د. علي زين العابدين الحسيني - مدينة المنصورة... صناعة التاريخ وبوابة الثقافة

يرتبط الإبداع ارتباطاً وثيقاً بالمكان، فلا علاقة للأدب دون ارتباطه بالأمكنة، سواء كان المكان مدينة أو مسقط الولادة "القرية"، فتلك الأمكنة على اختلافها تشكل للمبدعين شخصياتهم، ويبقى أن ارتباط المبدع بالمكان هو مصدر الإلهام الروحي والحقيقي لأريج القلم.
ومدينتنا "المنصورة" عروس النيل هي مدينة السحر والجمال والأدب والثقافة، غنية بمناظرها الطبيعية التي ساهمت في خلقها مياه النيل، وعلى أرضها نشأ كثير من المثقفين والأدباء والمفكرين، وكان الكاتب الكبير الأستاذ أنيس منصور يفتخر ويشيد ويستشهد بها كثيراً في مقالاته، فيذكر أنها "البلد الذي عرَف القراءة والكتاب أكثر من أي بلد آخر في مصر"، وأنها "عاصمة الطب والعلاج"، و"ليس (لها) نظير في عدد المستشفيات وعدد المرضى من مصر والبلد العربية ومعاهد البحث، وبها العدد الكثير من كبار الأطباء"، ونشأ بها "بناة المصانع والقرى السياحية والأكاديميات".
إنّ "المنصورة" لم تحتل من التاريخ الثقافي في "مصر" والوطن العربي هذا المحل الأوسع لأنها عروس النيل، وبلد الجمال والسحر، وإنما ملأت الدنيا خبراً، وشغلت صحائف الدهر ردحاً من الزمن؛ لأنها كانت جزءاً هاماً من التاريخ الإسلامي، وسجلًا حافلًا من تاريخ المقاومة والأصالة العربية، وتقف فيها الحضارات الإنسانية جنباً إلى جنب لتصنع منها ثوب ريادتها الثقافية، ولا تزال عنواناً للمعرفة، ورمزاً للثقافة، ومناراً للتعليم، ومصدر إلهام كثير من الأدباء والشعراء والمثقفين، ومنها صفوة الكبار من أدباء وشعراء ومفكري "مصر" ونوابغ الفنون والعلوم.
لستُ بصدد عرض تقييمي عن أداء الحركة الثقافية بالمنصورة، فالأمر لا يعدو أن يكون حالة من الرصد الإجمالي للعطاء المتدفق الذي لا ينتهي، وليس بإمكاني أيضًا أن أتجاهل أو أتغافل عن الكثير من المنتديات الثقافية والأمسيات الأدبية التي شهدتها هذه المدينة "بوابة مصر الثقافية" في القرن الماضي، ففي ذكرى أستاذ الجيل "أحمد لطفي السيد" الأولى كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان في مجلة "الرسالة" سنة 1964م مقالًا عن حضور كوكبة من روّاد مصر ذكرى أستاذ الجيل بالمنصورة؛ بناء على دعوة وجهت إليهم، وممن حضر من أساتذة الأدب والفكر والفلسفة: محمد عوض محمد، وبنت الشاطئ، وأحمد فؤاد الأهواني، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد الشرباصي، وعثمان أمين، ومحمد مظهر سعيد، والسعيد مصطفى السعيد، ومحمد زكي عبد القادر، وعبد اللطيف حمزة، وحسين فوزي النجار، ومحمد جميل غازي، هذا بخلاف الكلمات التي كتبها أصحابها في حفل تأبين الفقيد ولم يحضروا لظروفهم الخاصة؛ كطه حسين، وأحمد حسن الزيات.
ويصف الأستاذ عامر محمد بحيري على صفحات مجلة "الثقافة" سنة 1965م الحالة الثقافية لمدينة المنصورة في مقاله "في مهرجان المنصورة"، حيث شهدت المنصورة -كعادتها- مهرجانًا ثقافيًا لعدة أيام، حضره من كبار الشعراء: أحمد رامي، وصالح جودت، وطاهر الجبلاوي، وعبد الله المبارك، وإبراهيم عيسى، ومحمود حسن إسماعيل، وعبده بدوي، ومحمد الجيار، ومن رجال الفكر والأدب: محمد الغزالي السقا، ولويس عوض، وبنت الشاطئ، ومحمد زكي عبد القادر، ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد القادر القط، ورجاء النقاش، وأحمد كمال زكي، ودارت بين هؤلاء الكثير من المعارك الحوارية والنقاشية في قضايا مجتمعية مختلفة آنذاك.
وعلى شاطئ المنصورة التقى أربعة من الشعراء الكبار في حقبة زمنية واحدة، فعقد الشاطئ والشعر بينهم حلفًا أنيقًا عجيبًا، ونوعاً من أنواع الصداقة العزيزة، وهم: إبراهيم ناجي، وصالح جودت، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وعلي محمود طه، ويصف صالح جودت في مقاله "شعراء المنصورة" بمجلة الرسالة أجواءهم الثقافية في قوله: "كان وجه الحياة في المنصورة يومئذٍ ضاحكاً مشرقاً، فمعهد الموسيقى بالمدينة مزدهر، وحياة الليل على طول مقاهي الشاطئ ممتدة، زاخرة بالرقص والغناء، وأسباب العيش رخية سخية، وأهل المدينة بطبيعتهم محبون للأدب والفن، في رجالهم ظرف وذكاء، وفي نسائهم رقة وشاعرية".
وقد يكفي لإدراك أهمية هذه المدينة من النواحي الثقافية والمعرفية أن نعرف أنها الموطن الروحي لكثير من روّاد الأدب المعاصرين، فبأجوائها عاشوا، وبأدبها تثقفوا، وبأمجادها افتخروا، ولعلّ إيراد جميع النابغين الذين خرجوا منها يخرج بنا عن المقصود، وهو مما لا يحتمله مقال مختصر حددت له عدد صفحات، لكن أورد هنا اثنين من كبار الكُتّاب والأدباء المعاصرين الذين عاشوا في المنصورة، وكانت لهم جهود معرفية كبيرة، ولهم آثار واضحة على كل مَن جاء بعدهم، ولعلّ إيرادهما على هذا النحو يرجع إلى أنهما ينتميان إلى مدرسة أدبية واحدة، ويعد الأول منهما أستاذاً للآخر، وهما:
الأول: الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات مؤسس مجلة "الرسالة"، خريج مدينة المنصورة، بلد الشعر والأدب، بزغ أدبه من بلاغة الأزهريين، وثقافة الفرنسيين، صاحب أسلوب واضح، ينحو منحى الجاحظ في كتاباته، وهو المعلم الكبير والأستاذ الأجل لأستاذي وشيخي الأكبر المؤرخ الراوية محمد رجب البيومي، ولد ونشأ في مدينة "المنصورة" التي أخرجت كثيراً من المثقفين، وتعلم في الأزهر، ثم سافر إلى فرنسا، وتعلم الفرنسية، ودرس القانون والآداب، ومن هذه الثُلاثية النادرة تكونت شخصيته: موطنه موطن شعر وثقافة، وتعلمه في الأزهر، وسفره إلى فرنسا واطلاعه على الثقافة الغربية، فبدا أسلوب الزيات، وبزغ نجمه الأدبي، وتميز بأسلوبه البياني الناصع بفنون البلاغة، حتى تربع على القمة، وصنع لنفسه أسلوباً بيانياً مميزاً يستلهم الآخرون منه أساليبهم. بدأ الزيات حياته العملية مدرساً سنة (1917م) فعمل في التدريس الأهلي، كان مدرساً لمادة اللغة العربية وأدبها بكلية الفرير بالخرنفش، إلا أنّ إدارتها ارتأت أن تزيد له حصة كل يوم بمدرسة "الفرير" الابتدائية بالفجالة، فعلّم العربية في مدرسة (الفرير) نحو سبع سنوات، ودَرّس الأدب العربي في المدرسة الأميركية بالقاهرة (1922م).
لقد بلغ حب الزيات لموطنه الأصلي "المنصورة" منتهاه، ولطالما كان يتذكر بمناظر بغداد مناظر مصر ومدينته "المنصورة" حين كان بالعراق لوجود المشابه بين هذه المدن في طريقة العيش والتعليم والثقافة، فقال في مقاله "تأمل ساعة .. من ذكريات العراق" المنشور بمجلة الرسالة، العدد 48، 4 يونيو 1934: "ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه، ذكرني تقابل الرصافة والكَرخ على دجلى تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، وتقابل المنصورة وطلخا على النيل الأسفل، وفي هذه الأماكن الحبيبة كان مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني ...".
والآخر: أستاذي الأكبر الراوية محمد رجب البيومي، مؤرخ الأزهر وأديبه، بقي اسمه في صدارة المتصدِّرين من المشتغلين بالأدب، وارتبط بفصاحــة الكلمة ونشر الفضيلة في كـتـاباتـه، وهو مصدر إلهامنا للمضي قدماً في عالم الكتابة، ولا تــزال كــتبه محـلّ عنـايـة من المشتغلين، وقــد جمع الله له أسلوب الكبار، فأخذ من الرافعيّ التدثر باللغة وجزالة الألفاظ وعمق المعاني، وأخذ من المنفلوطي اعتناءه بالفضيلة ونشر الآداب وقوة الأحاسيس وعلوّ المشاعر، إلى جانب انفراده برصد الـحضارة الإسلامية وروادها الـمعاصرين في جوانبها المتعددة، انشغل بالكتابة عن جميع مباهج الحياة الاجتماعية، وامتلك بيتًا في مكتبته كما رأيتُـه، في حين أن غيره يمتلك مكتبة في بيته، وصار في نفسه منارة يهتدي بها الآخرون، وضوءًا ثابتًا يسعى إليه الدارسون، لقي الأساتذة والأعلام، بل هو أكثر أهل عصره اجتماعًا بالعلماء والأدباء الفحول؛ فأخذ عنهم العلوم والمعارف، وتفوق منذ صغره في فنِّ الكتابة، فأتقنها إتقانـًا بليغًا عــزَّ نظيره، ونشر منذ صغره في المجلات الأدبية، واجتمع له من أساليب الكبار ما لا تجده عند غيره؛ ففيه قوة بيان الرافعي، ونقد زكي مبارك، ومشاعر المنفلوطي، وتنوّع أسلوب الزيات، ومتعة حديث إبراهيم المازني، وعمق طرح البشري، وصراحة حديث عزام.
تفوق أيضًا في الشعر تفوقـًا بالغًا؛ فجُمع له بين الشعر والنثر على حــدٍّ سواء، رثى زوجته في ديواني شعر في غاية الأدب الرفيع والشعر الرائق، وعبَّر فيهما بتعبيرات تفوق الوصف عن ألم الفقد ووقع المصيبة مع شاعرية وأحاسيس أصيلة، فيذكر ذكرياته مع زوجته وأخلاقها وطبائعها الفريدة، ثم يسرد الأحداث الأليمة التي مرَّت بهما في رحلتها مع المرض، وسفرها معه إلى أن عاد وحيدًا إلى أولاده دونها!
وتضم "المنصورة" أسماء أخرى لعلماء ومثقفين وأدباء ومفكرين، منهم على سبيل المثال: المؤرخ العظيم الأستاذ محمد عبد الله عنان، والمفكر والكاتب أنيس منصور، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والأديب الدكتور محمد حسين هيكل، والشاعر كامل الشناوي، والشاعر الغنائي مأمون الشناوي، والشاعر الكبير محمود أبو الوفا الشريف، والإمام الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر السابق، والشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي، والدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، والشيخ رزق خليل حبة شيخ عموم المقارئ المصرية، ورائد الصحافة الحديثة محمد التابعي، وغيرهم كثير، وفي الإحاطة بجهود كل هؤلاء المعرفية ما لا يطاق، وما لا يحتمله هذا المقال، فجوانب العظمة والإجلال لديهم لا تستوفى.
إنّ الآمال معقودة على مواصلة الأبناء مسيرة ودرب الآباء؛ حتى تعود الروح إلى الحياة الثقافية بمدينتنا "المنصورة" للمساهمة في الحضارة الإنسانية.
وبعد ... فإذا كان للمثقفين من مختلف مدن "مصر" آثار وجهود فإنّ لأهل "المنصورة" حرصاً على أن يكون لمعارفهم المتنوعة مظهر صحيح، وللجمال أثره في أمزجتهم فهم مبدعون بالفطرة!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري

مجلة النيل والفرات، العدد: 33، أول يناير 2023م



1673534052734.png
1673534108571.png




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى