محمد محمود غدية - الإنتظار قليلا

آلاف النجمات تناثرت من قبة السماء جثثاً آفلة، مئات الحشرات الصغيرة تفترس روحها اللينة المقيمة داخل فقاعة كبيرة تعزلهما عمن حولهما، يتمتم بصوت متكسر متطقطق كأوراق شجر فى الخريف سائلاً الليل : لماذا أطال المكوث..؟ هل ضل الطريق لغيره وأنس عنده غاية..؟
لا تسمعه امرأته التى استلقى بجوارها كحطام سفينة قذفتها موجة عاتية نحو رمال شاطئ مجهول، تصغي لترانيم متناثرة تنبعث من ذاكرتها،
لم تعد لديها القدرة على أن تمنحه بعض الأجنحة القوية المعينة على التحليق بعد أن وهن العظم منها وتبددت تحويشة العمر، ذخيرة الأيام والصحبة رفقاء الزمن والأبناء، نور الأيام الحالكة فرحة الروح المتيبسة خضرة الروح وطراوتها، فراغ ممتد من الصمت وشتاءات بلا نهاية، كل شيء باهت تحيط به هالة من ضباب مصفر تعزلهما عمن حولهما،
يخذلهما الموت يترقبانه طويلاً
ولا يأتي..!!
إمتقع وجهه وغامت عيناه وبردت أطرافه وإرتعشت، يعلم أن لديه ذاكرة هرمة موبوءة بالصدأ وقلباً مثقوباً بأضغاث أحلام وحرقة إنتظار غائب لا يعود، لا أحد يطرق الأبواب الموصدة ولا أحد يشيع الدفء فى الجدران الباردة،
يلملم أشياءه المبعثرة وبقايا تذكاراته وعصاه نسي أن يوصد الباب خلفه، تغسله مدامع الأشجار التى تسكبها على طرقات الخريف، روح ضائعة تلهبها شجون الفراق ووحشة الطريق وقناديل الدموع النازفة، يخرج من معطفه تلغراف إبنته المهاجرة مع زوجها منذ سنوات خمس إلى كندا، تعتذر فيه عن عدم حضورها كما وعدته، لإنشغال الزوج في التحضير لرسالة الدكتوراه،
عيناه كانتا أشبه بجمرتين تتوهجان وتنطفئان، تباطأت الخطى مستسلماً لمناوشات الأفكار المتصارعة بعضها برقاب البعض، ولده الأكبر ضاقت به سبل العيش وإختار بلداً ساحلياً يبعد آلاف الكيلو مترات ليؤسس حياة أثمرت عن بنين وبنات لا يراهم، لا شيء غير كلمات مقتضبة متباعدة عبر الهاتف،
الضباب يتكاثف ويهبط على أشلاء البلد المبعثر، وقف مشدوهاً لاهثاً يخرج بخار الماء من فيه غزيراً.. تردد طويلاً في دخول المقهى،
لابد أن يعود إلى شريكة حياته التي لا تتناول الطعام دونه،
على نحو ما بدت أكثر إنحناء وهرماً وحزناً،
هبت رياح خفيفة حاملة رائحة عطرها الذى إستنشقه فانسابت بأعماقه، مخترقة قفصه الصدري مرطبة خياله،
يداعبه التعب ويترصده شبح الموت يتصبب عرقاً، تسقط عصاه من يده يسقط على الأرض، يتكوم فى وضع الجنين ببطن أمه ينساب الضوء من بين فتحات عينيه شحيحاً، تقفز فيهما صورة زوجته التى تنتظره خلف شرفتها العتيقة، يطلب من الموت الإنتظار قليلاً حتى يراها، تصافح وجهة الشمس الغاربة وهى تؤسس لوداع ما .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى