رزان نعيم المغربي - رسائل الأدباء الإلكترونية

وصلتني هذا الصباح رسالة إلكترونية من صديق شاعر وكاتب، مرفقة بملفات، كَتب عليها: رسائلنا. أخبرني أنه استعاد مجموعة لا بأس بها من رسائل إلكترونية تبادلناها في أحد الأعوام الماضية.
بعد قراءتها أسفت لعدم امتلاكنا الشجاعة لنشر بعضٍ منها، رسائل تحمل قيماً معرفية وأدبية تستحق النشر. ومرت في تلك اللحظة، صورة صديق أديب ومثقف ليبي، وهو ينصحني أن أكون حذرة في تبادل الرسائل مع الأصدقاء الأدباء، لئلا يأتي يوم وأشعر بالندم على نشرها، كنت وقتها في البدايات الأولى لمشاركتي بالمؤتمرات والندوات الثقافية. حدّثته بفخر عن رسالة بريدية وصلتني من كاتب كبير أعتز بمعرفته، يقيم في بيروت، وأرسلت له رداً مكتوباً، وضعته بمغلف وألصقت عليه الطوابع البريدية. يومها لم تكن الرسائل الإلكترونية متبادلة.
نصيحته، أعادت إلى الذاكرة كلّ ما دار من جدال حول نشر رسائل غسّان كنفاني لغادة السمان، بينما، كان لرسائل مي زيادة وجبران أثر مختلف في الأوساط الأدبية والثقافية وبين القرّاء، حيث الأولى وُصفت بأنها جريئة وتسعى نحو الشهرة بعد أن فقدت أعمال الأديبة ذاك البريق المعهود، على حد تعبير أحدهم. بل اتخذت الاتهامات منحى أكثر حدة، ولا أذكر أن هناك من تناولها بالدراسة العميقة، حيث إنها تمثّل مرحلة تاريخية مميزة، أو هي فرصة لكشف شخصية الكاتبة بعيداً من أعمالها الروائية، وهي إضافة، قد لا نحظى بمثلها، لتكون جزءاً من الدراسات حول السيرة الذاتية، الجنس النادر في منجز الأدب العربي، بينما تحفل الآداب الأجنبية بأعمال السير الشخصية والرسائل المتبادلة للكتّاب مع مقرّبين منهم أو بينهم وبين أدباء آخرين، سواء أكانت رسائل صداقة أو رسائل عن مشاعر الحب والغرام.
مع التطور التقني ووسائل الاتصال الإلكتروني، نكاد نجزم أن صناديق البريد الخاصة ممتلئة بحكايات كثيرة ورسائل، لو نُشرت لأحدثت ارتباكاً أولياً في المشهد الثقافي، لكنها ستترك بصمة لا تزول في تاريخ الأدب الإنساني؛ حيث شخصية الأديب تغيب خلف أعماله الإبداعية، وهي خفية عن القارئ الشغوف بمعرفة أعمق. وهي مهمّة للدارس لأعماله من الناحية النقدية. وهناك أمثلة عديدة مثل رسائل دويستوفسكي إلى أخيه أثناء فترة سجنه.
بالعودة إلى رسالة صديقي، أعترف أن رسائل الأصدقاء كان الهدف منها تبادلاً معرفياً وتعليقات خاصة على الإنتاج الإبداعي، إلا أنها لا تخلو من تلك الملاطفات وذاك التعبير عن مشاعر دافئة في بعض الأحيان. وقد سبق أن ألهمتني رسائل باذخة العواطف من كاتب كان يفضل إرسالها من الهاتف، ووجدتها مادة لطيفة لقصة قصيرة. ولأن ساعي البريد الحديث يمكنه الغدر بنا في لحظة "عطل فني"، أو تسلّل "مجرم إلكتروني"، مما يعطل ويمسح الذاكرة الثمينة بما اختزنته من رسائل، لذا يلجأ كثير من الأدباء المهتمين، إلى حفظها على شكل ملفات خارج الصندوق لتوثيقها. فربما تكون ضمن نسيج عمل إبداعي، أو ربما تترك للزمن القادم من أجل نشرها، حال امتلك الشجاعة واتفق مع الطرف المرسل إليه، على نشرها.
يبقى الأمر الأكثر إثارة هو فحوى الرسائل العاطفية؛ من يهتم لمعرفة كيف نشأت علاقة الود والحبّ بين كاتب وكاتبة؟ ومن كان الأكثر شجاعة في كتابة مشاعره؟ ومن كان المتحفظ بينهما؟ وهل فكرا بنشرها وهما على قيد الحياة أم اتفقا على طوي تلك الذاكرة وإبقائها بعيداً من فضول الآخرين؟
أكثر ما لفت انتباهي في رسائل سبق نشرها أو تمت الإشارة إليها، أن الرجل هو الأكثر تصريحاً عن مشاعره وعواطفه، بل وعن شكواه الممضة من الحبيبة. الأديب لا يختلف عن رجال العالم في طرح مشاعر الغيرة من عشّاق يلتفّون حولها أو هجران وفتور من قبلها. بينما، لم نقرأ حتى اليوم ما خطّته يد المرأة الكاتبة من رسائل إلى صديق أو حبيب. فهي متحفظة مسبقاً داخل نصّها ورسائلها خوفاً من فضيحة أدبية، عكس ما تتضمنه رسائل المعجبين والمعجبات بالأدباء، تلك التي لا يفكّر أحدهم بنشرها إلا للسخرية أحياناً من رسائل غريبة لمجانين ملأهم الشغف بكاتب أو كاتبة مفضلة.
الامتناع عن النشر غالباً ما يتم الاعتراض عليه من الأديب العاشق. فهو الأكثر إفصاحاً، والأكثر خوفاً على مجده الذي يترصده الضياع. أتذكر انكشاف أمر أديب عاشق، دأب على مراسلة صديقات ناسخاً لهم الجمل العاطفية نفسها. وبالتأكيد هذا النوع من الرسائل لا يدخل ضمن ما أشرت إليه، من كون الرسائل بين الأدباء، كنزاً لا بدّ من خروجه إلى العلن يوماً ما.
(روائية ليبية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى