د. عبدالجبار العلمي - "عشرة أدباء يتحدثون" للناقد المصري فؤاد دوارة .. القسم الأول

القسم الأول:

من أجمل الكتب التي قرأتها وما أزال أعود إليه للجلوس مع فطالحة الأدب العربي، وأُنْصِتُ إلى الحوار الممتع المفيد بين الصحفي الناقد فؤاد دوارة وبين هؤلاء الكبار. وكان الكتاب المحاوَرون في الكتاب هم على التوالي : طه حسين ـ توفيق الحكيم ـ محمود تيمور ـ حسين فوزي ـ يحيى حقي ـ محمد فريد أبو حديد ـ عزيز أباظة ـ محمد مندور ـ فتحي رضوان ـ نجيب محفوظ.
1 ـ في حواره مع طه حسين ( 1889 ـ 1973) ، يُعْلي المؤلف من شأن قيمة الإرادة الإنسانية من خلال ذلك الفتى الضرير الفقير القادم من قلب الصعيد المصري الذي قهر ظروف حياته وبيئته ، واستطاع أن يصبح عميداً للأدب العربي ، ووزيراً للمعارف. هذا فضلاً عن عمله على تحريك البرك الآسنة للفكر العربي حين أصدر كتابه " في الشعر الجاهلي " 1926 ، موظفاً فيه مناهج نقدية حديثة أهمها منهج ديكارت. يقول في جواب له على سؤال محاوره فؤاد دوارة يتعلق بخصائص الثورة التي أحدثَها في منهج الدراسة الأدبية : " إن أهم ما تمتاز به دراستي هو حرصي على ألا أكونَ عبداً للتقاليد وللأشياء المقررة ، وأن أتجه بدراستي للأدب العربي نفس الاتجاه الذي يصطنعه العلماء الأوروبيون في دراسة الآداب القديمة اليونانية واللاتينية " ( ص : 19 )
2 ـ وفي حديث الكاتب الطلي الشيق مع توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، أثار المحاوِرُ ما كان يروج من إشاعات حول بخل الحكيم وعدائه للمرأة. وعن حبه إحاطةَ نفسِه بصفات تجعله يتميز بها عن غيره من الكتاب، منها صفة "راهب الفكر " وأنه يعيشُ في " برج عاج " منقطع للكتابة والفكر ، ومنها اتخاذه مظهراً خاصاً متميزاً ( البرنيطة والعصا ) . في جواب له عن سؤال يتعلق باعتبار النقاد أعمالَه السردية " عودة الروح " و " عصفور من الشرق " و "يوميات نائب في الأرياف " سيراً ذاتية، راعني أنه يتفق وأحدث الآراء في مجال التنظير للسيرة الذاتية كما نجد ذلك عند " فيليب لوجون ". يقول توفيق الحكيم : " لا أستطيعُ أن أسمِّيَ أي عمل فني ترجمة ذاتية إلا إذا كان مكتوباً بهذه النية ولهذا الغرض بالضبط ، أي أن يقول لنا المؤلفُ هذه هي مذكراتي أو هذه هي حياتي ، ويكتبها بأسلوب السيرة . وهذا ما يعنيه "فيليب لوجون " في كتابه المعروف " السيرة الذاتية / الميثاق والتاريخ الأدبي. " ( ) بالميثاق الأتوبيوغرافي أي أنَّ ثمَّةَ عقداً " بين المؤلفين والقراء بحضور الكاتب الشرعي " ( ) ، وأن يكون هناك تطابق بين المؤلف والراوي والشخصية ، وما لم يحصل هذا التطابق ، فليس ثمة سيرة ذاتية. يعرف لوجون هذا الجنس الأدبي كما يلي : هو " حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص ، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته ، بصفة خاصة. " ( )
لقد كان توفيق الحكيم واعياً بالفروق الدقيقة بين الأجناس الأدبية وعارفاً بأسرار مكوناتها الفنية المختلفة. إنه يرى أن المؤلفَ " إذا صبَّ حياته في قالب روائي أو فني أياً كان ، فإنه في هذه الحال يصبح عملاً فنياً لا ينبغي لنا بأية حال من الأحوال أن نسميه ترجمة ذاتية" ( ص : 33 وما بعدها ) . وليس هذا بغريب عن رجل درس في فرنسا وتشبع بثقافتها واطلع اطلاعاً واسعا على الاتجاهات الأدبية التي كانت سائدة فيها آنذاك. ثم تطرق الحديث إلى أنسب لغة للمسرح العربي ، فكان رأي الحكيم أنها اللغة العربية الفصيحة المبسطة التي يمكن أن تفهم في كل الأقطار العربية وتمثَّل بها ، وقد دعاها بــ"اللغة الوسطى". لقد عالج الحكيم في مسرحه الذهني والاجتماعي قضايا فكرية واجتماعية متنوعة، لكن القضية الأساسية التي كانت تشغله هي قضية الإنسان في صراعه مع القوى الأقوى منه ، ومع مشكلات مجتمعه الذاتية والاجتماعية في مجتمع يريد أن يتطور .( انظر ص : 44 )
3 ـ ويرى محمود تيمور 1894 )ـ 1973 ) أن جيلَه " حاولَ أن ينقلَ الأدبَ نقلةً جديدةً تُلائم العصرَ الجديد، وأحسَبُه قد نجحَ في أداء هذه المهمة إلى حد بعيد ... وها نحن أولاء في يومنا هذا نجد تلك البذور الصالحة وما تبعها من أمثالها قد حسن نباتها وزكا عودُها حتى باتَتْ القصةُ سلطةً ذاتَ سيادة في دولة الأدب بين الناطقين بالضاد " ( ص : 54 ). ويستشهدُ بأدباء مصر ذائعي الصِّيت أمثال : طه حسين والمازني وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ . ويوجه الناشئة إلى قراءة النصوص الأدبية لا إلى ما يُكتَبُ من نقد أو دراسة عنها، " فالنُّصوصُ هي التي تُذكي ملكاتِه وتُنميها، وهي التي تعمل على تكوين شخصية ذات طابع متميز وهي التي تصقل ذوقه.. وتمهد له سبيل الإبداع" ( ص : 55 )
4 ـ حسين فوزي أديب ورحالة جاب معظم بلدان العالم شرقاً وغرباً ، وهو عالَمٌ آخر يَختلف عن سابقيه ، يهتم بالموسيقى الكلاسيكية وغيرها من الفنون . من مؤلفاته في الرحلة " سندباد عصري ( 1938 )؛ " جولات في المحيط الهندي "؛ " حديث السندباد القديم " ( 1943) ، وهذا الأخير رحلة خيالية في الزمان والمكان ( انظر : ص : 61 )؛ " سندباد إلى الغرب " ( 1949 ) ، وقد جعل له شعارا لحناً لبيتهوفن هو : " هبنا من لدنك الجمال معقوداً بالخير " ، وذلك لأنه "على يقين بأن الفضائل مهاد الجمال، مؤمن بأن الجمال يؤدي إلى الخير " ( ص : 62 )؛ " سندباد مصري " وهو آخر رحلاته ، وهو "جولات في رحاب التاريخ " ، وفيه يسجل عودته إلى وطنه مصر للاستقرار بها . في هذا الحوار نعيش مع حسين فوزي المتعدد المواهب المتنوع الثقافة، يحكي لنا مغامراته وحياته الدراسية في فرنسا التي قضى فيها خمس سنوات. يقول في آخر هذه الرحلة : " أنا الذي بدأت رحلتي بالسُّرى في ظلام العبودية ، وانتهيتُ في رحلتي إلى ضياء العصور القديمة ، ونفسي تُشْرقُ بنور الأمل في العصر الحديث. " ( ص : 63 ) . ثم يتشعب الحديث ليتطرق إلى العامية والفصحى ومسرح اللامعقول بمناسبة تقديم بعض المسارح لإحدى مسرحيات صمويل بيكيت ومسرحية " يا طالع الشجرة " لتوفيق الحكيم ، كما يتطرق حديثهما إلى الثقافة والجماهير التي هي في حاجة هي الأخرى إلى ثقافة جادة لنرتفع بأذواقها ومستواها الحضاري. وكان يُشيد بفن سيد درويش مطرباً وملحناً، وذلك لأنه فنان أصيل ، لا يمكن أن نتهمه بأنه اتخذ الفن وسيلة للكسب. ويستمر الحوار عذباً شيِّقاً مُتَنَوِّعاً، حولَ " تراثِنَا الموسيقي " و" الموسيقى الإسلامية " والمسرح والرواية والقراءة والعمل في معهد الأحياء المائية ودراسة البحار المصرية على ظهر السفينة، وفي غير ذلك من الأنواع المتعددة من النشاط الإنساني. عندما نقرأ هذا الفصل من الكتاب نجد أنفسنا إزاء علاَّمة ذا تجارب حياتية وعِملية، قمين بأن يقتدي به شبابنا اليوم.
5 ـ حين نخرج من بيت الدكتور حسين فوزي، سنطرُقُ مع فؤاد دوارة بابَ الأديب يحيى حقي (1905- 1992) صاحب القنديل. في هذا الحوار يُفسِّرُ الكاتبُ اهتمام القراء بروايته القصيرة " قنديل أم هاشم " بأنها خرجتْ من قلبٍ صادقٍ غيور على شعبه الذي يعاني من الجهل والفقر والتخلف ، فانغرست في شغاف القلوب بسرعة وقوة. يقول:" لقد خرجتْ من قلبي مباشرة كطلقة الرصاص ، فكان أن استقرت في قلوب الناس.." ( ص : 100 ). بهذه الرواية التي صدرت في كتيب صغير مع مجموعة قصصية قصيرة سنة 1944، أصبح يحيى حقي كاتباً مشهوراً ، قبل أن تصدر أعمالُه الغزيرة الأخرى التي جعلتْه من أكبر أدباء مصر والعالم العربي، نذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر " فجر القصة المصرية" ؛ " خطوات في النقد " ؛ " صح النوم " ، " دماء وطين " ؛ "أم العواجز "؛ " خليها على الله "؛" عطر الأحباب " إلخ.. يتطرق الحديث في هذا الحوار أيضاً إلى مرحلة رئاسته مجلةَ "المجلة" الرفيعة، وإلى دوره المعروف في تشجيع أدباء الستينيات ونشر أعمالهم. والجدير بالإشارة أن " قنديل أم هاشم" تم تقريرها من لدن وزارة التعليم في المغرب عدةَ سنوات دراسية ضمنَ مقرر دراسة المؤلفات في مرحلة من مراحل التعليم كان يستشار فيها الأساتذة في اقتراح المناسب من النصوص والمقررات.
6 ـ يرى فؤاد دوارة في تقديمه لحواره مع محمد فريد أبو حديد (1893- 1967م( ، أنه اكتسب مكانته في أدبنا الحديث لسببين : أ ـ كتابة القصة التاريخية وتطويرها فنياً ودلالياً ؛ ب ـ استخدامه الشعر المرسل لأول مرة في ترجمة المسرحيات الشعرية ومنها " ماكبث " لشكسبير . ثم فُتِح بابُ الحوار المتنوع عن طريق أسئلة دقيقة ، نتعرف من خلالها على سيرة الكاتب الحياتية : دراسته وتكوينه ومشاركته في ثورة 1919 . ثم تخرجه مدرساً للغة الإنجليزية، ونضاله ضد الاستعمار الانجليزي، وتقلده مناصب عديدة ، وحصوله على الليسانس في القانون. وكانت أهم الأسئلة تتناول نشاطه الأدبي الغزير في مجال ترجمة مسرحيات عالمية أو كتابة مسرحيات موضوعة كتبها كلها بما يسمى بالشعر المرسل أو المنطلق, وهو يعتبره الشكل الأنسب لكتابة المسرح، وغير مناسب للشعر الذاتي. ومن إنتاجه الأدبي المبكر ، يذكر الكاتب أسماء لقصص كثيرة استوحاها من التاريخ المصري والتراث العربي منها: " ابنة الملوك " و "الملك الضليل" و" المهلهل بن ربيعة " ( الزير سالم في الأدب الشعبي ) ، و"عنترة بن شداد " رمز الحرية والكرامة والشهامة العربية، ويرمز به الكاتب إلى الشعب المصري الذي كان يعاني من الحرمان من حريته وحقوقه مع أنه الأساس المعول عليه في الإنتاج والبناء والدفاع عن الوطن. ويتخذ التاريخ في بعض أعماله الروائية وسيلةً لمعالجة قضايا النفس البشرية الخالدة ( ص: 135 )، وأخيراً يحدثنا محمد فريد أبو حديد، مجيباً عن أسئلة المحاِور الذكي عن روايته العصرية " أزهار الشوك " التي تدور حول الفوارق الطبقية، وعن مساهمته في الكتابة للأطفال ورئاسته تحرير مجلة "الثقافة "، وعن رأيه الإيجابي في النقد الأدبي في عهده.
7 ـ اهتم الشاعر عزيز أباظة ( 1899 ـ 1973 ) بكتابة المسرح الشعري أسوة بمعاصره أحمد شوقي صاحب " مجنون ليلى " التي حاول الشاعر منافستَه فيها بمسرحيته "قيس ولبنى ". جاء في ثنايا الحوار قوله: " وجدتني أقول لشوقي إنه يُحسِن صُنعاً إذا كتبَ مسرحيةً شِعْرية عن قيس ولبنى بالنظر إلى توفر عناصر الدراما في هذه القصة ، فكان رد شوقي لا يخلو من الاستهزاء: "ما تِعْمِلْها أنْت " . وقد صرح أباظة بأنه قد يكون الدافع إلى كتابة هذه المسرحية هذا الموقف ، أو اقتناعه بصلاحية القصة للمعالجة المسرحية. وقد أتمها سنة 1941 ، ومثلت في 4 نوفمبر سنة 1943 لأول مرة بإخراج الفنان فتوح نشاطي ، وقد لقيت نجاحا جماهيرياً كبيراً. ومن مسرحياته الأخرى " العَبَّاسَة " و" النَّاصر "و "غروب الأندلس". في هذا الحِوار الشَّيِّق حولَ المَسْرحِ الشِّعْري، يَدورُ الحَديث أيضاً حولَ الشُّعَراء الذين كانوا بمثابةِ أساتذة له في مجال تكوينه الشعري، منهم حافظ إبراهيم وأحمد رامي. وقدْ بدأتْ شهرةُ عزيز أباظة بالشعر الغِنائي بديوانه الذائع الصيت " أنات حائرة ". ثمَّ يتطرق الحديث عن مصادر ثقافته الشعرية، فيحدثنا الشاعر عن قراءته للشعراء قدماء ومحدثين، عرباً وغربيين. ويرى أنَّ " الشِّعر هدية السماء إلى الأرض، وعلى أنه أكرم وأسمى أداة تصل بين جمال الحياة الإنسانية وجمال الله.. ، وأنه التعبير الصحيح الرائع لأكرم عواطف الحياة وأحاسيسها ... " ( ص: 163 )، كما يرى ضرورةِ توفُّر الشعر على موسيقى، إذ لا غِنى عنها وإلا فلا شِعر ( انظر ص : 164 )، وهكذا يعتبر عزيز أباظة الشعْر الذي يقولُه أصحابُ الشعر الجديد نثراً. ( ص : 165 ). والملاحظ أن المحاوِر لا يدخل في نقاش مع الشاعر رغم أنه يختلف معه في كثير من الآراء التي امتلأَ الحوار بها ، وإن كان يومئ إلى رأيه في بعض أسئلته بشكل ضمني وبكثير من اللباقة : " ألا ترى أن الشعر الجديد كان أدعى للنجاح في علاج المواقف الدرامية؟ " ( ص : 165 )


د. عبدالجبار العلمي

* عن كتاب " عشرة أدباء يتحدثون " لفؤاد دوارة ( كتاب الهلال )


1673552118273.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى