كرة القدم شهلا العجيلي - قراءة ثقافية لكرة القدم في ضوء البعد الكولونيالي.. البحارة الإنجليز بدأوها بوصفها لعبة استعمارية ثم انتقلت إلى سلطة الفيفا

يبدو تاريخ كرة القدم تاريخاً استعمارياً بجلاء، فقد بدأت اللعبة مرافقة للبعثات الاقتصادية الاستعمارية لصاحبة الجلالة منذ القرن التاسع عشر، إذ مارس هذه اللعبة البحارة الإنجليز بوصفها لعبة إنجليزية، مثلما مارسها مجتمع الكولونيالية من دبلوماسيين، وموظفين في المؤسسات الاستعمارية كسكك الحديد، ومنشآت استخراج الغاز، وهؤلاء هم الذين شكلوا أولى فرق كرة القدم المحلية في أميركا اللاتينية، حيث بدأ أهل البلاد أو السكان الأصليون يقلدون مستعمريهم في لعب كرة القدم، فالمستعمر يحاكي المستعمر، وفق عمليات التملق الثقافي، أو وفق عمليات دفاعية أخرى مثل الاستحواذ والإزاحة والتثبيت.

تمريرات المستعمر والمستعمر

لا شك في أن الجغرافيا المتاحة ستضع بصمتها على التقنيات، فكرة القدم التي ستلعب في حقول ممتدة في ليفربول أو في السهول المحيطة بمانشستر، سيختلف تكنيكها عن تلك التي سيلعبها البحارة الإنجليز حول أرصفة الموانئ، وفي الدروب القريبة وقت استراحتهم، بعد أن يفرغوا حمولات سفنهم من المواد المصنعة، ليعبئوها من جديد بالمواد الخام التي تكون عصب اقتصادهم الرأسمالي الاستعماري، كما سيختلف عن تكنيك اللاعبين المحليين الذين سيقلدون الإنجليز ضمن حاراتهم الضيقة التي لا تكاد تتسع لمرور البشر والدواب معاً. هناك سنجد التمريرات الطويلة في فضاءات شاسعة حيث تولى الأهمية لسرعة اللاعب في الركض، ولتوزيع كتل الأجساد على المساحات، وهنا سنجد التمريرات القصيرة والخفة في تخليص الكرة من بين أقدام العابرين من بشر وحيوانات، وبين هذا وذاك لا يغيب عن اللعب جوهر العلاقة بين الطرفين، أي محاكاة الآخر القوي والاستحواذ على خصائصه والتفوق عليها لصناعة تقاليد جديدة.

لم تكن أوائل مباريات كرة القدم في بيونس آيرس أو ساوباولو بين فرق محلية أرجنتينية أو برازيلية، أو بين راقصي التانغو وراقصي السامبا كما قدمهم في ما بعد الخطاب الثقافي للظاهرة، بل كان بين فريق المواطنين الإنجليز الذين يعملون في شركة الغاز وفريق المواطنين الإنجليز الذين يعملون في سكك الحديد، وذلك في ساوباولو وتحت رعاية الملكة فيكتوريا عام 1892. قبلها جرت أول مباراة سميت بالدولية في الأوروغواي، لكنها كانت بين إنجليزيي بيونس آيرس وإنجليزيي مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي في عام 1889، وأيضاً تحت رعاية صاحبة الجلالة، ولا يزال فريق مونتيفيديو لكرة القدم الذي أسس بشكل رسمي في ظل تلك الرعاية عام 1899 يلعب في الدوري الأوروغواياني الممتاز، وقد صار اسمه ناسيونال مونتيفيديو تأكيداً للمفارقة الكولونيالية التي تتضمن إشارة إلى علاقة الاستعمار بتشكيل الهوية الوطنية.

خضعت كرة القدم لتجاذبات ما بعد الكولونيالية وما أفرزته من موتيفات ثقافية تحولت إلى جماليات، فالظاهرة الجمالية التي تخرج من أسر النخبة الكانطية ليست مثالية على الإطلاق، بل هي ظاهرة دينية وطائفية وطبقية ووطنية وقومية، لذا مع انتهاء عصر الكولونياليات التقليدية مطلع القرن العشرين "ينتهي الاحتكار البريطاني لكرة القدم" كما يقول إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل"، ويولد "فيفا" في عام 1904 ليكون المرجع الشرعي لتنظيم العلاقة بين الكرة والعالم. تظهر هنا علاقة اللعبة بمفرزات الكولونيالية التي سميناها موتيفات ما بعد الكولونيالية، لا سيما في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث تغيرت خريطة العالم، لا بالتحالفات فحسب، بل بالحدود الجيوسياسية أيضاً، فصارت كرة القدم عاملاً من عوامل الحشد السياسي (الوطني - القومي)، وصار الوجه الجمالي للعبة في خدمة الوجه السياسي، الذي لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ولعل أهم تمثيل لذلك الشقاق التاريخي يظهر بين ناديي ريال مدريد الذي يمثل الفريق الرسمي لديكتاتورية فرانكو، ويبيض صورتها أينما حل، وفريق المضطهدين من قبل فرانكو، أي فريق إقليم كتالونيا المعروف ببرشلونة، أو برسا بالكتلانية، الذي تحول بسبب الدوافع العرقية السياسية من هامش إلى متن، فالتهميش مصدر لا يضاهى من مصادر الطاقة الإبداعية. ولمع في الوقت ذاته فريق آخر للخارجين على السلطة الرسمية في إسبانيا الثلاثينيات هو فريق الباسك، الذي ما زال غير معترف به في "فيفا"، ولا في الاتحاد الأوروبي بسبب قضية الإقليم السياسية، لذلك لا يعد من فرق الكلاسيكو.

الموهبة ضحية للهوية

انتقل ذلك الصراع السياسي من أرض الملعب إلى الجمهور، فعد القادة السياسيون جمهور المدرجات هو ذاته جمهور الانتخابات والتحالفات السياسية، ومنهم هتلر وموسوليني، وسنجد إلى اليوم أن ثمناً باهظاً يدفعه أولئك اللاعبون الذين ينتمون إلى دول مغضوب عليها من المجتمع الدولي الذي تقوده أوروبا، ويلعبون في أندية تابعة لدول أخرى، كما فعلت فرنسا حين أقصت لاعبيها الجزائريين عن أنديتها الاحترافية حين مثلوا منتخب الجزائر في مرحلة الاستقلال عام 1952، وفي مثل تلك الحوادث يقف "فيفا" دائماً مع الأقوى أي مع المستعمر.

صار تسييس اللعبة جزءاً بنيوياً منها، إذ فقدت براءتها منذ ولادتها، وتحولت إلى حالة (طباقية) للعلاقة بين المستعمر والمستعمر، ولتمثلاتها: الذات (الوطن) والآخر (العدو)، أو تشجيعنا حلفاءنا أمام عدم تشجيعنا حلفاء أعدائنا، أو لفصم الفريق الوطني ذاته، حين يصير رمزاً للسلطة الحاكمة لا الوطن، من قبل المعارضة التي تخون كل ما تمسه السلطة بعصاها طوعاً أو كرهاً، يقود ذلك إلى الاغتيال المعنوي للاعبين، الذين يتمزق وجودهم مرة أخرى لحظة المفاضلة بين مصلحتهم في النجومية، والاحتراف وقيد الهوية والتخوين، كما حدث في 2012 مع لاعب المنتخب السوري عمر السومة، الذي لعب أيضاً مع القادسية الكويتي والأهلي السعودي والنادي العربي القطري. تصبح معضلة الهوية أعقد في الحالة العربية حيث لا يكف الإخوة الأعداء عن النشاط، نتذكر هنا اللاعب العراقي بسام الراوي الذي طلب الانضمام للمنتخب العراقي، لكن طلبه قوبل بالرفض بسبب عدم امتلاكه المستوى الفني المطلوب، فلعب مع المنتخب القطري، وأثار سخط الجمهور العراقي عندما سجل في بطولة "خليجي 24" هدفه في مرمى بلاده فأقصى فريقها من البطولة. يحدث ذلك أيضاً مع اللاعبين الذين ينشأون في المنافي ويرتادون أنديتها ويشقون مستقبلهم فيها، حالمين بالانضمام إلى منتخباتها الوطنية، ثم تستدعيهم اتحادات كرة القدم في موطنهم الأصلي، فيعتذرون بسبب حواجز ليس أصعبها حاجز اللغة، كما حصل مع السوري محمود داوود الذي كبر في ألمانيا، وانضم منذ صغره إلى نادي بروسيا دورتموند الألماني، واعتذر عن دعوة الاتحاد السوري لكرة القدم عام 2019 لضمه إلى المنتخب للعب على كأس آسيا. في السياق ذاته، أراد الأسطورة زين الدين زيدان، الجزائري الفرنسي، في عام 1994 تمثيل المنتخب الجزائري، في ذلك الوقت رفضه المدرب لإيقاعه البطيء، وكان ذلك تقويماً قاتلاً، لأنه في العام نفسه حصل زيدان على دعوة لتمثيل منتخب فرنسا، وقاده منذ ذلك الوقت إلى المجد.

براغماتية الجماهير

سنتأكد بانتقالنا إلى الجمهور في المدرجات، أن ليس ثمة تشجيع بلا سبب يتعلق بروابط براغماتية حتى لو كانت بعيدة الأواصر، وليس ثمة تشجيع ينتمي إلى نظرية اللعب لأجل اللعب، فاللذة الجمالية تبقى للنخبة الأفلاطونية أو وريثتها الكانطية. إن علل الانتماء الخاصة بكرة القدم متوالدة، فقد تتمظهر في الاصطفاف في معسكرات تتبع اللون والقارة، أو معسكرات أيديولوجية لها علاقة بتماثلات الدول اليسارية ضد أقطاب اليمين وتحالفاتها، إذ يؤازر الفقراء بعضهم بعضاً، ولن نتجاوز ذلك العداء الذي نشأ على أرصفة الموانئ، الذي جعل اللاتينيين يتأملون بحرقة الإنجليز وهم يلعبون على أرضهم. انسحب ذلك على تصنيفات الفرق في العالم، ولم تنج المونديالات المصاقبة للربيع العربي من تلك الاصطفافات، فمنتخبات الدول التي لعبت دوراً في دعم المعارضات السياسية في دول أخرى، تمنى بعداء من قبل جماهير الدول التي تعاني فوضى وحروباً خلقتها أنظمة تلك المنتخبات، وحين ينتصر الشعور القومي الذي يتعالى على العلاقة بين الأنظمة، تعود أصوات كثيرة متضررة للتذكير بذلك التاريخ القريب جداً، فتفسد متعة التشجيع العربي. نذكر في حالة التسييس الكروي أيضاً قرار "فيفا" الأخير في إقصاء روسيا عن كل نشاط رياضي أوروبي أو عالمي بعد حربها على أوكرانيا، بما في ذلك عن مشاركتها في مونديال 2022، وقد أدى إقصاؤها إلى تأهل بولندا.

تعيش في ذاكرة السوريين مباراة العراق وسوريا على بطولة كأس آسيا للشباب عام 1988 التي جرت في الدوحة، ولن تنسى الجماهير القرارات الجائرة والمتحيزة التي اتخذها الحكم الكويتي غازي الكندي في حق المنتخب السوري، لا سيما أنه كان بين النظامين السياسيين في العراق وسوريا ما صنع الحداد. ينطبق ذلك على الأندية المحلية التي تتبع الحسابات الطائفية والجهوية والانتماءات السياسية في كل دولة، فتكون ممثلة لأزمات الهوية والانقسامات الداخلية، حيث تلعب تلك التوازنات دوراً في تشكيلة المنتخب بدلاً من الموهبة، ليصير الأخير جزءاً من منظومة الفساد، لذا كثيراً ما تفشل هذه المنتخبات، ولا تحقق نتائج ذات بال.

الوجه الرأسمالي المتطرف للعبة

تحولت كرة القدم بشكل فاحش من رياضة استعملها عصر الدولة الوطنية إلى (بزنس) تديره شركات عابرة للقارات، أو متعددة الجنسية، يتحكم فيها حيتان عالم الأعمال، وكان إدواردو غاليانو قد أشار إلى أنه "كلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب". يصبح اللاعب الذي مثل في المرحلة السابقة نموذجاً جمالياً يحمل خصائص البطل الشعبي، مادة للإنتاج والتسويق، ويعيش تحت ضغط عاطفي واقتصادي كبير. إن رغبة اللاعب في صيانة سعره من الانخفاض في السوق تفقده الشجاعة لصالح التكنيك، وتجعله جسدياً وقيمياً طوع بنان المدرب والمدير الفني ومجموعة المستشارين والجمهور، ومن جانب آخر تخضع نجوميته الاجتماعية لعالم الإعلانات والعقود وتلفزيون الواقع، وتعيش أسرته أيضاً تحت ضغط مماثل، لعلنا نجده اليوم متمثلاً في عائلة النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو وصديقته الأرجنتينية جورجينا رودريغيز، صاحبة المسلسل الوثائقي الشهير على "نتفليكس" الذي يحكي قصتها، ومن قبلها لاحقت الضغوط حياة شاكيرا وبيكيه، وقبلهما ديفيد بيكهام وفيكتوريا، ومحمد صلاح وعائلته، وقد ارتبطوا جميعاً بعالم الأزياء والفن والمال.

شكلت كرة القدم، قبل الحقبة الرأسمالية الأخيرة التي خصخصت وسائل الإعلام، جزءاً مهماً من السياق الثقافي المشترك للشعوب العربية، إذ كانت البطولات الرياضية كلها تبث على التلفزيونات الرسمية بشكل مجاني، بدءاً من مباريات الدوري الوطني حتى المونديالات، التي تنقل عبر اتحاد إذاعات الدول العربية، وكانت في ذلك الزمان وسائل المتعة محدودة ومنظمة بتوقيت بدء البث وانتهائه، وقد حملت مواسم المونديال بهجة تتفق وإجازة الصيف لدى الأطفال والشباب الجامعي، مثلما شكل حضور المباريات طقساً أسرياً بيتياً، قبل انتشار ظاهرة الانتقال إلى المقاهي التي تبث المباريات عبر الاشتراكات الخاصة أو بطاقات فك التشفير، غير المتاح في البيوت غالباً.

شكل ذلك ذاكرة مشتركة لأجيال عربية، يعززها خطاب المعلق الرياضي المسند إليه تشكيل ذاكرة لغوية أيضاً، غنية بالمصطلحات والاستعارات، لا تتوافر في عصر الخصخصة الذي يصدر وهم الحرية، حيث تتعدد مصادر المعلومة، وتتنوع الاختيارات، لكن أجهزة تحكمها بيد كومبرادورات الاقتصاد، الذين يقومون ذاتهم بتسويق نجوم محددين، وإتاحة معلومات محددة وإخفاء غيرها. في ذلك الوقت عرف الجميع من غير احتكار كلاً من بيليه ومارادونا وميشيل بلاتيني ورود خولييت. وكانت الأسئلة الموجهة للأطفال في الجلسات العائلية تتضمن معرفة صاحب لقب الجوهرة السوداء (بيليه)، أو لقب الزنبقة الهولندية السوداء (خولييت) بجدائل شعره الأيقونية التي عززت نجوميته في مونديال إيطاليا 1990. يغني ذلك السياق الثقافي الخطاب اللغوي المفعم بالرموز الثقافية التاريخية والفنية لكل بلد، من ثقافة التانغو والسامبا إلى الطواحين والديوك والأسود والدببة والشياطين الحمر وأسود التيرانغا والفيلة والآزوري (الأزرق)، يرافق ذلك التمائم والصلوات والترنيمات والموسيقى والأناشيد الوطنية وهتافات المشجعين. كانت كرة القدم تلعب في الشوارع، فتجد في كل حارة أو ساحة أو خرابة أو شارعاً خلفياً رسماً لملعب بالحوار الأبيض، وربما احتجزت إحدى الجارات الكرة الساقطة على شرفتها أو في حديقتها، وقد تلقى معظم المشاة ضربة من كرة أثناء مرورهم في الشارع أو توقوها بحذر، قبل أن ينتقل اللاعبون إلى عالم كل شيء خاضع فيه للربح المادي، من استئجار الملاعب بالساعة، إلى المبالغات في احتكار نقل المباريات من قبل الفضائيات التي تتحكم فيها مؤسسات اقتصادية كبرى، إلى إتاحة المنابر لرفع شعارات محظورة، وتمرير الرسائل السياسية والدعائية. لقد صير العالم الحديث كرة القدم حصان طروادة الذي يصلح لحمل كل شيء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى