خير جليس لؤي حمزة عباس - ما تُنجزه القراءة

يقترح تزفيتان تودوروف في فصل بعنوان (التعايش والإنجاز)، من كتاب (الحياة المشتركة، بحث أنثروبولوجي عام)، مدخلاً واسعاً من مداخل القراءة تغدو فيه تجديداً للذات وإنجازاً للنفس، فالقراءة تسمح للإنجاز أن يتم "عن طريق التّماس نفسه الذي أدخل فيه بفكرة قوية أو بصورة لاتنضب: يبدو لي أن وجودي يتسع حقيقة"(1)، سيكون إنجاز النفس متصلاً باتساع الوجود وانفتاح آفاقه، مثلما يكون إتساع الوجود مبنياً على ما تسمح به القراءة من بناء للنفس، ثمة وجد تأملي وانشداد نحو المؤازرة تختزنه فكرة تودوروف وتفيض به جملته وهي تستغرق في النظر لعلاقة الإنسان بذاته وبالعالم، وما بينهما من ترابط شرطي، حينما تتسع الأولى وتمتد تتسع الثانية وتمتد، وحينما تضيق الأولى وتنغلق تضيق الثانية، بالضرورة، وتنغلق أيضاً. يأخذنا تودوروف لما يستلزمه جمال الفن من إدراك أكثر تعقيداً، "لأن الإدراك يستدعي، ليس الأحاسيس فقط ولكن المعنى أيضاً: هذا الذي يُعطيه الفن للتجربة الإنسانية"، وسريعاً ما يتولد في أذهاننا سؤال حال قراءة جملة تودوروف اللامعة، هل يمكن للتجربة أن تتحقق خارج لوامس الفن وآليات توليد المعنى التي هي جانب أصيل من جوانبه، وهل يكون للتجربة الإنسانية معنى بغير الفن؟ والنظر، على هذا النحو، لمعنى الفن وعلاقته بالتجربة الإنسانية، ينقض قولاً تأسس عليه فكر الجاحظ البلاغي وقد استحسن المعاني لندرتها، فهي بجملته ليست مطروحة على الطريق، ولا يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وليس الشأن "في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك"(2)، بل إن المعاني وليدة ما يكون من جماع بين الفن والتجربة بمعناهما الشامل وصلتهما العميقة، والقراءة، بينهما ومن خلالهما، تتحقق إنجازاً للنفس واتساعاً للوجود لا يخلو من سرور، إن الشعور بالشبع والامتلاء الذي تمنحنا إياه القراءة، "يوسع عالمنا العقلي، ويعطينا مزيداً من المعنى ومن الجمال"، ولن يكون الجوع والعطش لمزيد من القراءة، وذلك ديدن كلِّ قاريء مخلص، سوى تعبير عن توقنا لسعادة الشبع والامتلاء، إن القراءة بتساميها على العادة والتكرار، تتحدّد بوصفها "طريقة للأستمرار في كائني"، وهي الطريقة المثلى لتوسعة دروب الكائن وإثراء تجاربه. والقراءة النوعية وعد مستمر بتذوق ملذات فريدة، أكثر ديمومة من الملذات العادية، وهي في الوقت نفسه، توسعة لعوالمنا العقلية ومنحها مزيداً من المعنى والجمال، إنها لذة فريدة نادرة بالفعل: أن "يصل الكاتب الذي أقرأه إلى صوغ ما كنت أُحسه بالكلمات"، إننا نقرأ، من هذا الجانب، لنُنجز ونكتشف، فكلُّ قراءة إنجاز واكتشاف بحسب طريقتها، ومن هنا تتعدّد إنجازات القراءة وتثرى اكتشافاتها، وهي تضيء أكثر من منطقة من مناطق التجربة الإنسانية لم نُدرك وجودها من قبل، لتحقق القراءة إنجازها بوصفه تعديلاً للتاريخ الذي بدأ مع الصراع المؤدي إلى ظهور السيد والعبد، والاعتقاد بإن تاريخ الإنسانية ليس شيئاً آخر غير تطور هذه العلاقة بين السادة والعبيد. تغيّر القراءة كلاً منهما في معادلة التقابل التاريخي، وتغيّر موقعهما بما تضفيه من إنجاز للنفس الإنسانية لا يغدو معه السيد سيداً ولا العبد عبداً، إنهما يتغيّران بتغيّر نظرتهما للعالم الذي لا يغدو عندئذ مغلقاً على نوعين من البشر، نوع المنتصرين السادة ونوع المهزومين العبيد، لكن العالم لا يكون بهما فحسب، ولابد من حضور ثلاثي يشكّله مقاتلان وشاهد تميّزه قدرته على التسامي على النوعين وتحديد موقف أزاء ما بينهما من صراع، يقول القاريء: لا تريد لي نفسي أن أكون منتصراً ولا مهزوماً في تاريخ الصراع الذي عُدَّ تاريخ الأصل الإنساني، لست مفصلاً فيه ولا يمكن لأي قاريْ أن يكون. وذلك خير تفسير للصورة الفوتوغرافية التي شغلتني طويلاً منذ رأيتها أول مرّة، لثلاثة من القرّاء يبحثون عن الكتب في مكتبة هولاند هاوس المهدّمة، غرب لندن، بعد قصفها بالقنابل في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/ أكتوبر 1940، بالتأكيد لم يكن انشغال هؤلاء القرّاء في مكتبة مهدّمة وسط دمار الحرب العالمية الثانية انشغال الفاقدين عقولهم، بل إن وقفتهم شبه الخيالية أمام رفوف الكتب المرمّدة وهم في كامل أناقتهم، محاولة أخيرة للتمسك بأنوار العقل في واحدة من لحظات التاريخ المعتمة، إنهم ليسوا بالسادة، أفكّرُ، ليس للسادة شغف يدعوهم للاطمئنان على سلامة الكتب في لحظة حالكة من لحظات الحرب، وهم ليسوا بالعبيد أيضاً، إن القرّاء الثلاثة مأخوذون بالبحث عن نوعهم الثالث الأثير، النوع الذي يُنجز ذاته مع القراءة ويجدّدها، في وقت يبدو العالم فيه رهين هدم الذات، وهم بانشغالهم التام عن كلِّ ما حولهم، يمارسون أقصى تمثل لجملة البير كامو وهو يتحدّث عن سعي الكاتب الرفيع للحيلولة دون أن تدمّر الحضارة نفسها، تلك مهمة سامية يتقاسمها كلٌّ من الكاتب وقارئه في أوقات الملمات، وذلك ما أسمع نداءه يتصاعد الآن: في المكتبة المهدّمة، وسط أكوام الخراب، يُطلق نداء عميق من أجل كائن حر إسمه الإنسان.



* مجلة (إبداع) المصرية، مايو 2022
.........

(1) الحياة المشتركة، بحث أنثروبولوجي عام، تزفيتان تودوروف، ترجمة منذر عياش، المركز الثقافي العربي، بيروت ط2/ 2010: 214
(2) كتاب الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، القاهرة، ج3: 131

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى