عندما كنتُ صغيراً لم أنعم بِمتعة اللعب و لم أقدر على الخروج من البيت يوماً لشراء اية حلوى من دكان محلتنا ، أو رؤية نفسي في المرآة ، أو تمييز الألوان ، أو مشاركة أقراني من الأطفال في نزهة مدرسية . ذلك لأنني كنتُ قد أصبتُ مبكّراً و منذ صغري بالعمى جراء مرض معد . تربّيتُ كصغار الكنغر في حضن والدتي التي لم تفارقني للحظة ، و لم تكفّ عن مراقبة جميع حركاتي و سكناتي . ترعرعتُ تدريجياً و قضيتُ صبايَ في ظلامي الدامس . و كنتُ قد اعتدتُ في طفولتي على البقاء وحيداً في البيت ، أتجوّل في أرجاء المنزل و أعبث بِكلّ ما تصادفه يدايَ . و قد حصل كثيراً أن اصطدمتُ بالجدران أو قطعتُ أصابعي بالسكين أو احترقت يدايَ بِانسكاب مرقٍ مغلي عليها . فكنتُ للحظات أترنّح ، أتأوّه ، أو أذرف دموعاً دونما جدوى . لذا فقد كنتُ أنا أكثر من ايّ شخص أتأمّل الضياء ، فهي كانت رغم العمى تتجسّد في أحلامي و ترتسم في أذهاني . ذات يومٍ في زنزانتي الدائمة تلمّست أناملي ثقباً صغيراً في الجدار ، شرعتُ أعبث به ، قرّبتُ اليه عيني ، و نظرتُ خلاله ، يا للدهشة ، تناهت نظراتي المبتورة على بريق شعلة تتلألأ في الظلام ، لم أعرف مصدر البريق أو كنهه ، فلربما كان بريق مصباح وهمي ، أو خيالاً قد تجسّد في الضياء ، أو كتلة شمس كانت قد سبتت في الظلام . لطالما استأنستُ و عشقتُ هذا الثقب الذي أصبح رفيقي الوحيد في الحياة . فقد كنتُ أستمدّ من البريق القابع فيه نوراً لعيني المكفوفة ، و قد كان يبعث في نفسي الدفء ، و يخمد في أضلاعي ظنون ظمئي الجامح . فطوال ساعات اليوم كنتُ غارقاً في تأمّل ذلك الضوء الدافيء ، اذ لم يكن هناك ما يبرّر وجودي على الأرض سوى اللهفة في التحديق في ذلك الضوء حتى أصبحتُ رجلاً . شاء الدهر أن أجريتُ عملية جراحية لِعينيّ ، لم يلبث سوى أياماً حتى رجعت بصيراً . حينها تلمّستُ ضياء الشمس و رأيتُ في المرآة نفسي ، و ميّزتُ الألوان عن بعضها . غير انها لم تثر في نفسي جدوىً أو سروراً أو دفءءا، كما لم تمنح عينيّ نوراً . لِذا و على عادتي القديمة ، مجدّداً .. لازمتُ الغرفة في البيت ، و كسابق عهدي كنتُ أحدّق دوماً خلال ذلك الثقب في الشعلة القابعة في الظلام التي قد تكون هي الشمس الحقيقية.