خير جليس لؤي حمزة عباس - اقتصاص التأليف

أول ما يصادفنا في تعريف ياقوت الحموي، في أيِّ كتابٍ بحثنا عنه، أنه رحالة جغرافي، ولد في بلاد الروم، وقيل في اليونان، عام 574 للهجرة، على الأغلب، ولقّب بالحموي لسيده الذي اشتراه بعد أسره وبيعه في بغداد، وتلك أركانُ حكايةٍ مكتملةٍ، ولادةٌ وأسرٌ وانتقالٌ وبيعٌ وشراء، حكايةٌ يخالطها الخيالُ ويوجّه مساراتها. لم تسر حياةُ ياقوت سيراً رَّخاءً آمناً، ولم يكن إيقاعها رتيباً مستقرّاً، فقد تنقّل بين البلدان منذ صغره، وتلك ركيزة مصيره، واليه وسيده التاجر عسكر بن أبي النصر البغدادي الحموي عامله معاملة الأب ابنه، فكان يصحبه في أسفاره وكانت أولها أسفار جزيرة قيس، في جنوب الخليج، وهي جزيرة شهيرة معروفة بالتجارة، بعدها، توالت أسفار ياقوت إلى بلاد فارس، وأرجاء الجزيرة العربية، وبلاد الشام، ومصر، وحين اطمأن مولاه لخبرته في السفر والتجارة، بعد أن كبر كلاهما، ياقوت صار على عتبات الرجولة، وسيده دخل في كهولته، أذن له أن يسافر بمفرده، وكان، خلال رحلاته، شغوفاً بتدوين ملاحظات وأفكار وبعض المرويات عن الأماكن والبلدان والمساجد والقصور التي يمرّ بها ويراها، ويدوّن أطرافاً مما يتناهى إليه من الحكايات والأساطير وكلِّ ما يراه غريباً طريفاً من محكيات المكان، حتى كانت تدويناته مادةً أولى من مواد كتابه الزاخر (معجم البلدان). يذكر ياقوت سبب تأليفه المعجم، أنه سُئل يوماً عن موضع سوق حُباشة، بالضم، وكان السائل نطقها بالفتح وأصرَّ على ذلك، فما كان من ياقوت إلا التحقق من الاسم، فتأكد له صواب نطقه هو، فقرّر أن يضع معجماً للبلدان، وإنه لسبب وجيه، تصحيف حُباشة إلى حَباشة، للشروع في تأليف معجم، وذلك ما يثبته في ديباجة معجمه، ترى، هل نسلًم مع ياقوت بكفاية ما يُثبته سبباً أوحد لتأليفه، إذا ما استعدنا سيرته وقد طوى البلدان مرتين، أسيراً متاجَراً به مرّةً، وتاجراً نابهاً مرّةً أخرى؟ سيكون زلل النطق سبباً قريباً يُخفي سبباً أبعد في الزمن وأمضى في النفس، إنه التنقّل، مرغماً مرةً وراغباً أخرى، كأن ياقوت في تنقّله الطويل ياقوتان يزيح أحدهما الآخر من دون أن يغيّبه أو ينساه، وكأن الحموي يمحو جغرافيا الأسر بجغرافيا التأليف، وقد ترى قراءةُ المعجم أن ياقوتاً الرومي يقتصُّ من ياقوت الحموي بتأليف معجمهما، فيكون التأليف اقتصاصاً، الياقوتان يقتصّان من تنقلّهما في البلدان راغمين وراغبين بتأليف معجم فريد، إنهما يثبّتان السفرَ عبر تدوينه بعدما تنقّل بهما، وهما يقلبان الاقتصاص بمنحه معنى جديداً، وقد صار التنقّلُ مصدراً خصباً من مصادر كتابهما والسفرُ مورداً واسعاً من موارده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى