د. علي زين العابدين الحسيني - المرأة العجوز!

في مثل هذا اليوم وضعتني الدهشة بين أيدي هذه الحياة المملوءة بالنزاع والصراخ، ها قد سرتُ صباحاً مع الكتاب، ولا أدري كم مرة سار معي، لكنني لم أدرك بعدُ أسرار هذا الكتاب المملوء بالمعرفة، ولا عرفتُ خفايا الثقافة.
في صباح هذا اليوم تغلبتْ فيه تخيلاتي على عاقلتي فمررتُ بأطراف الطريق، ووقفتُ أمام زرع أخضر أهمس له وأحادثه، وبينما أنا على هذه الحال أبصرتها من بُعدٍ تحمل حملاً ثقيلاً أيقنتُ أنها في حاجةٍ لمساعدتي.
هيهات هيهات كيف أستطيع الوصول لها، وإن حاولت كيف أفتح الحديث معها، فثقافتنا وديانتنا تختلفان، فهدأت من روعي؛ إذ لم أتعود في بلدي أن أرى منظر هذه المرأة العجوز ولا أتحرك لمساعدتها.
وبينما كنت أترقبها تنزل من مكان مرتفع؛ لأطمئن أنها تجاوزت هذا المكان الخطير في أمن وسلام فوجئت بسقوطها، وقد غشاها الغبار، وتفرق كلّ ما معها يمنة ويسرة، وقد كان ما خفتُ عليها منه.
لما تلاقت عيناي ما حصل لها تحركت عواطفي وتمايلت أحاسيسي، فخليت ما بيديّ جانباً، وأسرعت قاطعاً الطريق في لحظات، ووصلتُ إليها في خوف وفزع.
نظرتُ إلى هذه المرأة العجوز البائسة ذات العينين الغائرتين، كان بها تجاعيد أحسب أنها بعدد سنوات عمرها، قد أحنت السنون ظهرها، وظهرت أحزان معيشتها على تجاعيد وجهها، وعُكست آهات الزمن؛ ليظهر في سوادٍ تحت عينيها.
اقتربتُ منها على مهلٍ واداً لو عرفتُ النطق بلسانها فأعزيها في شدتها، وأبدي لها أسفاً في بؤسها .. أخذتُ بيديها لتنهض من مكانها، وجمعتُ ما وقع منها، وأدخلته في حقيبتها بجوارها، ثم نظرتْ إليَّ نظرات قامت مقام النطق، فكانت أفصح من لسانها، وأبلغ من دموعها.
كانت نظراتها تتكلم، وقلبي يفهمها، فأحسستُ من نظراتها أنها سئمت من البقاء في هذه الحياة، إنها تنتظر بلهف وشوق وصول حافلة الأموات إليها؛ لتوصلها إلى العالم الآخر، فخيال الموت ينتصب في وسطها، وأجنحة الوحشة من المجتمع يخيم عليها.
ولك أن تتساءل كيف لهذه العجوز أن تمشي بمفردها، وتشتري حاجاتها، وتستقلّ بنفسها، وتقطع الطريق المملوء بالمخاطر، فهذه المأساة اليومية كثر المتفرجون لها .. وقلّ المتأملون لحالها.
عرفتُ -مع ضعفٍ في فهم لغتها- أنها تسكن بمفردها، ولا تجد أنيساً يأنس بها، ولا تعرف جليساً يسهر معها، وأنها منذ زمنٍ تركها أولادها، فتستغيث في ظلام الليل الحالك
ولا تجد مغيثاً، وتستصرخ فلا تسمع مجيباً، وتندب أولادها في انفرادها.
قد استولت على هذه المرأة العجوزِ الوحدةُ، وأعوزتها الحاجة للخروج من بيتها وقطع مسافات بعيدة لشراء أغراضها، وقد أُغلقت في وجهها كل سبيل للوصول إلى أولادها، فتمكن في قلبها اليأس، ولم يبق لها إلا سبيل الموت.
هذه المرأة حَرية أن تجد في أخريات أيامها في أفعال وأقوال أولادها وأبناء مجتمعها من العطف والاهتمام بها ما يعوضها عن همومها وأحزانها وحاجاتها .. لكنهم ماتوا صامتين، وأغلقت آذانهم رغم كثرة صراخها.
ليتني أملك صوتاً عالياً وأمراً نافذاً لأنادي فيهم: هلموا وأقبلوا على هذه المرأة، فخففوا عنها وحدتها، وأحسنوا إليها، وامسحوا دموع أحزانها، وارحموها حتى لا يعبث الهم بقلبها، ولا تنال الغربة منها، فَتُؤثر موتها على حياتها، ولكن، واحَرَّ قلباه .. لا أملك شيئاً.
وفي هذه اللحظات تذكرتُ كبار السن في ديننا وحقوقهم، فلهم مكانة في نفوسنا، ومنزلة في قلوبنا، يعيشون مع أولادهم حياة الملوك، فيوقرونهم ويكرمونهم، ويحسنون معاملتهم، ويقومون بخدمتهم وبرهم، ويعتبرهم الجميع بركةً لهم في حياتهم، وزيادة في أرزاقهم وأعمارهم.
ومن زاويةٍ أخرى لم يغب عني صورة هذا البائس الذي سينكر عليّ كيف أمسك بيديّ امرأة لا تحل لي، وأُعينها على النهوض من سقطتها .. بيد أن كلاً منا مُطالب أن يكون إنساناً قبل أن يكون متديناً؛ فقد عُرف نبينا بمكارم الأخلاق مِن صدقٍ وأمانة وعفو وتسامح قبل أن يُعرف بكونه نبياً.
لمعت عيناها، وانبسطت ملامحها، ومشت في طريقها بعد سكونها لبيتها، وهي تنظر لي صامتة، فاطمأنت على حالها، وصرتُ أرمقها من بُعدٍ بعَينٍ آسفة مودعة، وهنا قد استقرّ فكري، وعُدت؛ لأواصل القراءة في كتابي "معنى الكلام" لأستاذنا الكاتب الكبير أنيس منصور، وهو مجموعة من المقالات الفريدة بأسلوبه السهل، ولغته المتحررة.
رغم أني أختلف مع كاتبنا في بعض مواقفه أو أفكاره إلا أني مُغرم بكتاباته ومقالاته، فهو صاحب قلم بديع، ورؤية جميلة، وتفكير عميق، ويصل إلى قرائه بأبسط الكلمات، وهذا سر أنيس منصور.
لا أظن أني كنتُ قادراً في حياتي على ترك إكمال مقال أو كتاب شرعتُ في قراءته لأنيس منصور إلا في هذا اليوم مع هذه المرأة العجوز، فهو الكاتب الوحيد الذي تضطر اضطراراً بكامل رغبتك لإنهاء كلامه، ولا أظن بعدُ قادراً على قطع مقالٍ من مقالاته دون إنهائه.



د. علي زين العابدين الحسيني |أديب وكاتب أزهري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى