د. نجاح إبراهيم - الرّائحة.. قصة قصيرة

شعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ حين اختارني المخرجُ نبيل للسفر إلى الإسكندرية مع ثلّةٍ من ممثلي مسلسله التاريخي، الذي تدورُ أحداثه في العصرِ المملوكي، وذلك لتصويرِ مشهدين اثنين فقط في قلعة قاتيباي ، وتحديداً عند المئذنة ، وكان بإمكانه أن ينجزهما في المسجد الأموي بدمشق ، قرب المئذنة الغربية التي تشبهُ مئذنة القلعة ، خاصة وأنَّ السلطان قاتيباي هو من أمرَ بتشييدها بعدما دمّرها تيمور .
برّرَ المخرجُ: إنها مكافأة لكم بالدّرجة الأولى.
ابتدأت الرّحلة من الإسكندرية، ومن القلعة بالذات، كانت دهشتي لا تُحدّ حين قيل لنا: إنها إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
رحنا نلتقط الصورَ في كلِّ ركنٍ فيها، رأيت بأم عيني الشبه الكبير بين مئذنتها ومئذنة المسجد الأموي ، وبينما زميلي بهاء يشيرُ إليَّ أن أخطو نحو الباب الكبير، رنَّ في مسمعي صوتُ امرأة تنادي: خلصينا يا ست زيزي، تعالي.
استدرتُ على الفور، لأرى امرأة في الخمسين تمشي ببطءٍ وراءها، رافلة بملاءتها السوداء، وحين رفعت يدها لتصلح من منديلها بانت شامة كبيرة على ظاهر كفّها. هل يعقل؟ قلت لنفسي.
وهذا ما جعلني أدنو منها كثيراً، أتأملُ ملامحَ وجهها، ربما كان هناك بعض التغييرات نتيجة الزمن، أو الحزن الذي تعتّق!
فتحت المرأة عينيها على اتساعهما، دنوتُ أكثر حتى شممتُ رائحتها، أجزم أنها ذات الرائحة.
خمسة عشر عاماً لم تغادرني قط ؛ ولم أستطع نسيانها؛ رائحة غريبة ، وغامضة، تجذبُ المرءَ إليها بالقوّة، تبدو خليطاً من مستخلص اللافندر والفانيليا ومحار البحر والبخور. لوهلة ظننتُ نفسي " جان باتيست" بطل رواية العطر الذي يدفعُ بأنفه الكبير لاستنشاق روائح النساء ليتملكها. حشرتُ أنفي مثله في ملاءة المرأة، بهدوءٍ أخذت تشدّني إليها، رحتُ أعبّئ رئتيَّ من رائحتها ، فأدخل في عميق كثافتها وعبقها ، فأجدني أصغر وأصغر، حتى صارَ عمري نصفَ ما هو عليه الآن. رحتُ أركضُ بسرعةٍ صوبَ الحارة القبلية في حي القزازين بدمشق، ألاحقُ بائع العرقسوس الذي يدورُ كلَّ يوم بين الحارات،وعلى ظهره قربة من الجلد مليئة بالعصير الأسود المزّ، وإذ بي أقعُ على الأرض، دون أن أدركه، فقد تعثرتْ قدمي بحجر في الزقاق الوعر والمترب، صرختُ من الألم ووضعتُ كلتا يديَّ فوقَ ركبتي التي راح الدّمُ يسيلُ منها.
وأنا مازلتُ منبطحاً ومتوجعاً، وصلني صوت امرأة بلهجةٍ غريبة : " قوم يا بو رزع قوم، هاتوسخ الهدوم."
رفعتُ وجهي ونظرتُ إلى صاحبته؛ كانت تجلسُ على كرسيٍّ من القشِّ أمام بابِ البيت، تستدفئ بأشعة الشمس الحيية. شعرتُ بخجلٍ شديدٍ خاصة وأنَّ شاربي الرفيع قد خطّ تحت أنفي، ربما لم تلحظه، فقصري لا يوحي لأحد أنني صاحب شعيرات نبتت فوق فمي منذ أشهر. كبتُّ بكاءً جرّح حنجرتي، ودمعاً كان من الممكن أن يملأ خديَّ، وتحاملتُ على نفسي وقمتُ من كبوتي وأنا أتحاشى النظر إليها. لم أستطع أن أمدَّ ركبتي أو أطويها من الألم، لذا مشيتُ على قدم واحدة عدّة خطوات، حين عزمتُ على المشي صرتُ أعرجُ ، أحسبني بات منظري مضحكاً وهذا ما زادَ من ألمي واحراجي أمامها. سمعتها تقولُ: قام أبو رزع قام ، وسمع الكلام."
زادتني جملتها احراجاً واضطراباً، إذ عاملتني وكأنني طفل صغير! لهذا قسوتُ على روحي وفررتُ من المكان واختفيتُ في منعطفِ الزقاق . أسندتُ برهة ظهري إلى الحائط وانفجرتُ بالبكاء، ثم هرولتُ إلى أمي التي صرخت حين رأت الدمَ ينفر من ثقب بنطالي وحذائي ، نادت على أخي الأكبر، فكشف عن ركبتي الممزقة ولفّها بقطعةِ قماشٍ، وذهب بي إلى ممرضٍ قريبٍ يسكنُ في رأسِ الشارع ليقوم بخياطة الجرح وتضميده.
بعد أيام تذكرتُ المرأة، فسألتُ أمي عنها ، وذكرتُ لها ما سمعتُ منها. ابتسمت وقالت : هذه الست زيزي.
وأردفتْ: جاء بها زوجها قبل سنوات من مصر، ثم ماتَ بحادث، وتركها هنا وحيدة.
قلتُ : شكلها مخيف، تبدو كالبرميل!
- لا، هي طيبة وحزينة.
- صوتها أجش!
- هي قليلة الكلام والاختلاط .
- لمَ بقيتْ هنا؟!
- آثرت البقاء قرب قبرِ زوجها.
انتابتني رغبة بأنْ أمرَّ بتلك الحارة لأراها، صليتُ لأن تكون جالسة أمام الباب، ولم يخبْ رجائي، وجدتُها كما في المرّة السابقة؛ جالسة على كرسي القشِّ، ترتدي ملاءة سوداء ، تحتها ثوب طويل مطرّز، وعلى رأسها منديل . كانت تضعُ يدها ذات الشامة النافرة على خدّها وتحملقُ في الأرض.
" خالة زيزي."
هتفتُ من على بُعد أمتار.
بتكاسلٍ نظرتْ إليَّ نظرة سريعة، ثم عادت إلى عالمها.
كان بيتها عبارة عن طابقٍ واحد من الحجر الرّمادي الداكن، وله شباكان مسوّران بقضبان حديدية .
تعدُّ هذه الحارة وحارتنا من الأحياء الشعبية التي بنيتْ بيوتها بشكلٍ عشوائي، لهذا لم تحظ بفرش أزقتها وشوارعها بالإسفلت، بل ظلت كتلة متورمة من الحجر والطين وخزانات المياه المبعثرة فوق الأسطح.
لم أشأ أن أخترق سكينتها، تركتها وانسحبتُ من المكان كقط أليف.
بعد فترةٍ مررتُ بالحارة من جديد، كانت عيناي لاهفتين لرؤيتها، لكنّي لم أجدها، اقتربتُ من باب الدار، حاولتُ وضع أذني على حديده الصدئ ، متأمّلاً سماعَ حركةٍ ما، لكن لا صوت ولا نأمة تندُّ عن الداخل.
دنوتُ من الشباك الواطئ، دفعتُ وجهي بين القضبان؛ كانت العتمة كثيفة في الداخل، ولا يمكنني رؤية أيَّ شيء، تذكرتُ أنَّ أمي قالت: الست زيزي لها أقارب في اللاذقية .
عدتُ إلى الباب أنظرُ من ثقبٍ صغير، لا شيء سوى حبل غسيلٍ في أرض الدار؛ عليه ملابس قليلة متفرقة، رحتُ أطرقُ البابَ، لم يُفتح لي، فوقفتُ يائساً أسألُ نفسي:" لماذا ألحُّ في مقابلتها؟ ماذا أريدُ منها؟ وماذا سأقولُ لها؟ ربما أعرض عليها مساعدتي إن رغبت في شراء شيء ما، أو ... لا أعرف ، ثمة رغبة لديَّ تجعلني أود لقاءها "
وأنا في حيرتي، وإذ بالبابِ ينفتحُ مرّة واحدة؛ الباب الصغير المتآكل صارَ بوابة واسعة! لتندلق أمامي كتلة سوداء أغشت عينيَّ، تمتدُّ يدٌ لتتلقفني وتسحبني إلى الدّاخل، انتابني خوفٌ وقلقٌ، حاولتُ التملصَ والهربَ، لكن اليد التي أمسكتْ بي ربتتْ على كتفي ومرّتْ بحنانٍ على وجهي.
قالت: اجلسْ .
جلستُ على أقربِ أريكةٍ وجدتها، بينما تركتني وخطت خطوتين نحو اليسار، رفعت ستارة تفصلُ ما بين الغرفة والمطبخ، وغابت وراءها. إلى جانبي ثمّة صندوق قديم ، توشيه الأصدافُ وحباتُ الخرز الملوّنة، وقطعُ المرايا الصغيرة، ببطء مددتُ يدي فلامستْ أصابعي سطحه المزيّن، رفعتُ الغطاء ففاحت رائحة غريبة ، تشبه رائحةَ البحر، رائحة تستطيع أن تدخلها إلى رئتيك برغبة ، وأنا أدفعُ بأنفي إلى داخله لأستنشق أكثر، وإذ بقبضةٍ قويةٍ تحملني كريشةٍ وتلقي بي في جوفه. لا أدري من تكون؟ هل هي قوة الرّائحة، أم يد الست زيزي، أم عفريتٌ كان مخبوءً داخلَ الصندوق؟!
كانت الظلمة واسعةً فيه، شعرتُ بالخوف والضيق، ولكن سرعان ما تبدّدت حين امتدت أمامي فسحة بيضاء كبيرة، سرتُ فيها، إلى اليمين رأيتُ سرادق تسطع فيها الأضواء ، وتتلألأ منها أنوارٌ قدسية تبهرُ الأعين، راح قلبي يدقُّ من الرّهبة، ثمة أجواء دينية، ورجال بذقون طويلة، وعمائم بيضاء، وتنانير واسعة، سألتُ : أين أنا ؟ قيل : أنتَ في الحضرة.
- أين؟
- في مسجد المرسي أبي العباس.
وجدتُ نفسي أمضي إلى المتن، الجميع حولي وأنا في الوسط، منتشياً بذكر الله، أدفعُ برأسي يمنة ويسرة ، أدورُ وأردّدُ معهم الأوراد والأذكار،
ورأيتني كالعصفور أطيرُ من مكانٍ إلى آخر، حتى دخلتُ من إحدى الفتحات إلى بهوٍ كبير، مهيب، ورأيت قباباً وأعمدة من الرّخام والجرانيت الوردي، بهرني المشهد، تمنيتُ أن أبقى في المكان ما حييتُ، بيد أنَّ خربشات قليلة رحتُ أسمعها؛ إنها أصابع الست زيزي تمتدُّ إلى الصندوق، تخرجني منه على شكلِ خيطٍ رفيعٍ كما لو كنتُ رائحة! وكان بيدها الأخرى طبقٌ من البورسلان الأزرق .
قالت: ذق الفريسكا.
تناولتُ القطعة الشقراء على استحياء، كان طعماً حلواً ولذيذاً قد دخلَ فمي، بينما نظرة هادئة راحت ترسلها إليَّ وتبتسم.
كلُّ شيء فيها كان يبتسم، تبتعدُ عني وتبقى الابتسامة كقرص العسل. رحتُ أتعقبُ خطواتها وهي تبتعد عني لتلحق بمن نادتها، بينما كان زميلي ينهرني لننضمَّ إلى الفريق.
خجلتُ أن أوقفها وأخبرها بأني ذلك الولد الذي وقع ذات زمنٍ أمامها، ثم قام بفضل تشجيعها، وأنني أكلتُ الفريسكا من تحت يدها الموشاة بشامة كبيرة ، وازداد خجلي أكثر حين رغبتُ في إخبارها أنَّ رائحتها لم تغادرني قط، وأنَّ لبعض الناس حكاية جميلة يمكنُ للزّمن أنْ يعيدها مرّتين.


نجاح إبراهيم / سورية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى