عبدالحفيظ بن جلولي - القصيدة الذّاكرة.. مقام الغياب رؤيا في “عطش الأنهار” (2)

(2)

هو هذا “عطش الأنهار”، عطش عبد الحميد شكيل إلى وجوه مرّت عبر القصيدة وعبر النص وعبر الطريق الذي سلكه إلى بيته والمقهى والمدرسة والحياة.
نصوص عبد الحميد شكيل في بعض مستواياتها تفرض على القارئ أن يجاريها حتى يستطيع أن ينفذ إلى مكنوناتها/مكنونات الشّاعر ذاته، لأنّه غير منفصل عن نصه، ولهذا فـ"الرؤيا" هي هذا التمازج ما بين الوقوف على عتبة النص والاستثمار في تدفق شفاف النص عبر تداعيات تحاول أن تؤثث مصطلحات القارئ بمعنى يسكن رؤيته الخاصة. عبر تجربة، نصوص عبد الحمد شكيل لا تكتفي فقط بعرض نفسها للقراءة، بل تجر القارئ إلى مباهجها المتخفية..
كل نص وعبد الحميد شكيل بأناقة وانخطاف..
https://www.raialyoum.com/%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9.../
5-.
صلاح الدين شروخ، هذا القادم من سوريا، جزائري الهوى والجنسية، يحضر عبر نوستالجيا شكيل إلى المعنى فيما درج عليه النص ووعته حكمة القول، من “الصّمت”، “الشجرة”، “الوردة”، “الغيم”… تكلم صلاح الدين من جوف الكلمات عبر “الوقت”: (يوهمنا بالتفرد، يوهمنا بالجدائل مسدلة، يوهمنا بالخطوات السعيدة، يوهمنا بالحياة..”. وَهْم الأشياء التي يقدّمها الوقت في المدى الوهمي للحياة، يعبث بنا أم يسلمنا إلى الرّغبة فينا ليتكلم ذلك المتخفي جملة لا نفهمها، ومنها نغدو أصواتا للرّيح تهبّ عاتية وتختفي ولا تترك سوى الخراب، نحن الخراب الذي يسجّله النص وتنبثق على جوانبه الحياة حزينة، الأسى الوجودي يلف العمر ويقدّم في النهاية “المزهرية”: (كم من باقات حللن بها، ولا واحدة.. قالت لها شكر !!..)، جحودنا أم جحود الحياة؟ هي مزهرية ونحن الأزهار، كلانا يلعب الدور بإتقان على مسرح الوجود، شكرا، تلك تكون في العبق(قصيدة) الذي تخلّفه الزّهرة في المزهرية.
6-
“لوركا”، أغنية الشّعراء الذين مازالهم يحبّون “غرناطة”، ويبكون كما بكى أبو عبد الله الصّغير: (كيف للوركا أن يفقه زفرة/أبي عبد الله الصغير على/ ربوة من أرض الأندلس..)، كلاهما عانى الفقد، لوركا لعب على أعصاب الديكتاتور فمات وفوق جسده نبتت وردة الحرية، وأبو عبد الله بكى على الوردة الأندلسية. ما زالت القصيدة تجوب بقاع العلاقات وتنسج بالتّاريخ صفة القعود حول مياه الشّعر المتلاطمة على ضفاف مساءات الكلمات، لم تنج حرائق شكيل من فقد “غرناطة” و”الوادي الكبير” الذي تغنّى به لوركا: (نهر الوادي الكبير/له صدف من العقيق الأحمر الصافي). غرناطة تعود متسللة من بكاء أبي عبد الله الصغير ومن موت لوركا برصاص الدّيكتاتور وصدى صوت شكيل (في أندلس الضياع..)، هكذا كتبها شكيل لأنّها أهملت صورة للوركا: (لوركا الغجري معجب بأشعار “ابن أبي ربيعة)، ذلك الخيط الرّفيع الذي يقذف بلوركا إلى بطن الصّحراء حين تكون شاعرة تماما كما لوركا. روح الشّعر حين تسري في الأشياء تجعل انتمائها طريقا نحو المتاه الأول الذي أنجب خيال العربي إذ يندفق صافيا في الإيقاع والقافية، لوركا يتدفّق في غنائيات غرناطة التي عرفت وكتمت سرّها الموسيقي حين رسم وجد الصّحراء “موشّحا” من خيال، من سكب ورد الموشّح هناك؟ من أغرى لوركا أن يكون أندلسيا؟ (لوركا.. يحب الأزجال../ طزاجة موسيقا “زرياب”).
7-
يقف مدهوشا بأناقة/غموض اللغة على مسرّات القصيدة، لم يمر “درويش”، فقط كانت “ريتا” عنوان الفجيعة: (ريتا الغجرية سفحت دم درويش على بحر المواويل)، ريتا كانت حلما، وواقعا وجرحا أيضا في مسار درويش، الاتصال لم يدم طويلا، اشتاقت هواها وعبرت فوق قلب درويش نحو المقصلة التي تنتظر عنق الـــ “فلسطين” وعنق “درويش”، لهذا يراها شكيل من بعيد، من خلف القصيدة الدرويشية: (ريتا وسمت درويش بطين العين، وهوت به إلى خم الخيال المستحيل)، هل منعت عنه الرّؤية حتى لم ير فيها سوى الحبيبة والخيال الذي جنّح بالقصيدة؟ أم تراها أعمت عينيه عن رؤية المسار نحو ذاتيهما المنفصلتين بالتاريخ والجغرافيا؟ ريتا جغرافيا لا تعرف شكل القدس التي يعرفها درويش: (ريتا دم الشعر على اسفلت حارات أورشليم)، هي القادمة من التّاريخ المسفوح على روايات “الغرب” الأخرى، لكنّها بداية كانت قبل الأشياء، وقبل أن يَعْلُقَ القلب في شرنقة الوطن، وقبل أن تسمّي “ريتا” حضور “درويش” “غربة” في “يبوس” التّاريخ: (لم تكن القصيدة، محض مصادفة على بحر الأمل، ولم تكن ريتا موعد الخيبة)، لكنّها تاليا كانت خيبة القلب وخيبة القصيدة.
يعود شكيل ليلتقي شاعرا على دروب الأفق/الشعر، وشوشات المعنى/الاستعارة تحفر في الكلمات كي تدين الصّمت وتستعيد أغصان الزيتون من عيون “ريتا”، امرأة داهمت قلب الشّاعر فأخذته غبطة القول في ذهول ما يحدث: (لا ريتا حفرت معنى القصيدة في كتاب الوقت)، ولأنّها كانت من جنس المفاجأة فأيضا: (.. ولا درويش وصف الأبدية كما يجب)، يلتقي شكيل بدرويش على حافة ما يمكن أن نؤوّله “الشك في الحب” لريتا، شكّك شكيل في “الأبدية”، طبعا أبدية الحب في شعر درويش في مرحلته الريتاوية.
8-
في موازين الشّجن الممزوج بالحب لا تطلع سوى صورة للأم، الذاكرة بدون وجه الأمومة لا تعتبر خزانة للألم/المحبة: (كلما أرى أمّي في المنام../تقول لي:/عليكم السلام../ أما زلتم تحبون الغابة../وتزرعون وطنا في الغمام..؟؟)، ينكشف المعادل الموضوعي للأم، المكان، صورة أخرى لها، الغابة والوطن، ولكي تتكرّس في الديمومة، جعلت القصيدة لها وجدانا في الأرض، وحلما في السماء، لتظل تلك الصورة كطيف يعبر فنراه ويتلاشى فتبقى صورته حلما نؤثث به فراغ التراب والجدار.
يتم الشّاعر، يتم القصيدة، حين تبحث عن الكلام، حين تعبر الكلمات ولا تجد معنى التمام، حينها تكون الأم: (الجميلة/المليحة/والتمام). في واحة اللغة/الوهم، يجري الشاعر بعيدا، ما بعد غابة التيه، وغمام الرؤية، يسدل على الوطن ستار الدمع ولون العينين حين لا تبصران سوى الأم/الوطن.
9-
“غسان كنفاني”، النص الذي تشعره يزحزح ويدفع شيئا ثقيلا غير مرغوب فيه: (كان على الموت أن يأتي متأخرا..)، وتساوِق القراءة هذه الحركة النصية لأن اكتشاف موضوعة الإرجاء والإبعاء تمثل المشترك الجمالي بين التورّط المقولي والتلقياتي: (لتشرق شمس المحبة، والأمل، والمستقبل،/الذي في عيون أطفال المخيم..).
إذ ننغمس في فيض النص، تشرق الكتابة كبيان للحب والجنون وأعراف الرّفض ضد “القتلة” الماجنون الذين سكبوا “أورام الموت” على صفاء “الخيال”، غرّبوا الكلمة خلف جدران الرصاص وأمعنوا في الإطلاق. وابل الرصاص لم يحل بين الأطفال “وأناشيد الوداع الأخير”. غسان كنفاني، لحظة شروق شمس الدم من خلف الشّمس الهاربة في مرايا الشهيد/النص الذي يزاول إغراءه بعد كل هذا الزمن الغارق في التفاهة بعيدا عن أطفال المخيم الصّارخين: (نحن ورثة الكتابة، ومجد الحياة !!..).
إدوارد سعيد: (لفلسطين معنى السياق الكبير، وفتنة الورد على شرفات بحر القيامة). لا كتابة تعلو فوق الإسم الموثق برسم “وطن”، تلك الكتابة التي أشعل قيامتها سعيد المسمّى إدوارد، الغريب في اسمه عن ذاته، هل ندرك قيمة الورد حين القيامة؟. “إدوارد” يستل من غربته شكل “العنف” الدائر في مشتلة “الفكر” منافحا عن ورد “حيفا”، الذات التي “خارج المكان”: (في “خارج المكان” رسمت سيرة التراب..). في المقاطع نسق الاستدعاء لا من موت فيزيقي أكيد ولكن من موت للتاريخ في معنى أيامنا التي لا تلد ولا تكشف عن “روح” فقدناها وغابت مع أرض “يبوس” تلك التي سمّاها الكنعانيون “فلستة”. للقصيدة حين تمتلك روح الشّعر منارة التّاريخ وسطوة إدوارد سعيد حين يخرج وحيدا من شقوق النص لمجابهة نص “التراب”، الحيرة التي تتداول بين المعنى وما نلمسه بين أصابعنا، أو كيف نقرأ الملموس في عالم المجرّد: (كيف تخرج من طيف الكتابة، لتذهب إلى خطوط الطول..).
10-
ابن زيدون: العودة إلى تاريخ الشّعر، ليست مجانية، يتأوّه عميقا شكيل كلّما طرق بابا للتّاريخ ترقد عند عتبته قصيدة، يرسم عند هذا المدخل لوحة تعكس الرّاهن بكل تشوّهاته وانكساراته، كانكسار وجدان ابن زيدون عند مداخل عيون ولادة: (أخلفت ولادة وعدها، وانسابت في طواسين اللغة.. ورمته في شعر المعنى، وتوريات النص المكسور.. !!)، ولادة ليست سوى النص الذي أخلفناه في تاريخ انزياحنا عن اشراقات المعنى في الكينونة العربية العارفة، ليست ولادة النص الذي ننتجه، إنّه مأمول لنص يختفي خلف التّاريخ الكثيف الذي يعرّي اللغة ويمعن في “طواسينها” حين نبلغ المدى في “المأساة”.
11-
مريد البرغوثي.. يعلق شكيل أفق القصيدة على وتد القافية السياسية لكنّه يجرّ عربة المعنى كي لا تستسلم لوضوح الكلمات التي لها معنى في القاموس وفي مجالات الدرس وقاعات المحاضرات الأولى في اللغة التي تعلن عن اسمها. يكتب مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة بدون أسماء، لكن ينحت لهما مسارا في الهوية، هوية الشتات و “إشارات الكتاب الأخير”: (لا وادي عربة كان الممر..)، ليست الانتكاسات علامات تبقى، الأمكنة حمّالة أمل، و”العبور” بابٌ في القصيدة القادمة. “القاهرة” هناك حطّ قلبه الدّافئ، مريد “يغني لمساءاتها” كي تختفي القصيدة ويتردّد في الكلام صدى الرّواية في أشجان “رضوى”.
12-
سعدي يوسف، لا موت يقهر الشّعر، فقط تنام اللغة على كفّ النّهاية لتسلم المعنى إلى بداية جديدة. سعدي يشتاقه شكيل، فتلد اللغة منحنياتها بين “حمدان” هناك في الأقاصي حيث التّاريخ بدأ بنشوةٍ من “بابل” وبدأ القدوم: (لا فجر سيرى ظلك بعد اليوم). من النهاية يبدأ سعدي ويبتغي شكيل هذه المقامة كي يؤبّن الشاعر إلى الحياة.. إلى حيث يبقى وتتوزع جذوره بين المنافي والمدن التي جعلها على أبواب القصائد: (ربحك الموت وخسرتك القصائد والمدن). سؤال شكيل عميق، ماذا يقول سعدي لو أتيح له أن يعيش الموت: (سقط الطير الجميل)، هل نموت أم نحن فقط نعيش الموت؟ ذلك ما تقوله القصيدة. إذ يرحل الشّعراء وتموت النّغمة اللغوية في حنجرة القراءة الجهورية للقصيدة، لا يموت بالضرورة النص الذي يبدأ الموت بالحياة ويرقّص الحروف على أشكال الكلمات. إذ يلتقي هناك يوسف بدرويش وتتكلم المدن التي صاغها سعدي كلمات وقصائد، لا معنى للمنفى إذ يحب الشّعراء المدن، تغرب شمس الوطن لتشرق أوطان أخرى. على حافّة الموت تنمو “بلعباس” و”حمدان” و”باريس” ويستمر الشّعر بين درويش وسعدي بنباهة وانتباه إلى شعراء العالم رفقاء اللغة في دهاليز التأويل: (لا شعر في مطويات “قسطنطين كفافيس”/ولا أهازيج في ألواح “يانيس ريتسوس”/ربطت خيط البرق بـ “درويش”/ كتبتما نص النهاية والرحيل !!..).
13-
يحبك شكيل عقدة الحكاية الشّعرية بإحالتها إلى “تشيلي”، أين قال “بابلو نيرودا” قصيدته الأخيرة وضحك في وجه “الديكتاتور الأشقر”. يبحث شكيل عن علاقة تجعل كينونة ما في العالم تدرك شكل الخفّة التي ألبسها نيرودا ذاك “المستبد المسكين” في تشيلي، أو “يغني في سقف قبعة بابلو نيرودا”، ترسم القصيدة شكل الحزن كأنّما هو ابتسامة على شفاه اللغة وهي تمارس مشاكسات “نيرودا” لتمنع “اغتيال زرقة البحر/ وهو يستعد لزفاف الزبد”.
14-
مغامرة القراءة في عالم شكيل شبيهة بمحاولة قاتلة للإمساك بالمعنى داخل متاهة صد عنيف، تجربة شكيل الشّعرية تمثل البيان الواعي بمهمّة الكتابة حين لا يبقى في العالم سوى الكلمة، تلك التي لا تحتاج إلى كرّاسة أو صوت، بل احتياجها إلى نباهة تتحوّل كرّاسة وصوت يكشف وجه الجمال كما القبح في العالم الذي لا يستفيد في النّهاية سواه مما في الشّعر من نبل وريادة.


1672484073048.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى