الدكتورة سبأ جرار - الجواد الادهم عرج إلى السماء

بدأت الحكاية مساء الأربعاء... الكل يعود لمسكنه، بينما هو يسرع للمسجد الكبير في هذا المخيم، المسجد الذي إعتاد على خطوات قدمية في كل فجر ومغرب، ليكون من المشائين في الظلمات، أصحاب النورين، أدى المغرب حافيا... عاقد العزم على أن يغادر أيضا حافيا من أمام محراب بيته، مؤكدا ببصمات قدم الشهيد، وقد الاب الفريد في حب أربع وردات من نِعَم زينة الحياة الدنيا، فأكرمهن حتى النفس الاخير...لقد دفع بالآلاء ليكون جواد الأرض الذي يمتطيه الادهم نحو سماء عبادة يباهي بها الله ملائكته... فقد حانت الساعة السجى من الليل، حيث لا يُرَدُ داعٍ ولا يضيع أجر، بل تُنَارُ الاكف المتوجهة بالدعاء، والوجوه الباكية في السجود الطويل بفجر خميس عرض الاعمال، فقد كان للحبيب كميل خميس مضى، وجاء هذا الخميس مطالبا بالجواد والأدهـــــــــم...
خطأٌ في الاتجاه حملني نحو شارع كُتِبَتْ به كل البدايات في جنين...ومحطة توقفت عندها كل الافراح والاحزان ،وبقعة من أرض الوعد أنارها الله منذ خلقت،فهي نقطة التقاطع بين جنين ومخيمها،لا يخرج حلمٌ ولا وعد ولا شبل ولا شيخ من المخيم الا عبرها،ليلتصق بها لحظة الالتحام مع جنين،حيث لم تكن يوما في جنين حدود،ولم يكن المخيم أقل من حارة عتيقة كُتبت بها الحكايات،ولم تكن جنين أقل من محراب حب احتضن المخيم،فذابت به ألاختلافات،إلا مفتاح العودة ليبقى المخيم الشاهد والوعـــــــــد...
في تلك البقعة نقطة كُتبت بالملح،وأضاءها المصباح فلم تكتفي بكل المسميات العتيقة،بل ألهمت جيل الأقمار بصور جديدة للحياة، هناك ناديته:
- أيها الرياضي... أما تعبت ؟ أما آن لك التوقف ؟
فابتسم من أعلى طلته المتوجهة دائما نحو السماء، وقال :-
أنا سبقتك في ملاحظة هذا الجمال والاستنارة بمصباح الملح ... وكان أبو الطيب شاهداً بان أول من بارك وأول من قدر هذا الجمــــــــــال...
تحدثنا لدقائق كانت الاغلى حين لَخَّصَ بكلمات متسارعة كم يستطيع هذا التحدي المستمر لخطوات مقاومة الضعف التي أسلكها أن ينجح، وكم هو فخور بأنه صنعَ حلماً تجسد بعائلته وصمد رغم كل التحديات، وكم كان ما جمعنا دائما يتجسد في حديثه عني بالأمس ـــ ولقاؤنا اليوم دون موعد ـــ بأننا عصاميون نحب الحياة،ونتقن تحديها، والإيمان بالحق والتمرد على الضعف والصمود أمام الصغائر، تركني غير مودعٍ بل مبتسم سعيـــــــــد...
لقد أسعدني بكلمات آمن بأنني استحقها، وتركته بدعابة أننا من الذين يحترمونهم الناس، ولكن لا يحبونهم... وهذا يكفينا...
سعد بالملخص، وقال هذا هو... وهرول للشوارع المتشوقة للوداع الأخير... فالليلة موعد المعراج نحو السماء المسكونة بالشهداء حيث ينتظروه بلهفة الاشبال للكشاف الأول، وبلهفة الأطفال لمعلم الرياضة الأكثر حبا وانضباطــــــــا...
لم يكن وعده خيالاً يا سجى، فقد وضع الحلم ببناء يعلوا بسعادتكم أكثر، وغادر نحو السماء ليكون لكم أقرب، لأنكم شربتم منه العزة، وتعلمتم الاحلام الكبيرة التي لا تحدها سوى السماء ... لم ينقطع النت، ولم يفقد التواصل مع من أحب، بل تَعَمَدَ في تلك الليلة أن تكونوا أنتم آخر من يرى،وأجمل من يسامر، وكلَّ ما أراد أن يعرفهم، وكلَّ ما أراد أن يحبهم .... أراد صورة أخيرة تعلق في بيت ستبنونه عاليا لتكون درجات البيت الأولى معمدة بدم علا على كل شيء سوى الله والوطن، وستكون آخر العتبات نافذة حب تجتمعون به أبناء الجواد لتكون نحو الله أقرب، حيث سعادة السماء... فقد احتضنت الجواد مع شهداء سيباركون جمعتكم كل ليلة، ويهللون للمخيم عبر خط نور ينظر فيه أبو الفريد لكم منه، فتنعكس منه ضحكات كل الشهداء نحو أمهات وزوجات لهم، ينتظرن كل ليلة حلماً ومناجاةً لحبيب غادر الدار، فأضحى هناك في سماء المخيم، حيث لكل بيت شهيد في المخيم سماء...
لكل شهيد حكاية،ولكن للجواد ملحمة قُضِيتْ بثلاث ثواني،الأولى حين أمسك بيد النابض قلبه أدهم ليسحبه نحو الحياة،والثانية حين دفع بالفريد وآلاء نحو الحياة واتجه نحو الشهادة،والثالثة حين لبى نداء الشهادة لصلاة قيام الليل التي دعاكم للوضوء لها،ونطق بشهادتها مودعا إبنة التي احتضنت جسده،واستنشقت عبير دمه ونادتـــــــــــــه
" تشاهد يابا "،فما خذلها، وما ضعف، ونطق بآخر كلماته متوجا شهادته بالقول:- أشهد أن لا الله الا الله...
أيُّ بكاءٍ يكفيك يا واصل الولايا ومُعِزْ القوارير؟،أيُّ وداع يليق بك حيث حفرت في الاحياء حكايات واشارات نصر على كل ضعيف نفس وغائب ضمير ؟ أيُّ وداع يليق بك حيث كنت الكشاف الأول وامتثلت شرف الكشاف حتى بشهادتك ...؟
أيُّ حزن ستعيشه عتبة المنزل العتيق كل ليلة وهي تنتظر عودة يتبعها رحيل؟ وميزتها في ليلة الخميس بمسك ودم فاض فرحا استجابة لاختيار فاجأك به الادهم قبل ساعات، فاستغربت الملامح وتساءلت عن ذلك الحنين في النظرة القاسية المختلفة التي اتضحت حيث السماء تنتظركما ..... حيث الاسمهان أسعدها اللقـــــــــــاء...
وداعاً أيها الباقي في حوارينا ووجداننا، قضيت العمر منتعلا، وغادرت الحياة حافيا مدرجا بدماء النصر على الضعف، بنصر الدم على السيف... حالما دوما وابدً أن تعود " للسنديانه " يوماً، تطل من روابيها على شاطيء حيفا، وتزرع في سهولها الخضراء ريحانتيك وزهراتك الاربــــــــــــــع...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى