د. وفاء الحكيم - صهيل العطش

كفرس جامح يركض لاهثا في صحراء شديدة القيظ خلف سراب لا يراه احد سواه . يجر قدميه ، يخطو بوهن في رمل ساخن خلف الذي يخايله، وأنا كنت أعدو خلفه بخطى متسارعة ، أحاول دائما أن أصل اليه لكنني دوما لا استطيع ، يردد في أذني : سأصل في هذا العام... سأصل في العام القادم .
: لا تقلقي لقد قربت المسافة ، سأحصل علي الدكتوراه في القانون الدولي وسأعمل في الأمم المتحدة ، سنترك الاوجاع والأحزان والزحام الذي يكبلنا ويجثم علي صدورنا وسنعيش كأحسن ما يكون ،ونتمني .
للكلمات التي ينطق بها بريق خافت .. بل بريق ذابل... بل ذبول باهت في روحي المختنقة بين أضلعي. أصبحت أحس وكأنني ثور يدور ويدور مغمض العينين في ساقية ، يتحرك حركة روتينية كبندول ساعة قديمة معلقة علي جدار متشقق .
يعود من عمله كل يوم حوالي الثانية ظهرا ، يأكل اي شيء . لا يبدى استياءه اذا كان الطعام الذي اعددته ، قد زاد ملحه كثيرا ، وايضا لا يبدي استحسانا ان أعددت الطعام في مشواة الفرن وتركته ينضج هادئا متشربا كامل مرقه ، ومكتمل الشواء . يضبط جرس المنبه بعد ساعة ونصف تحديدا لكي يصحو ثم يصنع لنفسه كوبا من الشاي وفنجانا من القهوة بالتبادل .
لا يسألني عن شيء ، ولا يطلب مني أي شيء
ما أقساه حين لا يلتفت إلى أنه _ لا يطلب مني !!!!؟؟؟؟
تنصحني احداهن : يفعل ذلك لأجلك، لأجل مستقبلكما سويا ، حاولي ان تشغلي نفسك انت الاخري .
ما أسهل النصيحة، وما أسهل تطبيقها علي الآخرين واقساها علي أنفسنا.
صخب العمل ينتهي معي بلا قيمة ، أحاديث صديقاتي وزياراتهن المتكررة تصيبني بالسأم والاهتراء ، اتصفح مواقع التواصل كلها واعيد قراءة كل ما يصل الي من كتب ورقية ، اعيد مشاهدة الأفلام عدة مرات من (ريتشارد جير ) الي نيكولاس كيدج ومن (نجيب الريحاني) الي ( احمد زكي) ومن سعاد حسني في إشاعة حب الي عبد المنعم ابراهيم في سكر هانم اعيد النظر الي سكر وهو يتحدث عن سيقانه ولا اضحك ولا أستطيع بعد عدة محاولات فقط اتنهد حزينة متململة، وزوجي من وراء الباب يهمهم بالكلمات التي استطاع ان يحفظها عن ظهر قلب من آخر كتاب اشتراه .
اتوه في متاهات الصمت فلا اسمع سوي رنين المنبه في الرابعة عصرا حين يبدأ صخب همهماته ، وفي الرابعة فجرا حين يخلد الي النوم ينام ثلاث ساعات ثم يصحو وجلا للذهاب الي العمل .
اردد في نفسي اصبري اصبري كل ذلك لأجلك لأجل مستقبلكما معا ....
داخل حجرة النوم ارتدي ملابسي ، اجربها عدة مرات واتأمل عمق ألوانها، اجربها عدة مرات ثم اعود لاخلعها ، وأعود لالتقطها من علي الفراش وأعود لارتديها مرة اخري
اضع قطرات العطر ارش جسدي كله كل خباياي المنتظرة ثم اعود واستحم وازيل كل بقايا العطر
لبقايا العطر علي جسدي والممتزجة بلهاث انفاسي رائحة اخري ، تنبعث ، تنتشر ، تتضوع فتستحث الصمت برائحتها المختلفة تماما عن رائحة العطر الأصلية.
للفراش الممتد أمامي اشواك ناتئة كلما حاولت أن اتمدد واستريح أجد الاشواك تنبت من نار لتلسع اكتافي العارية، تتلاقي جذور الاشواك ، واشتعال نيرانها فيجف اللعاب داخل فمي .
أحس بالعطش ، يحتويني العطش ، يجرفني العطش ، يمتد العطش تنينا خرافيا بمئات الارجل والاقدام يمتد داخلي ويلتهم بمخالب يديه واقدامه _ فرحتي ونداوتي كلها .
أقف امام الباب المغلق عليه بضعا من الوقت اجهر بصوتي عله يسمعني : لن يضرك شيء ولن يضيع من وقتك الكثير ان حاولت أن تصلح لي -صنبور المياه - فأنا في احتياج كثير للمياه
لكنه لا يكترث ويرد غاضبا : حين انتهي من هذا القسم من هذا الكتاب .
لكنني لا استطيع الانتظار اكثر من ذلك فلا يوجد ماء في اي من هذه الأحواض!
احساسي بالجفاف بدأ يشتتني ويربكني وكلما بحثت في الأركان لا أجد نقطة ماء واحدة
احسست ان عيني وملمس جلدي وما خلف أذني جافة تماما وهو علي حاله لا ينتهي من الحفظ والمراجعة تركته بعدما انقطع الأمل والرجاء فيه ، فتحت باب الشقة وخرجت نزلت الي أقرب مكان دققت علي باب الشقة في الطابق الاسفل منا وطلبت منهم بعض الماء فملأوا لي وعاء كبيرا يكفيني لأصبح منداه ولو قليلا .... !!
ومرت الايام حتي اضطر ان يفتح لي الباب واخذني مضطرا الي الطبيب بعد أن سقطت مغشيا علي امام باب غرفته.
ابتسم الطبيب : مبروك المدام حامل وسترزقون قريبا بطفل يسرق النوم من عيونكم
اخذ يسب ويشتم ويلعن ويتهمني بالاهمال والتقصير وان وجود طفل سيؤخره كثيرا ...
ولم اسعد حتي بيني وبين نفسي لحظة ان عرفت انني سأصبح قريبا اما ، ذلك أن روحي كانت أيضا قد أصابها العطش فأصبحت في لحظة حياة او موت لا تتلذذ بالفرح او الحزن ولا تتلذذ بنزق تذوق الاشياء الجديدة .
وولدت الطفلة كانت هبه من السماء - لي وله كانت وكأنما صدي لرنين عطشي او رنين لصدى صمته ، كانت تملك الماء وكأنها محترزة تماما من العطش . كانت هناك بقعة ماء زائدة في دماغها قد اصابتها بضمور تام في كل خلايا عقلها .
كانت كتلة لحم طرية لا تبدي لها حركة او ساكنا ، لا تلتقي أعيننا فتنشأ بيننا لغتنا السرية بين الام وطفلتها كانت وكانما انشقت من خلاياه لا تحس بشيء حولها . مرة ظللت اتأملها ثم أحضرت عود ثقاب واشعلته ثم قربته من انفها راح الجلد يسخن وتصاعدت رائحة كرائحة الشواء ثم أوشكت ان تحترق دون أن يصدر عنها أي صوت ، لا تبكي ، لا تصرخ ، لا تبتعد ، لا يظهر منها اي رده فعل . كنت احس انها عقاب قدري له وليس لي ، جعلتني الطفلة أحس انني لا أعي لوجودي المتماهي وجودا حتي حين اسمع جرس المنبه في الرابعة عصرا في الرابعة فجرا .
: سأنتهي من الدكتوراه وسأتركها في اي دار لرعاية (المعاقين ) لن اجعل كتلة لحم صامته تحول بيني وبين الحياة ،،، الحياة تناديني هل فهمت ؟؟؟
نعم فهمت الدرس جيدا من كان معاقا فليذهب للعيش في إحدى دور المعاقين .
تركت له الطفله .. حين يجوع ويضطر الي فتح الباب سيجدها ، اما انا فقد اغلقت الباب ورائي بهدوء ونزلت الي الشارع خطوت ثم هرولت مسرعة ورحت اتنفس بعمق واغوص فلا يعرفني احد وسط الدخان والضجيج والزحام والالفاظ النابية البذيئة .

د. وفاء الحكيم

* القصة من مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى