مناف كاظم محسن - الطريد..

(1)

- ماذا فعلتم؟

تكلم الجد بعد صمت طويل أحسّه الأحفاد دهراً. كعادته كان جالسا في شرفته يراقب عمل المزارعين في بستانه الكبير، لم يلتفت ناحية أحفاده كي يرى الخوف في وجوههم.

- لقد أحرقنا منزله.

قال أحدهم محاولاً اخفاء خوفه وفزعه مما حدث.

- هل انتهى أمره؟

- نعم.

- حسناً ليكن درساً لكم كي تتعلموا الطاعة.

- ..........

- هيا اغربوا عن وجهي.

(2)

- - أغبياء حفنة أغبياء.

ارتفع صوت الجد الخشن. واقفاً في شرفته المطلة على بستانه الكبير متكئاً على عصاه العاجية تاركاً ظهره لأحفاده الواقفين خلفه خافضين رؤوسهم.

- لماذا تركتموه يهرب ايّها الأغبياء.

- لم نعرف انّه سيتمكن من الهرب. ظنناه سيحترق في منزله.

- اخرس.

- .......

- انت، سوف أترك لك هذه المهمّة ... يجب أنْ تقتله، لقد أصبح قدرك منذ هذه اللحظة... سيزداد غضبي عليك أنْ لم تقتله.

- سأقتله حتما يا جدي.

- هيّا ... اغربوا عن وجهي.

(3)

- هل وجدته؟

- لم أجده.

- يجب أنْ تجده.

- ويجب أنْ أقتله.

- ولكن متى؟

- لا أدري.

- مضت سنين طويلة وأنت تبحث عنه.

- سأبقى أبحث عنه.

- الى متى؟

- حتى أجده.

- وإذا لم تجده؟

- سيزداد غضب جدي عليّ.

- اتمنى أنْ تجده في أقرب وقت.

- أريد أنْ أنهي هذه المهمّة وأتفرغ لحياتي التي نسيت تفاصيلها.

- لقد نسيت كل حياتك، صرتَ فظّاً غليظاً منذ أنْ غضب عليك جدي.

- يجب أنْ أجده .... يجب .... يجب أنْ أقتله.

- أصبح حجراً يعرقل صفو حياتك.

- انّه قدري.

- لماذا أنت من اختاره جدي ولم يختر أيّاً منّا.

- لا أعرف.

- ربما لأنك أشجعنا.

- لا أعرف.

- ومن يعرف.

- هو وحده من يعرف.

(4)

عندما اجتاز الطريق الطيني لم يكن ثمة صوت غير انهمار المطر غزيراً والرعد المتفجر كقذيفة مدفع ثقيلة. قطرات ... قطرات تتساقط فوق رأسه ثم تنزلق الى الأرض المغسولة بالبرك الطينية. أقدامه تدوس الوحل منغرسة ثم يرفعها بصعوبة، وثمة عواء بعيد يمتد منخفضاً مع حفيف الريح وانهمار المطر ثم يرتفع بطيئاً فيعود منخفض. ارتعدت السماء، اُضيءَ البرق فجأة فأصبحت السماء نحاسية، انطفأ سريعاً، وعاد الظلام قاتماً.

بدد هدوء اللّيل صوت اطلاقات نارية ثقبت العتمة، سقط على أثرها متمرغاً بالوحل كاتماً صرخته. ابتلعه هدير الرّعد الصّاخب. انتشرت أمام وجهه بركة حمراء يشتتها المطر مثلما تشتت حياته التي أمضاها هارباً من قدره مختبئاً في القرى المجاورة (هناك بين الحاضر والماضي هوة عميقة جدا لا تتسع إلّا لجسدٍ واحدٍ هو الجسد الأكثر تمزقاً .... ولا تتسع إلّا للأبجدية الأكثر نزيفاً هي الأبجدية الصامتة ... لا تتسع لأكثر من فاجعة ...تتسع للفاجعة الأكثر اختراقاً للأرواح المعذبة الغارقة في الخطيئة). أحسّ بأنه يهوي في وادٍ سحيق. حرك يده بصعوبة باحثاً عن الجرح النازف، لم تجد أصابعه المرتجفة غير الدم المتدفق وملوحة الوحل الحارقة. حاول أنْ يحرك جسمه لكن هذا الطين لا يتركه يتحرك حركة واحدة. أصبح مشلولاً أشبه بالذبابة التي اصطادها العنكبوت بخيوطه المتشابكة. وأخيراً لم يبق سوى الألم والخوف من النهاية المجهولة. ربما يأتي الصباح مسرعا فينقذه المزارعون ... وربما لا يأتي أحد. ربما انتهى كل شيء وضاعت حياته سدى وربما لم تنته. ربما هذه ارادة جدّه المعتكف في صمته القاسي. وربما لم تكن ارادته. فكر بكل هذا ثم سقط رأسه ضارباً الوحل، الوحل الذي يملؤه الآن ويملئ ذاكرته الضعيفة مثلما يملئه الانتظار.

(5)

- أخيراً قتلته.

- ..............

- كنت شجاعا كما عهدتك .... الم يعرف جدي؟

- انه يعرف كل شيء.

- ولكن كيف وأين وجدته؟

- لم أجده.

- ماذا؟

- ولم أقتله؟

- ماذا؟

- لقد سمعت ما قلته.

- ولكن ... من قتله؟

- لا أدري.

- وماذا قلت لجدي؟

- قلت له الحقيقة.

- وماذا فعل لك؟

- بصق بوجهي.



مناف كاظم محسن
العراق – البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى