أمل الكردفاني - روبنسين وآخرون.. قصة قصيرة

في صباحات أفريقية باردة، تدافع اهل قرية زيميلي نحو طرفها الغربي، حيث جاء الخبر بقدوم شاحنات ضخمة تابعة لشركة الكهرباء لتركيب محطة صغيرة في القرية، مع ربطها عبر شبكة بسيطة بقرى أخرى. جاء ذلك بعد نضال مرير من أبناء القرية من قبيلة الشانت، شهد عليه استشهاد المئات منهم قبل أن تستجيب لهم الحكومة المركزية.
قال مندوب الحكومة:
- يرسل لكم سعادة الوزير تحياته.. ويخبركم بأنه لا يمكن بناء المركز الصحي أو المدرسة وغير ذلك من خدمات بدون وجود طاقة كهربية لذلك ستكون الأولوية للكهرباء.
وهكذا أنزلت الشاحنات الأجهزة الضخمة وتركتها على الأرض وغادرت. ثم جاء وفد ممثل لنائب الزعيم الذي التقى بعمدة القرية السيد ألابالو، فقال له رئيس الوفد:
- عليكم الآن أن تأمروا شبانكم بوضع السلاح يا عمدة ألابالو..
فقال العمدة وهو يغمض عينيه بفخر:
- لقد أبدت الحكومة حسن النوايا ونحن من جانبنا سنبدي حسن النوايا ونجمع السلاح..
- هل رأيت ايها العمدة موكبي..
- ماذا تقصد؟..
- لقد جئت بإحدى عشر سيارة رغم أن المخصص لموكبي عشر سيارات فقط.
ابتسم العمدة وهز رأسه. فمد المحافظ يده وصافحه ثم غادر بعشر سيارات فقط.
هكذا وضعت الحكومة المركزية معداتها ونسيت الموضوع، لذلك كان من واجب العمدة ألابالو أن يجمع أهل القرية بعد ستة أشهر ويخبرهم بسبب تأخر الحكومة في تركيب المحطة:
- تعرفون أن هناك الآن مؤتمر قومي في العاصمة بغرض إيجاد حل للأزمة السياسية.. ولذلك فالحكومة مشغولة بهذا المؤتمر لأن المشكلة إن لم تحل سياسيا فسيظل الوضع الأمنى مضطرباً.. لسنا وحدنا الذين لديهم معاناة..
صاح الشاب كاندو موكتو:
- ولكن.. شركة الكهرباء شركة خاصة؟
فعض العمدة على نواجزه وقال:
- ولذلك هي لا تستطيع أن تعمل لأنها يجب أن تتعاقد مع الحكومة لتحصل على أموالها.. لا يوجد شيء مجاني يا سادة.. إنها الرأسمالية..
أصرَّ كاندو موكتو:
- ولكنهم أنزلوا الأجهزة على أرضنا مما يعني وجود تعاقد مسبق..
تقطر جبين العمدة بالعرق وقال وهو يمسك أعصابه:
- يا بُني.. العمل يتم بمراحل.. كل مرحلة لها تعاقداتها.. الحكومة لا تُلقي بأموالها في التراب.. هيا الآن.. عودوا إلى زراعتكم..
وبعد أن انفض الجمع، ارتدى العمدة ملابس جديدة واستقل سيارته مغادراً إلى العاصمة ليتفقد المنزل الذي اهدته له الحكومة، مع ذلك فقد أبدى امتعاضه لمندوب الحكومة:
- أوووه يا سيدي.. ألا ترى.. هناك حمامان فقط في منزل من طابقين.. ست غرف وحمامان..
- هناك حمام آخر في الحوش..
أصر العمدة:
- حمام وغرفة.. إنه مسكن الخفير.. ولكن لا بأس.. رغم أن عمدة قبيلة السامو نال قصراً أكبر منه.. لقد حارب كما حاربنا بل وبعدد رجال أقل منا.. لكنه كان أذكى فزوج ابنته لابن شقيقة الزعيم..
عاد العمدة لقريته وبعد ستة أشهر جمع أهالي القرية:
- ها هي سنة كاملة.. قالوا لي أن الحوار القومي أفضى إلى نتائج غير مرضية.. ونحن لا نستطيع الانتظار أكثر من ذلك..
صاح الشاب كاندو موكتو:
- إنهم يُماطلون فقط.. لقد بنوا في منطقة الزعيم ست محطات منذ أن جاءوا بهذه الخردة إلى منطقتنا..
تجاوز العمدة الصدمة بسرعة وقال:
- هذا ليس مؤكداً ومع ذلك سأذهب غداً صباحاً لاستطلع الأمر..
- لماذا لم يُمثلوا قريتنا في الحوار.. هل نحن أقل أهمية من باقي المناطق والقبائل..
قال العمدة:
- لا.. لسنا أقل أهمية.. سأحسم كل شيء غداً..
وبالفعل ذهب العمدة إلى العاصمة ليطمئن على ما أُنجز من تأسيس مزرعته التي خصصتها له الحكومة أولاً، قبل أن يقول للمندوب:
- لا يصلح الحديث معك.. لا بد من مقابلة مدير الأمن القومي.. فالوضع خطير..
وحين جلس مع مدير الأمن قال:
- هناك شاب ثوري يثير الفتن والمشاكل..
ولما رأى الاهتمام في عيني المدير أضاف:
- إنه شاب مثقف وواسع الإطلاع.. ورغم عدم وجود انترنت في القرية لكنه يعرف كل شيء في العالم.. حتى أنه فاجأني بخبر بناء محطات كهربية في منطقة الزعيم.. وما يخيفني هو أنه يطلع أهالي القرية والقرى المجاورة على هذه الأخبار ويثير الفتنة ضد الحكومة..
أطفأ المدير سجارته على منفضدة ذهبية وقال:
- اتركوه.. ولكن راقبوه جيداً..
ثم سأله:
- هل هو متزوج؟..
- ولديه بنت صغيرة..
- أقارب؟
- كان وحيد والديه وقد توفيا قبل زمن..
عاد العمدة إلى القرية وأخبر أهلها بأن الشركة ستقوم خلال أسبوع بتركيب بعض الأسلاك وعمل توصيل مؤقت..
وفي صباح اليوم الثالث، تجمهر الناس حول عمال شركة الكهرباء الذين عملوا بجد فانتهوا خلال ساعة واحدة فقط من تركيب ستة أسلاك صخمة. ونادى موظف الشركة:
- أين العمدة؟
فرفع العمدة يده من بين الجماهير، قال الموظف:
- تعال واصعد لتبدأ التشغيل الأولي..
قال العمدة:
- لا أستطيع الصعود.. إذهب يا كاندو بدلاً عني..
فصعد كاندو السلم بسرعة وحين وصل قال الموظف:
- عندما أضغطُ على الزر الأحمر.. أدر العجلة التي على اليسار..
وما أن ضغط الموظف على الزر الأحمر حتى أدار كاندو العجلة، لكن صدمة كهربية داهمت جسده كله فطار وسقط مغشياً عليه..
صرخ الموظف:
- لجنة المسعفين..
واضطرب حشد أهالي القرية ثم اندفعوا نحو كاندو فحملوه إلى منزله وابعدوا زوجته التي شعرت بأنه مات.
- ابعدوها.. ابعدوها هي وابنتها..
غير أن كاندو كان يهذي فقط.. مدد ممرضو لجنة المسعفين جسد كاندو على ظهره وغسلوا وجهه بماء بارد، ثم طعنوه ببعض الحقن.. بعدها غادروا وهم يقولون:
- لقد نام الآن.. لا يوجد شيء خطر.. حالته مستقرة..
ليضحى كاندو محل اهتمام القرية، إذ أنه لم يستيقظ من نومه بل كان يهذي مردداً باستمرار:
- روبنسين وآخرون..
...
نقل العمدة الخبر لمدير الأمن القومي، الذي أطفأ -كعادته- سجارته على المنفضة الذهبية وقال:
- لم نسعَ إلى قتله.. يجب أن تثق في كلامي كما أثق في كلامك..
هز العمدة رأسه وقال بجزع:
- أقسم لك بأنني لم أشك ولو للحظة في كلامك..
ثم أضاف:
- المسألة وما فيها هي أن بعض الشبان يثيرون شائعة محاولة اغتياله.. وكلما تأخر تركيب محطة الكهرباء وازدادت معاناة أهل القرية كلما تمسكوا بهذه الرواية أكثر وأكثر..
قال المدير:
- أنت تعلم أن الحكومة لا يمكن أن تبذر أموالها على محطات كهرباء لبضعة قرى..
- أدرك ذلك يا سيدي..
وحين هم بالمغادرة قال:
- ما هي روبنسين وأخوانه يا سيدي..
لمح دهشة في عين المدير، الذي امتصها بسرعة وقال:
- ماذا تقصد؟..
- إن الفتى يهذي بهذا الاسم..
ربت المدير على كتف العمدة وقال:
- جهز نفسك للسفر.. لقد تبنت إحدى الدول مؤتمراً للقبائل وستكون ممثل قبيلتك فيه.. ستتلقى بطاقة صراف آلي دولية وفيها عشرون ألف دولار لنفقاتك الخاصة في الرحلة..
ما أن وصل العمدة إلى قريته حتى دعا أهلها إلى اجتماع هام وخطب فيهم:
- سأسافر خلال هذا الأسبوع لمؤتمر دولي هام لأطرح مشاكلكم التنموية فيه.. إنني اشكر حكومة المركز لأنها أوصلتنا إلى حكومات دول غنية وهذه الدول ستدعم قريتنا بالمستشفيات والصيدليات والمياه النظيفة والتعليم ومعدات زراعية مجانية.. يجب أن تشكروا الحكومة المركزية.. فمن لا يشكر الآخرين لا يشكر الله.. وأبشركم.. غداً ستأتي لجنة طبية لتقييم الحالة الصحية لجميع أهل القرية ومعها قافلة طبية لعلاج المرضى في القرية والقرى المجاورة.. يجب أن تذهبوا لفحص أنفسكم قبل أن يستأثر أهالي القرى الأخرى بهذه المنفعة المجانية..
وبالفعل تجمهر الأهالي منذ الفجر لفحص أنفسهم في خيام القافلة، وجيئ بالشاب كاندو موكتو على نقالة خشبية قديمة، وهو يهذي.
قال الطبيب الشاب وهو يضع سماعاته على أذنيه:
- يبدو أننا التقينا أخيراً بحالة صحية تحتاج للعلاج بالفعل..
ثم صاح الطبيب الشاب:
- ماشاء الله.. صحة كل أهل القرية جيدة.. ماذا تأكلون لتكون صحتكم بهذه القوة..
ضحك أهالي القرية بسعادة وفخر، شبابهم وكبارهم، نساؤهم ورجالهم وأطفالهم. فصاحت امرأة:
- لأننا نأكل الدندن..
سأل الطبيب الشاب مستفسراً:
- الدندن؟.. وما هو الدندن؟
قالت فتاة بدهشة:
- ألا تعرف الدندن؟!!!
تدخل رجل وبدأ في الشرح:
- الدندن أكلة دسمة.. من السمسم المحلى بالعسل ومعه مسحوق جلد الضب يتم خلطهم جميعاً بكبد الماعز ثم تخمير الخليط وشربه..
قال الطبيب الشاب:
- يا إلهي.. تبدو أكلة سحرية..
صاحت امرأة:
- لديَّ بعض من الدندن.. اذهبي يا بنيتي وأتي به ليتذوقه الطبيب..
غير أن الطبيب صاح:
- لا لا .. لا حاجة لي بتذوقه..
لكن أهالي القرية الفرحين بوصف الطبيب لصحتهم بالجيدة أصروا على أن يتذوق الأخير الدندن.. واضطر الطبيب لأكل صحن كامل منه قبل أن يعود لفحص كاندو.
- والآن دعونا نفحص الشاب الذي يهذي..
وضع السماعة في قلب كاندو.. وأخذ يستمع بدقة.. غير أن عينيه ضاقتا وعاد ليجس صدر كاندو عدة مرات بالسماعة، فأصاب ذلك قلق زوجته وأهل القرية.. التفت الطبيب إلى مساعديه وقال:
- تعالوا..
ثم خلع السماعة وجعلهم يرتدونها واحداً بعد الآخر..
قال بعدها:
- هذا الشاب.. ليس لديه قلب.. إنه بلا قلب تقريباً..
تراجع أهل القرية إلى الخلف من الصدمة وقالت بعض النسوة:
- رباه..
صاح الطبيب:
- يجب أن نرى جسده بالأشعة..
قالت مساعدته:
- نحتاج لنقله إلى العاصمة..
غير أن الطبيب قال:
- لا وقت لدينا.. هاتوا الجهاز هنا..
جاء المساعدون بجهاز غريب واوصلوه بشاشة ضخمة، وبدأ الطبيب يركب أجهزة مختلفة على جسد كاندو المسجى عارياً إلا مما يستر عورته.
- يا إلهي..
كان أهل القرية ينظرون في الشاشة إلى صورة زرقاء لجسد كاندو.. وكانوا يرون تروساً وأسلاكاً معدنية..
قالت زوجة كاندو:
- ماذا هناك يا سيدي الطبيب..
كانت الدهشة قد ألجمت لسان الطبيب فازدرد لعابه وتمتم:
- هل.. هل أنتِ زوجته؟
هزت رأسها فأضاف:
- يؤسفني أن أخبرك يا سيدتي.. زوجك ليس بشراً..
عم الصمت أهالي القرية فقال:
- أنظروا إلى الشاشة.. هل ترون قلباً؟ لا.. هل ترون كبداً؟ لا.. هل ترون أمعاءً؟ لا.. هل ترون مخاً؟ لا.. إنكم ترون صواميل ومسامير وأسلاك وتروس.. إن صاحبكم رجل آلي..
عمت الدهشة وجوه أهل القرية فأضاف الطبيب:
- إنه رجل آلي يعمل بتكنولوجيا لم تصل إليها البشرية على الأرض.. تكنولوجيا نانوية..
صاحت الزوجة:
- ولكنني أنجبت منه..
قال الطبيب:
- إنها بذور نانوية.. يا إلهي.. يجب فحصك وفحص ابنتك وكل من اتصل بك وبابنتك وبزوجك.. يجب وضعكم جميعا في الحجر الصحي..
صاحت الجماهير غاضبة، فقال:
- حسنٌ.. حسنٌ.. ولكن مبدئياً يجب وضع الزوجة وابنتها في الحجر الصحي..
ثم التفت إلى مساعديه وأمرهم بتجهيز عربة النقل للمصابين.
صاح الطبيب وهو يغادر بقافلته:
على جميع أهالي القرية أن يجهزوا أمتعتهم ليتم نقلهم إلى محاجر صحية في العاصمة..
اعترض البعض وقال:
- ستموت زراعتنا.. وسينهب اللصوص مساكننا..
قال الطبيب:
- إنها مسألة أمن قومي يا قوم.. لا تكونوا أنانيين..
ثم غادرت القافلة.. فقال بعض الرجال بغضب:
- لن نتركهم يحجروا علينا.. لا هنا ولا في العاصمة..
وصاحت النسوة:
- ما داموا قد أخذوا الشيطان وزوجته وابنته فما دخلنا نحن..
اقترح بعض الشباب تجهيز اسلحتهم وبناء أخاديد ومتاريس لحماية القرية من دخول أي قافلة صحية مرة أخرى، فامَّن الباقون على هذا الاقتراح، وشرعوا بسرعة في إنجازه..
وفي الطريق قال الطبيب الشاب:
- توقف هنا أيها السائق..
توقف السائق فهبط الطبيب وتقيأ.. وعاد وهو يمسح عينيه من الدموع بمنديله القطني:
- يا للقرف.. لقد اضطررت لتقيؤ هذا الدندن العفن..
ضحكت المساعدة وقالت:
- أنت من جلبت ذلك على نفسك حين مدحت صحتهم..
قال الطبيب:
- هؤلاء قوم بسطاء.. كان علي أن أكتسب ثقتهم حتى لا يشكوا في مسألة الرجل الآلي..
التفت السائق إليهم وقالوا:
- الآن.. اخلعوا هذه الملابس التنكرية أيها الجنود.. وابدأوا في حفر القبور الثلاثة.. فلن نجد مكاناً أفضل من هذه الصحراء القاحلة لندفن فيه هذه الروبوتات..
ثم قهقه ضاحكاً

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى