بدوي الدقادوسي - ليست الطبعة الأخيرة

خار مهزوما بعد مقاومة مستميتة لشمس حارقة وأرض جافة، ألقى فأسه، حاول تجفيف وجهه بكمه الذي تحول لإسفنجة مشبعة بالطين والعرق، لاذ بالشجرة الرابضة على رأس الحقل، رأى ظلها الباسم مقبلا، نهض حاملا عنها الجرة وبؤجة محكمة الربط، ارتكزت على ركبتيها نصف جالسة تفرج البؤجة عن أرغفة عجفاء، قالت بأسى: ثلاثة أشهر وأنت تحرث الأرض انتظارا لقدوم النيل .
رفع الجرة ليسد تشققات حنكه، رد ومازالت الجرة بيمناه: انتصف شهر (مسرى)والنيل يرفض القدوم، نقص ماؤه خمسة أصابع وانكشف الحجر الراقد عند فم الخليج تحت الحجر القائم وبدت سوءة الترعة وخشب الطنبور تشقق ودلو الشادوف علاه الصدأ .
حاولت مواساته، غيض الكلام في قاع حلقها، ألقت بدلوها بكل قوة في عمق عمقها : عارف يا يوسف قابلت مين في السكة حالا؟
سألها بعينيه .
خالتي روايح الداية، قالت لي: مالك يا بت ؟ مناخيرك خنشرت وخدك بقى زي الجميزة العجر ؟ أنت حبلى في صبي، خالتي روايح كلمتها عمرها ما خيِّبت، هنسميه إيه؟ اسمع : نسميه نكتل .
بدهشة : يعني إيه نكتل ؟
معقولة، أنا اللي هعرّفك؟! نكتل أخو سيدنا يوسف، عشان يكون لك أخ وسند .
هو يوسف كان له أخ اسمه نكتل؟
إيوه؛ مش إخوته قالوا لأبيهم: " فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ؟!"
جلجلت ضحكته، تحولت من نصف جالسة للقرفصاء، شاركته الضحك دون أن تسأله عن سر ضحكه، اكتفت بأن جعلته يضحك .
اسمع يا يوسف: زينا زي غيرنا؛ نسيب الأرض وننزل البندر، أنا مخبيّة كيس رز وكيس حلبة للسِبوع، ناخدهم ونبيع رز بلبن عند الحسين، شِالله يا حسين .
صوب نظره لبطنها المنتفخة: هنروح الحسين مش عشان نبيع رز بلبن؛ عشان أقابل الشيخ عمر مكرم .
- وأنت عارف الشيخ؟
- زي ما أنا عارفك كدا.
مطت رقبتها وحروفها، هوت براحتِها على صدرها متصنعة الدهشة: عارفه زي ما أنت عارفني ؟! ياليلة سوخة، يعني كان متزوجك؟!
ضحك عاليا كما اشتهت: دمك خفيف يا مضروبة يا أم نكتل .
ساد وجوم، شَخَصَ ببصره كأنما يقرأ من كتاب: من تسع سنين عُدتُ من الكتَّاب، استقبلني أبي بابتسامة: من اليوم لن تذهب للكُتّاب، سحبني من يدي لدكان "ميني فاتورة " طلب من الترزي تفصيل جُبة وقفطان، التفت نحوي بزهو " من اليوم ستكون من المجاورين.
في الصباح وضع الأرغفة في زُعب الغبيط وجرة المِش في الزُعب الآخر، ألبستني أمي -رحمها الله – الجبة والقفطان وهي تزغرد، حملني أبي بحرص لأعتلي ظهر الحمار، سرنا والبلد كلها تشيعنا بالدعاء والزغاريد وأبي يرد التحية بسعادة ، يوم بِطولِه حتى وصلنا حارة الشنواني بالجوهرية ناحية زاوية العميان جنب المشهد الحسيني، دخلنا مجلس الشيخ وبعد العشاء أعطى أبي ورقة لشيخ المذهب الحنفي بالأزهر .
توقف عن الكلام، غامت عيناه، أكمل بصوت متهدج ... بات أبي بجواري في رواق المجاورين الشرقي، في الصباح اصطحبني للشيخ وهو ينظر لي بين الفينة والأخرى:" والله وبقيت شيخ يا يوسف " ما إن اتخذت موقعي بالحلقة واستدار أبي عائدا حتى صمّت القذائف آذاننا، قام الطلاب كلٌ يلوذ بمخبأ، تحولت ساحة العلم لساحة وغى، سحبني الشيخ لغرفته، لم يتوقف دوي القذائف حتى الصباح، ما إن هدأتْ حتى هرعتُ لبيت الراحة، عدت لأجد الشيخ يبحث عني، نظر نحوي بإشفاق ، سحبني بصمت خارج الساحة وصلنا لبيت الشيخ عمر، نظر نحوي بحزن، قبّلني قائلا: أنت رجل ولابد أن تعرف أن أباك مات شهيدا؛ رفض أن يعطي حماره للفرنجة ليجرسوا عليه الشيخ البشتيلي فأردوه قتيلا ... الكلام أكبر من عقلي وثوب الحزن أوسع من جسدي وصخرة الألم أكبر من أن يحتملها كاهلي .. لم أنبس بكلمة .
قال الشيخ : اسمع يا ولدي، طلب العلم فرض كفاية والسعي على الأبوين فرض عين ، خذ هذه الورقة لناظر الأوقاف في شبرا وتسلم أرضك والزم قدميّ أمك .
قبل أن تفتح الشمس عينها رفع يوسف زوجته لتعتلي ظهر الحمار، حاول جاهدا إغلاق باب لم يغلق من سنين، انحنى يزيح الطين الذي علا عتبته، ما إن أغلق الباب حتى وضع مفتاحه بجيب الصديري، تأكد من استقراره بقاعه، ألقى على الدار نظرة طويلة .
لم يكن بحارة الشنواني موضع لقدم، مال على أقرب أُذن : لم هذه الحشود يا بلدينا؟ نظر الرجل نحوه بدهشة: لا يوجد ببر مصر من لا يعرف أن اليوم ختان صالح ابن السيدة نفيسة بنت الشيخ عمر مكرم وأن الباشا محمد علي مدعو.
أحكم قبضته على مقود الحمار شق الجموع حتى وصل لساحة الدار ، أشار لزوجته إلى باب الحريم، اتجه للغرفة الملحقة بالقاعة مشمرا عن ساعده حمل صينية عليها أكواب الشربات وأخذ يدور بها على الجالسين بالقاعة .
همهمات بين الحضور: هل سيأتي الباشا ؟ عمّ صمت، اشرأبت أعناق؛ فصدر القاعة يُخْلى بسرعة، الباشا يسير بخطى وئيدة على يمينه فيلكس فانجان قنصل فرنسا وعلى يساره عبدالله باكتاش ترجمانه الخاص .
دارت عين القنصل بدهشة في الحاضرين، هاله الحشود، مال على أذن الباشا: اقتلاع الشيخ مستحيل؛ صار رمزا للمحروسة بعد رحيل حملتنا وخلعه لخورشيد باشا وتصديه لحملة فريزر !
- ولم نقتلعه ؟ سنخلي من حوله ليسقط وحده.
- كيف؟
ضغط الباشا على حبات مسبحته، أخذ يفِرُ حباتها بسرعة وعصبية حتى وصل للشاهد فأقصى الحبات عنه وضغط على الخيط فبدى الشاهد مشنوقا يتدلى من حبل، رفع المسبحة لأعلى، تركها تسقط في حجره، نظر نحو القنصل مبتسما: دقيقة وسترى الإجابة حية تسعى .
توجه الشيخ للباشا والأنظار معلقة بشفتيه: شكرا يا باشا على الهدايا والتعابي، ما كاد يتم جملته حتى لحق به الشيخ السادات وخلفه شيوخ المذاهب الأربعة، انحنى السادات طويلا وهو يردد عبارات الترحيب، بصوت خفيض وخطوة ضيقة تقدم السادات: نأمل بهذه المناسبة السعيدة أن تستجيب لطلباتنا .
حدجه الباشا بنظرة متصنعا الغضب .
- ليس هذا وقته يا شيخ .
- رفع المظالم ليس له وقت .
- لست أنا الظالم ، بل أنتم .
صمت مريب وتطلع ملهوف حسمه الشيخ عمر مكرم: هل نحن من فرض ضريبة المال الميري على الأراضي الموقوفة وعلى أطيان الأوسية؟
هل نحن من أمر حكام الأقاليم بالاستيلاء على الأطيان إذا لم يسجل أصحابها حجج إنشاء الوقف؟
احتد الباشا، مد صدره للأمام رمق الشيوخ بحده: ألم أعفُ أملاككم وضياعكم من دفع ضريبة الفائض ومع ذلك تقتضونها من الفلاحين ؟
عندي دفتر فيه ما تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ألم تشتروا ضياع العاجزين عن السداد بأبخس الأثمان؟
انسحب السادات وخلفه الشيوخ.
صاح الباشا: ديوان أفندي .
هرع رجل قصير القامة يحمل أوراقا، انحنى حتى كادت رأسه تلامس أقدام الباشا ثم اعتدل منتصبا : تمام أفندينا .
لم يأبه الشيخ بما يدور: إذا استمر إصرارك ولم تُعَدِل مشروعك في فرض الضرائب وتماديت في مظالمك سنكتب للباب العالي ونؤلب عليك الرعية وننزلك من كرسيك الذي أجلسناك عليه، أنت مخادع تمسكنت فتمكنت.
الصدور تعلو وتهبط والعيون تترقب والشفاه ترتجف والباشا يتصنع الثبات: عد يا شيخ عمر كما عاد المشايخ واترك شؤون البلاد لمن يعرف؛ سقط عنكم واجب الجهاد وليس لكم من دور سوى إطعام دواب العسكر، اتل يا ديوان أفندي ما جاء بعريضة الباب العالي بشأن جرائم الشيخ .
عم صمت مترقب، شقه صوت الرجل القصير " لما استقر بضمير الباب العالي خليفة رسول الله وراعي حمى الإسلام أن السيد عمر مكرم أساء للأشراف بإدخال عامة الناس وأصحاب الديانات الأخرى من أقباط ويهود في النسب الشريف مقابل مال والتواصل مع أمراء المماليك للاستقلال بمصر عن الخلافة الإسلامية فقد تقرر :
عزل الشيخ من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ محمد السادات .
عزل الشيخ من نظارة أوقاف الإمام الشافعي ووقف سنان باشا ببولاق وتعيين الشيخ محمد المهدي القبطي .
نَفْي الشيخ عمر مكرم لخارج البلاد .
سادت همهمة بدأت تتحول لهمس مسموع، أسرع العسكر فصنعوا جدارا عازلا بين صدر المجلس وبقية القاعة، أتى صوت الشيخ لأسماعهم مخترقا الجدار: أما منصب النقابة فإني راغب عنه ، زاهد فيه وليس فيه إلا التعب، أما النفي فهو غاية مطلوبي، سأرحل غدا؛ فأنا متعجل أن أكون ببلد لا يصله ظلمك .
بلهجة حادة قاطعة : الآن، الآن وليس غدا.
أشار محمد كتخداي الألفي للعسكر فساروا به فتحول الطريق لبولاق لمشهد؛ لا تظن أن هناك مخلوق ببيته، العامة تبكي والشيوخ تتباكى حتى أُنْزِل الشيخ في المركب، توجه العسكر لنزع كُلاب الهلب من الطين، اخترق يوسف الصفوف، ألقى جسده على الهلب، حاول الجنود إقصاءه لكنه استمات، أخذوا يدقون عنقه بمؤخرة بنادقهم، مد يده جاهدا، أمسك ببيادة أحدهم؛ فسقط، حاول العسكري انتزاع قدمه فانفلتت البيادة، ارتخت اليد، تيقن الجميع من وفاته، ركله أحدهم ببيادته فانقلب على ظهره، سال الدم من فيه، سلمه الطين بحرص إلى الموج، بقع القاني تتقافز على كتف الموج، أوشكت أن تلامس المركب في الأفق البعيد، تحول الرجال إلى سيقان تنسحب فرادى وجماعات وهي تنوء بذقون تدلت للصدور اختفت بينهما رقاب مقمحة، تحركت زوجته، صارت قاب شبرين أو أدنى من الرأس المهشمة، أحاط بها العسكر مصوبين فوهة بنادقهم لرأسها، خرجت من شفتيها كلمات مبللة بدموعها : لا تخافوا فلن أقُولُ:هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ، ولن أسأله عن سبب ضحكه حين اخترت لابنينا اسم نكتل، سأكتفي بأن أراه يضحك وأنا آخذ المفتاح الراقد في الصديري وأهمس في أذنه: للبيت رب يحميه، درات بعينيها في وجوه قُدَتْ من خشب، أرجعت البصر كرتين، لم تعثر على بقايا للإنسانية بين الألواح، رجع بصرها لبطنها وهو حسير، مدت يدها ببطء، أمسكت البيادة، وضعتها على رأسها، ارتكزت على ركبتيها وقد ألصقت ظهر كفها الأيسر مبسوطا على فخذها وأخذت تدق عليه براحة يمناها وهي تهز كتفيها كغجرية تدبك، تراجع العسكر قليلا، نفذت النساء من فرجة دائرتهم التي اتسعت، تحلقن حولها، صنعن صنيعها ، أخذتْ تحدو فيهن : " الرز اتبعتر ....وهن يرددن ..... لموه لي .... وحبيبي غايب ..... هاتوه لي "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى