د. سيد شعبان - في الإسكندرية!

توقف قطار السادسة صباحا في محطة مصر ذلك الصرح الذي يشبه في كثير من تصميمه محطة لندن، تناسق بين أجزاء المكان، براعة في تشيكل قضبان الفولاذ، يبدو أن المحتلين كانوا يبنون لقرون تمتد، مضت ساعتان تقريبا، عندما خرجت من البيت والليل يلم أستاره، أدركت القطار قبل أن يغادر محطته التي تحمل عباءة الزمن، شجرة الجميز العملاقة وقد سكنتها أزواج الغربان تصدر نعيبا يشبه لحنا جنائزيا؛ طنين البعوض يلفني، يبدو الموت وحشا كاسرا، ترى هل يكون ذلك المتطمي ثعبانا فوق السكة الحديد تابوتا يحمل في جوفه هؤلاء الذين تدفع بهم الحاجة إلى التسكع في المدينة التي كانت يوما عروس البحر؟
شتان بين عالمين تفصل بينهما رحلة تبلغ ساعتين من الزمن،
على أية حال غادرت المحطة مخترقا حي العطارين؛ في تلك المدينة كل مكان يحمل شارة لمن مروا به، ، أو هؤلاء الذين سكنوا في أبنيتها، طليان ويونان وفرنسيين بل يهود، في الإسكندرية شواهد لتاريخ رائحته أشبه بالبحر حين يخرج عطره لاعطنه!
تعبت من السير، على أقرب حجر ألقيت بجسدي، ثمة أشكال على حائط، رجل له قرنان، يمسك بإحدى يديه سيفا وفي الأخرى كتابا، تقول أسطورة: إنه بنى سور الصين، كان يمتلك وحده نصف الأرض، لكنه عجز أن يكون له ولد يرث ملكه؛
قريبا من موضعي يدق حراس سجن الحضرة الأرض بأقدامهم،
باب سدرة والأنفوشي وسيدي جابر ولوران والشاطبي وأبو تلات الخواجه سموحه والملكة فيكتوريا، ألم أقل إنها مدينة لاتعرف النوم!
أتحرك جهة المنشية، يقف تمثال سعد باشا؛ أداعبه متسائلا: أين أجد أم المصريين؟
يبدو المكان متسعا، فتيات مرسلات الشعر، عيون في نعس، شفاه حمراء، خصور تتثنى!
أسير جهة البحر، أتوقف قبالة القلعة، يسرح بي الخاطر، هل ترى يكتب لي أن أرتحل إلى الجهة الأخرى؟
أتراجع خطوة وراء خطوة، فيما وراء البحر عالم غريب؛ أتذكر عالمي، ساعتها كان الباب موصدا، يقف وراء الباب فقر وهم.
لا أحد يهتم بالذين يمرون!
تدور ذاكرتي في أحياء مدينة بناها ذو القرنين، أسوار وفنار، تماثيل على كل شكل ولون، حين كنت صغيرا أخبرني أبي أن ثمة فتاة جميلة ابتلعتها الأرض في جوفها، ومن يومها وأنا أخشى تلك الدروب والشوراع في مدينة مسحورة، يقال إنها مليئة بالجن يحرسونها!
أتسكع في شارع النبي دانيال حيث الكتب معروضة، يمتد بي السير حتى البحر مجددا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى