تحت عنوان "صلِّ من أجلنا يا حكيم زيّاش"، كتب الشاعر الهولندي يوست بارس مقاله الذي ضمَّه كتاب "سحر كرة القدم: أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة"، إعداد وتحرير معن البياري، وصدر حديثاً عن "العربي الجديد" (فضاءات ميديا).
في النَّص الذي ترجمه إلى العربية يزن الحاج، يتحدَّث عبر تجربة اللاعب المغربي العالمي حكيم زيَّاش، نجم المنتخب المغربي في كأس العالم بقطر، عن مفهومي "الإيمان" و"العدالة"، مشيراً إلى أن الفيلسوف الأيرلندي الذي يحبُّه، ريتشارد كيني، يصف "الإيمان" بأنه "رهانٌ" يمكن للمرء توصيفه بأنه شكلٌ من المضاربة، أو المجازفة بالأحرى: مجازفة بشأن نشوء عالم، أو واقع، ليس موجوداً بعد، غير أنه قد يوجد تبعاً لمنطق الرهان.
الشاعر الهولندي يعلنها صراحةً في مقاله "أحب هذا"، لأنه ينتزع ما نسمِّيه "إيماناً" من أيدي نسّاخ الكتاب المقدَّس ومضاربي السُّلطة، ويضعه بين أيدي الناس العاديين.. "إذ إن هذه المجازفة، هذا الرهان، موجود في كل ما يفعلونه تقريباً، في كل فعل وتفاعل، كبيراً كان أم صغيراً.. الفتى الذي يتصل بفتاة هاتفياً على أمل أن تردّ يستحضر عالماً ستردُّ فيه عليه، وسينبع كل ما يأمل به من ذلك العالم. الأم التي تعتني بطفلٍ مريضٍ تستحضر عالماً يكون فيه ذلك الطفل معافى، أو مُعتنًى به على الأقل، وبذا سيكون عالماً تُواجه فيه المظالم بالاحتجاج، وبذا سيكون عالَم عدالةٍ مفقوداً في العالم كما هو عليه حقيقة.. العامل المهاجر الذي يعبر حدوداً كثيرة، بعيداً من عائلته وقتاً طويلاً غير معروف، يكدح في عمل خطير على أمل منح حياة أفضل لعائلته أو حتَّى لمجرَّد مساعدتهم على سدِّ الرمق".
"أحياناً يمكن للاعب كرة القدم أن يكون شخصاً مماثلاً. أعرف أحدهم، ولكوني مقيماً في أمستردام كنتُ محظوظاً لأني شهدته من قرب، أعني لاعب أياكس السابق حكيم زيَّاش، ليس لأنه أفضل لاعب في العالم، هو لاعبٌ عظيمٌ طبعاً، لكن ثمّة لاعبون أفضل منه، وليست الأفضلية قصدي هنا.. ما أرومه هو من ضروب الجمال الشعري، ذاك الجمال الذي يمتلكه أي لاعب من أي تصنيف ومن أية براعة، غير أن هذا الجمال، في الوقت ذاته، نادر، وهو أيضاً أمرٌ يلزمنا الآن بشدة، إذ هو قدرة الشاعر على استحضار تلك العوالم، أن يكون أحمق كفايةً كي يمتلك نوع الإيمان الذي يخلق تلك العوالم".
ويسرد الشاعر الهولندي: حين انتقل زيَّاش من أياكس إلى تشيلسي، عانى.. هو قال بنفسه إنه كان في حاجةٍ إلى "التكيُّف"، أو إنه أراد "القتال من أجل ترسيخ مكانه في الفريق".. تعرفون هذا "كليشيه" كرة القدم السائد.
وسيقاتل حتماً، و"لكن ما أظن أنه يحدث حقاً أن أياكس يمتلك مرحَ لعبٍ منقوشاً في حمضه النووي، بينما يمتلك تشيلسي فلسفة أكثر براغماتية، أقرب إلى ما يمثِّله سائر عالم كرة القدم.. وكذا فإن طريقة لعب زيَّاش ليست شديدة البراغماتية.. لو اكتفيت بنظرة ظاهرة، ستظنّ أنه يرتكب أخطاءً كثيرة، كما لو كان شاعراً.. ما الذي يظنُّه الناس حين يرون شاعراً يتجوَّل في أنحاء المدينة كما لو كان متبطِّلاً؟ سيظنّون: عليه أن "يتلحلح"، ويفعل شيئاً مفيداً بدلاً من محاولة أن يكون جميلاً طوال الوقت. ولعلهم سيظنون أيضاً: إنه في عالمٍ ثانٍ. لعل هذا ما ظنّه وحيد خليلهودزيتش بشأن زيّاش. بأنه ليس حاضراً تمام الحضور في الملعب. ولعل هذا صحيح، وهو بالضبط ما يجعله خرافياً، لأن زيَّاش يلعب مباراة أخرى، في الوقت ذاته وعلى الدوام، في ملعب كرة قدم آخر، في استاد آخر، في عالم آخر.. في ذلك العالم الآخر، يرى احتمالات في الملعب يعجز غيرهُ عن إدراكها.. كل تمريرة يمرِّرها رهانٌ على تلك الاحتمالات، ولكن بما أن أحداً غيره لا يرى تلك الاحتمالات يكون معدَّل "أخطائه" أو "إخفاقاته" عالياً جداً، ولكن بين حين وآخر، يلتقط زميل له في الفريق ما يفعله زيَّاش، فتنقلب المباراة كليّاً فجأةً، كما لو أن كلا الفريقين انتقلا إلى مباراة أخرى بغتة، أي المباراة التي كان يلعبها زيَّاش منذ البداية".
وفي إطار التحليل الفلسفي والنفسي وميتا الأداء في الملعب، للاعب المغربي حكيم زيّاش، وهو ما برهن عليه في مبارات المنتخب المغربي بـ"المونديال" الحالي، يتساءل الشاعر يوست بارس: هل ستنقذ الأم طفلها؟ هل سينتج تغيير عن احتجاج الطالب؟ هل سيعود العامل المهاجر إلى وطنه بجيب مليء ليُحسِّن حياة أحبَّائه؟ ليس بأيديهم، بل بأيدي العالم المحيط بهم الذي وضعوا إيمانهم به.
ويختم: لعل زيّاش ليس حاضراً حضوراً كلياً في ملعب كرة القدم الذي نراه، إذ يلعب جزئياً في ملعبٍ آخر، ملعب خرافي، غير أن كل تمريرة من تمريراته فعلُ إيمان بهذا الملعب الثاني.. كما الفتى، كما الأم، كما الطالب، يواصل زيَّاش منح لمحات عن عالم لم يُوجَد بعد، غير أنه قابل للاستحضار إن اختار باقي العالم استحضاره.. ولهذا نحتاج إلى أن يكون حكيم زيّاش في المنتخب المغربي في بطولة كأس العالم بقطر، إذ أكثر من كونه لاعب كرة قدم، زيَّاش شاعر، وتمريراته صلواتٌ.. لمحات عن عوالم أفضل من عالمنا، عوالم عدالة، عوالم بلا استغلال رأسمالي وموت، عوالم حبّ وعطف.
يوسف الشايب
منصة الاستقلال الثقافية
في النَّص الذي ترجمه إلى العربية يزن الحاج، يتحدَّث عبر تجربة اللاعب المغربي العالمي حكيم زيَّاش، نجم المنتخب المغربي في كأس العالم بقطر، عن مفهومي "الإيمان" و"العدالة"، مشيراً إلى أن الفيلسوف الأيرلندي الذي يحبُّه، ريتشارد كيني، يصف "الإيمان" بأنه "رهانٌ" يمكن للمرء توصيفه بأنه شكلٌ من المضاربة، أو المجازفة بالأحرى: مجازفة بشأن نشوء عالم، أو واقع، ليس موجوداً بعد، غير أنه قد يوجد تبعاً لمنطق الرهان.
الشاعر الهولندي يعلنها صراحةً في مقاله "أحب هذا"، لأنه ينتزع ما نسمِّيه "إيماناً" من أيدي نسّاخ الكتاب المقدَّس ومضاربي السُّلطة، ويضعه بين أيدي الناس العاديين.. "إذ إن هذه المجازفة، هذا الرهان، موجود في كل ما يفعلونه تقريباً، في كل فعل وتفاعل، كبيراً كان أم صغيراً.. الفتى الذي يتصل بفتاة هاتفياً على أمل أن تردّ يستحضر عالماً ستردُّ فيه عليه، وسينبع كل ما يأمل به من ذلك العالم. الأم التي تعتني بطفلٍ مريضٍ تستحضر عالماً يكون فيه ذلك الطفل معافى، أو مُعتنًى به على الأقل، وبذا سيكون عالماً تُواجه فيه المظالم بالاحتجاج، وبذا سيكون عالَم عدالةٍ مفقوداً في العالم كما هو عليه حقيقة.. العامل المهاجر الذي يعبر حدوداً كثيرة، بعيداً من عائلته وقتاً طويلاً غير معروف، يكدح في عمل خطير على أمل منح حياة أفضل لعائلته أو حتَّى لمجرَّد مساعدتهم على سدِّ الرمق".
"أحياناً يمكن للاعب كرة القدم أن يكون شخصاً مماثلاً. أعرف أحدهم، ولكوني مقيماً في أمستردام كنتُ محظوظاً لأني شهدته من قرب، أعني لاعب أياكس السابق حكيم زيَّاش، ليس لأنه أفضل لاعب في العالم، هو لاعبٌ عظيمٌ طبعاً، لكن ثمّة لاعبون أفضل منه، وليست الأفضلية قصدي هنا.. ما أرومه هو من ضروب الجمال الشعري، ذاك الجمال الذي يمتلكه أي لاعب من أي تصنيف ومن أية براعة، غير أن هذا الجمال، في الوقت ذاته، نادر، وهو أيضاً أمرٌ يلزمنا الآن بشدة، إذ هو قدرة الشاعر على استحضار تلك العوالم، أن يكون أحمق كفايةً كي يمتلك نوع الإيمان الذي يخلق تلك العوالم".
ويسرد الشاعر الهولندي: حين انتقل زيَّاش من أياكس إلى تشيلسي، عانى.. هو قال بنفسه إنه كان في حاجةٍ إلى "التكيُّف"، أو إنه أراد "القتال من أجل ترسيخ مكانه في الفريق".. تعرفون هذا "كليشيه" كرة القدم السائد.
وسيقاتل حتماً، و"لكن ما أظن أنه يحدث حقاً أن أياكس يمتلك مرحَ لعبٍ منقوشاً في حمضه النووي، بينما يمتلك تشيلسي فلسفة أكثر براغماتية، أقرب إلى ما يمثِّله سائر عالم كرة القدم.. وكذا فإن طريقة لعب زيَّاش ليست شديدة البراغماتية.. لو اكتفيت بنظرة ظاهرة، ستظنّ أنه يرتكب أخطاءً كثيرة، كما لو كان شاعراً.. ما الذي يظنُّه الناس حين يرون شاعراً يتجوَّل في أنحاء المدينة كما لو كان متبطِّلاً؟ سيظنّون: عليه أن "يتلحلح"، ويفعل شيئاً مفيداً بدلاً من محاولة أن يكون جميلاً طوال الوقت. ولعلهم سيظنون أيضاً: إنه في عالمٍ ثانٍ. لعل هذا ما ظنّه وحيد خليلهودزيتش بشأن زيّاش. بأنه ليس حاضراً تمام الحضور في الملعب. ولعل هذا صحيح، وهو بالضبط ما يجعله خرافياً، لأن زيَّاش يلعب مباراة أخرى، في الوقت ذاته وعلى الدوام، في ملعب كرة قدم آخر، في استاد آخر، في عالم آخر.. في ذلك العالم الآخر، يرى احتمالات في الملعب يعجز غيرهُ عن إدراكها.. كل تمريرة يمرِّرها رهانٌ على تلك الاحتمالات، ولكن بما أن أحداً غيره لا يرى تلك الاحتمالات يكون معدَّل "أخطائه" أو "إخفاقاته" عالياً جداً، ولكن بين حين وآخر، يلتقط زميل له في الفريق ما يفعله زيَّاش، فتنقلب المباراة كليّاً فجأةً، كما لو أن كلا الفريقين انتقلا إلى مباراة أخرى بغتة، أي المباراة التي كان يلعبها زيَّاش منذ البداية".
وفي إطار التحليل الفلسفي والنفسي وميتا الأداء في الملعب، للاعب المغربي حكيم زيّاش، وهو ما برهن عليه في مبارات المنتخب المغربي بـ"المونديال" الحالي، يتساءل الشاعر يوست بارس: هل ستنقذ الأم طفلها؟ هل سينتج تغيير عن احتجاج الطالب؟ هل سيعود العامل المهاجر إلى وطنه بجيب مليء ليُحسِّن حياة أحبَّائه؟ ليس بأيديهم، بل بأيدي العالم المحيط بهم الذي وضعوا إيمانهم به.
ويختم: لعل زيّاش ليس حاضراً حضوراً كلياً في ملعب كرة القدم الذي نراه، إذ يلعب جزئياً في ملعبٍ آخر، ملعب خرافي، غير أن كل تمريرة من تمريراته فعلُ إيمان بهذا الملعب الثاني.. كما الفتى، كما الأم، كما الطالب، يواصل زيَّاش منح لمحات عن عالم لم يُوجَد بعد، غير أنه قابل للاستحضار إن اختار باقي العالم استحضاره.. ولهذا نحتاج إلى أن يكون حكيم زيّاش في المنتخب المغربي في بطولة كأس العالم بقطر، إذ أكثر من كونه لاعب كرة قدم، زيَّاش شاعر، وتمريراته صلواتٌ.. لمحات عن عوالم أفضل من عالمنا، عوالم عدالة، عوالم بلا استغلال رأسمالي وموت، عوالم حبّ وعطف.
يوسف الشايب
منصة الاستقلال الثقافية