كان مسكوناً بما تخيلته السيدة من جرائم، وبالطرق المحكمة التي أدارت بها جرائمها، كأن الجريمة، بالنسبة لها، قلب العالم، جوهره الخفي الذي لا يُحسن أحد سواها التعامل معه بما يستحق من مهارة وشغف، في كل كتاب لها جريمة ولكل جريمة طريقة تنفيذ دقيقة متقنة، ولطالما أدهشته قدرتها على تدبير القتل وابتكار دوافعه تحت مختلف الظروف، كما لو كانت تأخذ بأيدي قاتليها في دروب الخطيئة والظلام، إلى آخر القسوة البشريّة، كل مكان، مرّت به أو أقامت، مسرح جريمة متخيّلة، وكل إنسان، رجل أو امرأة، في شرخ الشباب أو وهن الشيخوخة، مشروع قاتل أو احتمال قتيل، ما زالت خطط جرائمها مرتسمة في ذهنه منذ قرأ رواياتها أول مرّة وسحرته عوالمها بما يحيط بها من غموض وما يسودها من ألغاز وشكوك، إنها لا تجيد شيئاً بقدر إجادتها حياكة خيوط الجريمة كأنها تحوك شالاً من الصوف، بيدين خبيرتين واثقتين ترسم طرقاً مدهشة تؤدي في النهاية إلى جثة ما، في شبه عتمة يعمل قتلتها الأنيقون وفي خفاء صامت يسقط قتلاها، ما أدهشهه في عالمها أن خيطاً خفياً بين القاتل والقتيل يكشف اللغز ويحل الغموض، لتواصل المضي في طرق الجريمة الملتوية وتظل صورها عالقة في أذهان قرائها، كاتبة الجريمة الأولى، سيدة المصائر المريبة، كثيراً ما فكّر بقتلاها وهو يراهم مضرجين بالدماء، عيونهم المفتوحة زجاجية الحدقات، على أفواههم ترتسم صرخات مدوية، وقد ذهبوا لمصائرهم بشتى الطرائق قاطعين شتى الطرق، متعتها البالغة أن تبتكر حبكة موت جديدة كلَّ مرّة، سلالم مفروشة بسجاد قاتم وممرات بنهايات مغلقة، أبواب الغرف على جانبيها موصدة صامتة، خلف كل باب قتيل، على الأرض الخشبية اللامعة في الفنادق القديمة الفخمة تُترك الجثث ممددةً فوق برك لزجة من الدماء، في غرف القطارات وملاعب الغولف، في المكتبات الفخمة والإسطبلات، في الحدائق الظليلة الواسعة وعند ضفاف الأنهار ففي النهاية لا سرّ ولا لغز سوى الموت، لم يكن يفكر فيها إلا ويستحضر مئات الجثث كما لو كانت ظلاً لها، السيدة الإنكليزية الوقور بوجهها اللحيم. ولأنها سيدة القتل وألغاز الجريمة والغموض فقد شعر بالأسف لانتهاء حياتها على نحو مخز مثل أية عجوز مسنّة على كرسي ذي عجلات، يدفعها زوجها من غرفة الطعام إلى غرفة الجلوس، أي شعور بالخيبة والبؤس راوده وهو يرى صورها الأخيرة بعد أن فتنته صور شبابها البعيد، بقبعتها السوداء عريضة الحافة، عيناها ذكيتان هادئتان وأنفها طويل وشفتاها مطبقتان على وعد حديث يطول، صورة جديرة بإلاهة يونانية، ولطالما فكر بأن النهاية المناسبة لحياتها بعيدة عما كتبه القدر، إنها تستحق ميتة مغايرة، فمن المشرّف أن تموت قتيلة قبل موعد ميتتها بربع قرن في الأقل، لتُسجّى جثة خمسينية في آخر الصف الطويل من قتلى رواياتها، ستكتب بمقتلها أعظم ألغازها وتتوّج سيدة أبدية للجريمة لا ترضى لنفسها أن تموت كما يموت أغلب الناس، لم يكتف بالأسف وهو يقرأ سيرتها وتستوقفه نهاية حياتها المؤسفة التي أحسّها أكثر ألماً من ميتات قتلاها، بل خطط لتنفيذ فكرته، ولم يجد وقتاً أنسب من مواسم وجودها في بغداد بصحبة زوجها عالم الآثار ماكس مالوان، قريباً من نهاية النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت تقيم في واحد من أجمل بيوت بغداد ذات الطراز العثماني المطلّة على نهر دجلة، مكان مثالي لجريمة قتل لم تُكتب، بيت من طابقين، نوافذه واسعة بمظلات خشب قصيرة، لونها البني الداكن يزداد قتامة في ضوء الغروب، تتقدمه حديقة بأشجار مورقة تحيط ممراتها المعبّدة بالطابوق شجيرات ورد جوري وأصص أزهار الداوودي القرصية بأوراقها الحادة المسننة، يلمح شبح سيدة خلف نافذة الطابق الأعلى، إنها السيدة كريستي لا شك، لا أحد سواها في المنزل في هذا الوقت بعد أن استأذنت الخادمة بالانصراف وخرج السيد مالوان لموعد جولته النهرية، كثيراً ما حدّثها عن شغفه بالنهر، لا شيء مثل ركوب زورق على نهر دجلة وقت الغروب، حتى أنهم يغنون لمحبوباتهم في الزوارق العابرة، وضعت كرة الصوف على المنضدة بعد أن غرزت فيها إبرتي الحياكة ثم رفعت رأسها، إنها تُدرك، بطريقة ما، ما يدور في حديقة المنزل، وما فكّر فيه قارئها بشأن النهايات المناسبة وغير المناسبة، تلتقط وجيب أنفاسه وتسمع وقع خطواته على الممشى، لاندفاعها إصرار متصل، تشبه الخطوات التي فكّرت بها قبل كل جريمة، وسمعت دفق الدم وعنف الرغبة في الشرايين، إنها قدم قاتل لا ريب..