قشور ولباب

قشور ولباب
قصة قصيرة :
بقلم محمد محمود غدية / مصر

كومة من الأوراق فى دوسيه مهترىء لا يتخلي عنه، تعرفه قاعات المؤتمرات والندوات والمقاهي الثقافية، تختبئ عيناه خلف عدسات زجاجية سميكة، ملبسه بسيط هندامه غير متأنق، لا يغير من هيئته وشعره غير المصفوف، يبدو وكأنه شاعر فاشل، يحمل بين جنباته قلب نصف فارغ، ونافذة يطل منها على الدنيا وبقايا أحلام لم تكتمل، أضاف الهم عشرة أعوام فوق أعوامه الخمسين، يسكن حجرة خالية من الأثاث، إلا من مقعد مهترئ ومنضدة هى فى الأصل مقعد دون مسند، ملابسه معلقة على مسامير بالحائط، الذي رسمت به الشروخ خريطة غير مقروءة، ينام فوق مرتبة تفترش الأرض، جوار كتب متناثرة هنا وهناك، لم يكن وحيداً فى الغرفة وإنما تشاركه الجرذان والحشرات التى آلف العيش معها، والتي كثيراً ما تتركه يعانى الوحدة، حين لا تجد ما تقاسمه من طعام، إحدي النساء شكت يوماً لعمر بن الخطاب : أن بيتها لا تدخله الجرذان، فهم عمر مراد المرأة وتبسم لفصاحتها قائلاً لأصحابه: أعطوها زيتا ودقيقا وشعيرا،
لديه فاترينة زجاجية على عجلات أربع يبيع من خلالها العطور الرخيصة وأعواد البخور فى إحدى الشوارع المؤدية إلي مقام السيدة زينب، منذ نعومة أظفاره وهو يهوي القراءة والكتابة، التي لم يقرأها أحد بعد ..!! يحلم أن يكتشف أحدهم موهبته وهذا سر تردده على الندوات والمقاهي،
حتى جائته الفرصة من أحد لصوص السطو على أفكار وإبداعات الآخرين، ما أكثر سرقات الرسائل العلمية فى الجامعات، حتى الساخر الماسخ باسم يوسف كان هناك من يكتب له المقالات في الصحف لقاء أجر، وكأنها من بنات أفكاره، حتي برنامجه البرنامج نسخة مقلدة من برنامج أجنبي، المدهش فى الأمر أن صغار اللصوص يدخلون السجن وكبارهم يدخلون التاريخ،
أخذ اللص يقرأ واحدة من روايات بائع العطور الذى يمتلك القدرة على السرد، واللغة القوية والسلسة والمترابطة، إن أروع الجرار تصنع من الطين العادي، إنه أمام مثقف واعٍ صدمته صخور الأيام، فصقلته الحياة ليست بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم، البؤس كان المحفز المنبه النشط لديه للكتابة، لقد وقع اللص على صيد ثمين، إنه صياد نصوص يرتاد المقاهى والندوات وغابات الكلمات، حتى يعثر على الطريدة المباغتة، والتى لا تليق بصياد أحب الصيد أكثر مما أحب الطرائد، يريد الشهرة ولا يكتفى بكونه رئيساً لمجلس إدارة واحدة من كبريات الصحف، عرض على بائع العطور مبلغا من المال يسيل له اللعاب، مقابل روايته والتى لم يتردد على الفور في الموافقة، وبعد شهرين ذهب لحضور حفل توقيع الرواية فى إحدي دور النشر، اللص يجلس فى الصدارة ممتلئا بالزهو والفخر، تزين معصمه ساعة ذهبية فاخرة، وهو يوقع الرواية التي لم يغير فيها حرفا أو كلمة حتى العنوان لم يغيره، الشيء الوحيد الذي تغير هو المؤلف الوهمي السارق مجهودات وفكر غيره بثمن بخس،
فجأة وجد أمامه بائع العطور وهو يدفع إليه بالرواية لكتابة الإهداء والتوقيع وإحتار ماذا يكتب ..؟!
توقف بعض الوقت
ليكتب : الكلمة سحر لا يتقنها غير الصادقون .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى