سعيد رفيع - واقعة إختفاء عودة الرشندي

في اليوم الأول امتقع وجهها ، واستباحت صفحته غلالة صفراء في لون الكركم ، ثم أطلقت صرخة مدوية ارتجت لها بيوت الرشندية ، وأخذت تدور في حوش البيت الترابي ، وهي تلطم كفيها وتدق على صدرها دقات متتابعة ، ثم سقطت مغشياً عليها .
وعندما قيل لها في اليوم الرابع أنهم لم يعثروا على الجثة ، غاضت الدموع من عينيها فجأة ، ثم أطلقت زغرودة طويلة .. طويلة .. وصاحت :
- عودة لم يغرق .. والله لم يغرق .. إنه الآن بين أحضان مزيونة . ثم أشهرت كفيها في وجه الرجال وقالت: لا تنصبوا سرادق العزاء ، ستطلق مزيونة سراح ولدي بعد عشرين عاماً .. أقسم لكم مزيونة لا تخلف موعدها أبداً .. هكذا حدثني أبي وجدي .. ثم تواصل سلمى حديثها مع النسوة فتقول أنها تعرف عن جنيات البحر أكثر مما تعرف عن جيرانها ، فلكل جزيرة في البحر جنية ، وجنية جزيرة الجفتون اسمها مزيونة ، سمعت ذلك مرارا من أبي وجدي ، ومزيونة هى أجمل جنيات البحر على الإطلاق بل وأكثرهن طيبة ، لأنها تختطف شاباً واحداً فقط كل عشرين عاماً ، تتزوجه ويعيش معها هانئاً ، ثم تعيده لأهله سليماً معافى .
ومزيونة ماكرة ، فهي تسخر في خدمتها النوارس وأسماك الحريد ، في البدء تجوب النوارس السماء فوق جزيرة جفتون ، فإن لمحت مركباً فى الأفق عادت وأبلغت مزيونة ، عندئذ تعطى مزيونة أوامرها لأسراب الحريد باستدراج المركب ، وتشرع أسراب الحريد في تنفيذ الأمر على الفور ، تتجمع الأسراب سريعاً أمام المركب وتكون قريبة من سطح الماء ، فتجذب انتباه الصيادين بألوانها الزاهية وزعانفها اللامعة ، حينئذ تبدأ المطاردة ، وتتحرك الأسراب صوب حافة جزيرة جفتون ، منطقة نفوذ مزيونة ، وعندما تتوغل المركب في منطقة النفوذ ، تلقي مزيونة بضفائرها ، وتجذب المركب رغماً عنها صوب الصخور حتى تتحطم ، وعندما يلقي الصيادون بأنفسهم في الماء ، تختار مزيونة أملحهم وأجملهم ، وتطبق عليه بخصلة واحدة فقط من ضفائرها ، ثم تجذبه إلى القاع .
اعتباراً من اليوم الرابع لم تذرف سلمى دمعة حزن واحدة ، فقط ظلت صامتة ، وإذا كانت سلمى قد صمتت فإن الرشندية لم يصمتوا ، إذ بدأت منذ ذلك الحين ثرثرات طويلة عن البحر وجنياته الطيبات منهن والشريرات .
بالنسبة لي ، لم أعش قط بمعزل عما يجري في نجع الرشندية ، ليس فقط لكوني من ساكنيه ، ولكن أيضاً لأن عودة نفسه كان من أصدقائي المقربين ، وكنت كثير التردد على منزله ، وكنت أبادل والدته مشاعر الود والمحبة لطيبتها وبشاشتها .
كانت الخالة سلمى تميل للقصر والنحافة بعض الشيء ، ذات جبهة عريضة تزدان بوشم أخضر على شكل مخرطة ، وكأغلب نساء الرشندية لم تكن الخالة سلمى ترتدي سوى الثوب الأسود والطرحة السوداء ، دائماً أبداً حتى فى الأعراس .
مات زوجها وكان عودة لم يزل طفلاً صغيراً ، وعندما اختفى لم يتبق لها سوى ابنتها فاطمة المتزوجة في ذات النجع .
لم أنقطع قط عن زيارة الخالة سلمى ، خاصة في الأعياد والمناسبات الدينية ، وطوال عشرين عاماً كانت المرأة متشبثة بأن ولدها لا يزال على قيد الحياة ، بل ويعيش هانئا بين أحضان مزيونة جنية الجفتون ، ربما لهذا السبب توقفت المرأة عن البكاء منذ اليوم الرابع من اختفاء ولدها .
كان الحديث عن الجنيات هو الحديث المفضل لدى الخالة سلمى ، وكان على الزائر لها أن يجاريها ويصدقها في كل ما تقول ، وهذا هو ما كنت أفعله بالضبط ، بل إنني ذهبت لأكثر من ذلك عندما كنت أختلق لها بعض الحكايات التي أزعم أنني قرأتها مؤخراً في الكتب أو الجرائد ، وكانت المرأة تسعد بها كثيراً ، وتسعد أكثر عندما أؤكد لها أن عودة راجع لا محالة ، وبقدر ما كانت تسعد بذلك بقدر ما كان الحزن يتملكها عندما يفصح لها البعض عن استخفافهم أو سأمهم من حكاياتها المكررة .
تقول الخالة سلمى أن عودة خرج من المنزل في الساعة العاشرة من صباح العاشر من شعبان ، وكان عمره خمسة وعشرون عاماً ، وطبقاً لما دأبت عليه مزيونة فإنها ستعيده إلى أهله في تمام الساعة العاشرة من صباح العاشر من شعبان الذي يأتي بعد عشرين عاما ، وسيكون عمره حينئذ خمسة وأربعين عاماً ، تقول الخالة سلمى ذلك بثقة شديدة ، بل وتطلب من الله أن يطيل عمرها حتى تكون بانتظاره في ذلك اليوم .
ذات مساء أرسلت الخالة سلمى من يذكرني بأن اليوم التالي يوافق العاشر من شعبان الموعد الذي ستطلق فيه مزيونة سراح عودة في العاشرة صباحاً ، إذ مضت عشرون سنة بالتمام والكمال منذ اختفائه ، والحق أنني ترددت كثيراً في تلبية الدعوة ، ثم استقر عزمي في النهاية على الذهاب وذهبت بالفعل .
حين بلغت الدار كان هناك صبي من أبناء الجيران يرش الأرض بالماء ، وكان هناك خروف كبير مربوط في وتد ، بينما قبعت الخالة سلمى أمام البيت ، وقد بدت لي شديدة الضمور ، كما بدا ظهرها أكثر انحناء ، ووجهها أكثر سمرة عن ذي قبل ، وأوشك الوشم الذي يزين جبهتها أن يتلاشى ، بعد أن طمست معالمه تحت وطأة التجاعيد العميقة .
كانت الخالة سلمى ترتدي ثوباً جديداً لامعاً ، وتفوح منها رائحة عطرية طيبة ، وكانت كفاها مخضبتين بالحناء ، وإلى جوارها جلست امرأة متوسطة العمر عرفت فيها فاطمة شقيقة عودة ، وفي منتصف الحصيرة تماما جلس شاب ممسكاً بالسمسمية ومستغرقاً في العزف ، وعلى حصيرة أخرى مقابلة جلست بعض النسوة والأطفال ، كما جلس بعض الرجال على مقربة يراقبون ما يجري .
كانت الساعة العاشرة إلا ربعاً تقريباً عندما نهضت الخالة سلمى من جلستها ، مستندة براحتها على كتف ابنتها ، ومطت رقبتها متطلعة إلى مدخل النجع من ناحية الشرق ، وفي تمام الساعة العاشرة ظهر رجل عند مدخل النجع الشرقي ، ظهر فجأة وكأنما هبط من السماء ، كان الرجل يسير حثيثاً في اتجاهنا ، وهو يتلفت في جميع الاتجاهات ، وعندما اقترب عرفت فيه كهلاً في نحو الخامسة والأربعين ، ولما صار أكثر قربا أومأت إلينا الخالة سلمى فنهضت ، ونهضت النساء جميعاً وبعض الرجال ، وإن ظل البعض الآخر جالساً كأن شيئا لم يحدث .
عندما أصبح الرجل أمامنا مباشرة عركت الخالة سلمى عينيها ، ثم أطلقت زغرودة طويلة .. طويلة جدا.. فتوقف الرجل على الفور ، وتقدمت الخالة سلمى لتتجمد أمامه كتمثال من الحجر ، بينما وقف الرجل متسمراً ومثبتا عينيه في وجهها .
أمسكت الخالة سلمى براحتي الرجل الذي بدا مستغربا تماماً ، فراحت تتفرس في وجهه ، ثم حانت منها التفاتة لإبنتها فاطمة وبادرتها قائلة :
- انظري .. أليس هذا هو أخوك عودة ؟
كانت بيوت الرشندية قد أفرغت كل ما بجوفها على صوت الزغاريد وتحلق حولنا عدد كبير من النساء والأطفال والرجال ، وكنت لا أزال أتفرس في وجه الرجل عندما بادرتني الخالة سلمى بنفس السؤال :
- انظر .. أليس هذا هو صاحبك عودة؟
ودون أن تنتظر مني رداً أو تعقيباً ، تلفتت صوب الحزام البشري الذي أطبق علينا من كل صوب .. ثم اعتصرت وجهها .. وصاحت بصوت متشنج :
- ألم أقل لكم أن ولدي سيرجع؟ .. قالتها .. ثم ألقت برأسها على صدر الرجل .. وطفقت تبكي .. وسط نظرات الشفقة من الحاضرين .


سعيد رفيع

١ - الرشندية : قبيلة عربية في الغردقة يعمل أغلب أبنائها بالصيد .
٢ - الحريد : نوع من الأسماك يكثر في البحر الأحمر .
٣ - النوارس : طيور بحرية تتغذى على الأسماك الصغيرة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى