى الفقراء عالجتهم مجانا،ساهمت في بناء المدارس والمستشفيات وجعلت الخراب جمالا وجنة،أنت عظيم ورائع يا حبيب قلب أولجا.
أحس تريجورين أن صدره يضيق ويضيق،ازداد الألم في رئتيه،سعل بقوة وتلطخ المنديل في يده باللون الذي كرهه و أحبه،شعر بدوار طفيف،واختل توازنه للحظات،بدت له جدران الغرفة كمرايا نقية شفافة تفضي إلى مجرة واسعة مليئة بالشموس والدفء ونجوم شابة تومض في ظلام بعيد جدا،تخيل أنه يرى بوضوح وبقدرة لم يعشها قبلا،بدأت نظرته تنفذ في الأشياء،تأمل شجرة الصفصفاف في حديقة المستشفى، تخيل أنه يرى طفلة جميلة صغيرة بشعر أحمر تلهو بالأوراق المتساقطة،هبط غراب أسود وحملها بمخالبه القاسية،سقطت دمعة من عين امرأة حزينة، ظلت تكبر وتكبر حتى صارت بالونا أحمر أخذ يتصاعد للشمس،جلست في ظل الصفصافة تنتظر الموت،يبدو " وجهها من الجانب كطائر يهم بشرب الماء" ، فجأة يظهر زوجها الحجري نجار التوابيت وأخذ يهددها بقبضتيه وهي تنكمش وترتجف رعبا من قسوته الدائمة،تنهد تريجورين وتأوه،تذكر حبه للحكايات والقصص البارعة التي كانت ترويها له أمه وهو صغير،أحس بشوق كبير لها وأضاءت الوحشة قلبه كانفجار قنبلة هيدروجينية في صدر حوذي مسكين لم يجد في المدينة الميتة أحدا يحكي له كيف مات ابنه.
مست أولجا كتفه برفق وقالت: إيه يا حبيبي أين ذهبت؟
تنفس تريجورين بصعوبة،ولمع حزن هائل في عينيه،وقال:أنا على شرفة الموت.
شهقت وبكت ومدت يدها ولمست شفتيه برفق،وقالت:لا تقل هذا الكلام،أنت بخير،أنت تتعافى،سنغادر هذه الغرفة ونرجع إلى بيتنا قريبا،أرجوك لا تمزق قلبي بكلماتك المرعبة،جذبته أولجا برفق إلى السرير،وطلبت منه أن يستريح،وقالت:سأعود حالا.
جاء الطبيب بعد دقائق بصحبة أولجا،ابتسم في وجه زميله الطبيب،طمأنه ورجاه برفق ألا يفكر في الموت،وليبق مرحا وسعيدا فهذا أمر ضروري لهزيمة المرض،ثم حقنه بمادة الكافور،وأمر له بكأس كبير من الشمبانيا.
أمسك تريجورين الكأس وابتسم ابتسامة ناصعة وشربه،ضحك برقة ولباقة كعادته وقال: الشمبانيا!
لقد افترقنا منذ زمن بعيد،واسترخى في فراشه،وأغمض عينيه.
أمام المرايا الشفافة التي قامت كالأشجار من الأرض،تشكلت وجوه حية أحبها،وجه أمه،أخته ماريا،أخيه،أستاذه تولستوي،صديقه مكسيم،وتشكلت وجوه صنعتها مخيلته الحاشدة بالأحلام الحلوة والمآسي.
قال لنفسه : آه أيها النورس المقاتل تريجورين،يا أمل روسيا الأوحد،يا عبقري زمانك المتفرد،أيها السر الخالد إلى الأبد،
" ترى هل سيتذكرك أحد بعد مائة أو مائتي سنة من الآن؟خصوصا هؤلاء الذين مهدت لهم الطريق؟ "
عشت طوال عمرك تراهن على شيء واحد،واحد فقط،دائم وأبدي وحي،مثل نور الشمس يا تريجورين الخالد.
هدأ وأخذ يريح عقله من الأسئلة والآمال التي تتعلق بعود قش قبل أن تحمله معها إلى القاع،رأى جسرا من الجليد يمتد حتى قدميه،وهناك في نهاية الجسر،شرفة زرقاء في بيت أبيض كبير،مزينة بأوراق التوت،وحمامة بيضاء تقف على السياج ،وباب صغير يفتح ببطء،وتظهر من خلاله امرأة فلاحة شابة،بدت حسناء جدا ويائسة،تبسط يديها وتناديه للدخول باسم غريب:يا يجور سلافيتش،أيها الصياد البارع،" كل بصري من النظر وأنا أنتظرك " .
سقطت نظارته الطبية،وأفلتت يداه لجام الحياة،استسلم للنوم الطويل،كطفل بريء مطمئن،سمع صفير الرياح،أصغى السمع والتقطت أذناه عبارة قديمة من الماضي تترنح كفراشة ثم تبهت ألوانها في عينيه ،
" أحبك يا ناديا "
أحبك أيتها الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى