عبير سليمان - الثأر..

ها أنا أجلس وحيدا منبوذا في برد الليل ، انتظر بفارغ الصبر يومي الأخير على هذه الأرض الفائضة بالأكاذيب والخداع ، أجلس خلف سور قصير في مزرعة أصبها التصحر ، أتأمل السماء من فوقي وهي تودع زرقة الليل الباهتة ، لتستقبل أول خيوط اشعة الشمس المطلة بحياء من خلف الغيوم ، لماذا يتلكأ النهار غير مبال بالضجر الذي يقتلني بالبطيء ، ليته يأتي سريعا حاملا معه النجاة من حياة هي أقرب للموت، مؤلمة وبلا كرامة .

بعدما صدر علي الحكم بإنهاء حياتي ، أشعر كأن جسدي تختلط به برودة الوحدة والنبذ ، بحرارة الغضب ، نسمات الصباح التي كنت أحبها تتحول إلى سياط تلسع جسدي وتخترقه ، فتنتفض أوردتي كأن الدماء تفور فيها مثل غليان الماء في الأباريق.

لكن بداخلي أيضا ختط بها شعور بالانتشاء والفخر ، فقد نفذت فعلتي بكامل إرادتي ، لذا أشعر برض تام ، وربما أيضا سعادة غامرة ، لماذا ؟ لأنني أخذت بثأر صديقي وانتزعت بأنيابي القصاص ممن قتلوه .

اعلم أن من حبسني تمهيدا لخلاصي ، اراد معاقبتي معنويا أولا ، لكن لا بأس مادمت ساموت واقفا ورافعا رأسي وقد نفذت العدالة كما أراها ، واخترت ألا انتظر عقوبات السماء التي تتأخر كثيرا ، ولا مانع ان أنتظر اللحظة الأخيرة مادامت ستأتي حتما ، لتنقذني من ظلم وحوش ضارية تسمي نفسها بشرا !

تأخرت فقط في اختيار الوقت ، لأني انتظرت اللحظة المناسبة ، بعدما نسي الكثيرون أحداث تلك الواقعة الشهيرة ، التي زلزلت كيان مؤسسة من المفترض أنها مُؤمّنة وتحت حراسة فريق كفء ، وورديات نشطة يقظة لها عيون الصقور ، ، يصحبها كلاب حراسة مدربة تعطي الإشارة عند الشعور بالخطر فتقتنصه قبل حدوثه ، ولأني واحد من هؤلاء الكلاب ساعدت الكثير من البشر في إحباط عدة كوارث قبل وقوعها .

لكن في تلك الليلة كان ما حدث مريبا ويبدو أن من نفذه واحد من أعوان الشيطان ، مازلت مندهشا كيف خطط ونفذ بدم بارد وأعصاب كالحديد وضمير ميت ، فتساءلت : ترى هل كان هناك قوة خارقة تصحبه ؟ أم أنه استعان بجني أخرجه من قمقم ، لكن يا لغبائي إن ما حدث بعد الواقعة يؤكد أن بعض البشر يفوقون الشياطين مكرا وتحايلا.

حدثت الواقعة بعد منتصف الليل ، كانت عملية سرقة مدبرة بدقة وبتخطيط محكم لمعدات(أجهزة كمبيوتر – وعدد كبير من وحدات التكييف) تخص أحد الوحدات الإدارية التابعة للجامعة ، التي كانت تدرس اللغات الأجنبية للطلاب والباحثين ، ولأنها منحة قدمتها دولة أجنبية ، فقد اختير حراسها بعناية فائقة وبعد اختبارات شاقة لمعرفة مدى قدرتهم على مواجهة المخاطر والأزمات .

ولا يكف المسؤولون بالجامعة عن ادعاء سهرهم على حماية القوانين وتطبيقها بدقة وصرامة ، وأنهم أحيانا لا يغادرون مكاتبهم ويمكثون فيها يومين إذا دعت حاجة العمل ، بينما الحارس الحقيقي هو انا ورفاقي من نفس فصيلتي .

ليلتها لم أعلم بما حدث إلا في الصباح ، فقد وجدت نفسي بعد وجبة المساء ، وقد ثقلت حركتي ، وكأن حجرا صوانا وضع فوق رأسي ، أصابه بتنميلة تشبه شعور مدمني المخدرات أو المدخنين الجدد ، ولم أدر بجسدي إلا وقد استسلم لنعاس ، أغلق جفني بالقوة وماهي إلا ثانية ووجدتني أرتمي أرضا أرزح تحت نوم ثقيل يشبه الغيبوبة . ولم أعلم إن كان قد حدث مثل ذلك مع زميلي أم لا ، فقد كان آخر ما رأيته هو بقائه مستيقظا ، ينظر لي في دهشة واستنكار ، فما حدث معي لايجب أن يحدث مع من يقوم بمهمة الحراسة .

ساعدتني حاسة شمي القوية أن أعرف هوية أحد اللصوص رغم تنكره ، كانت له رائحة كريهة تنبعث من فمه ، كما أن صوته مبحوحا وكان دائما ما يضطر لرفعه ليلقي الأوامر على مساعديه ، ازداد يقيني بعدها بأنه المخطط والمنفذ للجريمة مما بدا عليه من ثراءٍ ملحوظ ، وتغير كامل في هيئته ، انتقلت عدواه إلى سيارته التي استبدلها بأخرى لا يقتينها إلا أصحاب الملايين .
ما حدث يومها أني أفقت من الغيبوبة التي سقطت في بئرها السحيق بسبب مخدر وضع لي في طعام العشاء، على جلبة وضجيج هائل ضجت به أرجاء القاعات والمكاتب داخل المكان بعد دخول العمال والموظفين لمكاتبهم في الصباح الباكر ، لقد اكتشف المدير أن ثلاثة أرباع الأجهزة فقدت ، فأبلغ الأجهزة الأمنية داخل الجامعة وخارجها ، فحضروا فورا للمعاينة ورفع البصمات.

بعد المعاينة اتضح أن المنفذ عصابة منظمة تعرف كيف تخفي أثار فعلتها ، فما كان من المدير المسكين إلا أن أصابته ذبحة نقل بسببها فورا إلى المستشفى ، ولأن مفاتيح المكاتب معه ، تلقى هو سهام الاتهام في صدره العاري ، خفت أن يقع علي العقاب لنومي وغفلتي ، فهربت ، بينما بقي زميلي لما أصابه من ثقل بسبب المخدر اللعين ، فبقي وحل عليه العقاب الغادر ، قتلوه بالسم .

وبعد هروبي وعملي لدى أحد الأشخاص الذي يهوى الكلاب ، فتبناني وغمرني برعايته وعطفه ، مقابل حراسة منزله ، كنت أنام في حديقته ليلا ، يطعمني أفضل الطعام ويدللني ، لكن فكرة الثأر ظلت تهوى فوق رأسي كضربات مطرقة ، هربت رغم حبي للسيد صاحب البيت ، تسللت في الليل إلى مكان ورديتي القديم ، حفرت بساقي الأماميتين نقطة ما تحت السور ، حتى تتسع لتمررني ، وأعرف كيف أطوع جسدي ليعبر بخفة إلى الداخل ، إن قوة الغضب والجنون تكسبنا نحن الحيوانات قدرة هائلة على تطويع حواسنا وأجسادنا .

اقتربت من وردية الحراسة فالتقطت أذناي حديثا هامسا بين شابين من وردية الأمن الليلية

أ : من يصدق ما حدث ؟

ب: مازلت مصدوما ، لا أصدق أن يفعلها الرجل الطيب أشعر أنه مظلوم ، وأنت ؟

أ: لو كان فعلا كما تقول لماذا ظل صامتا يتلقى كل هذه التهم بصدر عار وهو متأكد من براءته؟ هل هدده شخص ما ذو سلطة ونفوذ أو أغراه بالصمت مقابل اقتسام الغنيمة؟

ب: المصيبة أنه مات قهرا وذهبت معه الحقيقة ، لكن من ابن الحرام الذي خطط ونفذ ، يقتلني الفضول ؟ وأين اختفى الزملاء السابقون في الأمن من كانوا في مثل مكاننا ؟

أ: لدي شكوك أنهم أخذوا من الحب جانبا ولابد اللص الكبير اقتسم معهم الغنيمة ؟

ب: لا أستبعد ، وفي حضور الشياطين الخرساء البكماء تغيب الحقيقة إلى الأبد ، فيموت الشريف ويحيا المجرم !

تسحبت بعيدا ، وانتحيت بنفسي فوق قطعة الأرض الرملية بالقرب من مكان حراستي الذي هربت منه، اجتاحتني الشجون وبكيت حزنا لمصير صديقي الذي عاقبوه بالقتل ، وهو لم يرتكب ذنبا ، هكذا قانون الأرض يحاسب الضعيف ويترك الفاجر دون عقاب ، ليزداد ظلما وجبروتا ، لكن لن أسكت الآن تأكدت ظنوني ، مازلت أذكر رائحة من قدم لنا الطعام ، سأنتظره بالقرب من بوابة البنك ، وعندما يمر سأشم رائحته وآخذ بثأري منه .

مر أسبوع ثم رأيته من بعيد ، مترجلا بزهو وكبر من سيارته الفارهة ، خلفه واحد من حاملي المباخر يلتصق به كظله ، يحمل حقيبته ويسير خلفه ، أكره من يصف هؤلاء بالكلاب ، لأننا أوفياء لكن هذا التابع لا يشبه إلا الحرباء ، يتغير جلده فورا بموت سيده ، بل لن يتأخر عن ذكر كل مساوئه ويتنكر له ، وربما أيضا إن رآه خارج محيط العمل يدير له ظهره ولا يلقي عليه السلام !

لقد أتاني اليقين عند اقتراب الرجلين ، اقتحمت أنفي رائحة المسئول الكبير ، رغم ثرائه كانت له رائحة تشبه تعفن الجثث في القبور ، كأن ما التهمه من مال حرام في جوفه ، يفوح نتنا من بخار فمه ، الضريبة العادلة التي تُفرض على ناهبي حقوق الآخرين .

انتظرته حتى اتقرب وهجمت عليه قابضا على ساقه بين أسناني ، تساقطت الدماء ، رغم شعوري بالغثيان من دمه الزنخ ، ظللت قابضا على لحم ساقه حتى هاجمني الناس حاولت الهرب جرى ورائي أحدهم بعصا ، أصابني فسقطت وجروني إلى هنا ، قالوا عني مسعور ولا بد من قتله ، لكني فرحت بما سمعته ، فالجرح الذي أحدثته تلوث فبترت ساقه .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى