د. محمد عبدالله القواسمة - حول فيلم "الحارة"

فيلم "الحارة" فيلم روائي أردني طويل شارك، منذ ظهوره في منتصف العام 2021م، في كثير من المهرجانات الدولية، منها: مهرجان روتردام السينمائي الدولي، أحد أقدم المهرجانات في أوروبا والعالم، وأشاد به مهرجان مالمو للسينما العربية في السويد. وفاز بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ39 من مهرجان الفيلم الدولي الأول في أنوناي بفرنسا، وابتدأ عرضه في هذا العام 2023م على منصة نتفليكس العالمية.

قام بإخراج فيلم "الحارة" وكتابة السيناريو باسل غندور المخرج المعروف. وهو نفسه المؤلف المشارك والمنتج لفيلم "ذيب" 2014م الذي ترشح لـجائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل توزيع جوائز الأوسكار. واشترك في تمثيل "الحارة" ممثلون وممثلات من الأردن وفلسطين والعالم العربي، مثل: منذر ريحانة، وميساء عبد الهادي، ونادرة عمران، ونادرة خالد، ونديم الريماوي، وعماد عزمي، وإبراهيم نوابنة، ومنى شهابي.

تدور أحداث هذا الفيلم في زقاق شعبي، بيوته متقاربة وقديمة وفقيرة، تحيط به وتشرف عليه منازل وبنايات شاهقة. لا يذكر الفيلم الزقاق بالاسم، وإن كان يُظن أنه أحد الأزقة من حارات المناطق الشعبية في عمان، مثل: جبل النظيف، والمريخ، والوحدات، ومخيم الحسين وغيرها.

يقدم الفيلم شخصية المعلم عباس بلطجي الحارة الذي يقوم بدوره الممثل منذر رياحنة، وتساعده على إدارة العصابة هنادي (ميساء عبد الهادي) ومنافسه الآخر على السيادة المعلم علي (عماد عزمي). ويشتد الصراع بين المعلمين حين تلجأ أسيل (نادرة عمران) صاحبة صالون نسائي للتجميل إلى المعلم عباس كي يخلصها من ذلك المصور الذي حاول أن يبتزها عندما صور ابنتها لانا (بركة رحماني) في لقاء حميمي مع المعلم علي. ويحتد الصراع حين يضرب المعلم عباس المعلم عليًّا، ثم يرد له علي الصاع صاعين ويصيبه بعاهة في لسانه. وهكذا تتولى أمور العصابة مساعدته هنادي. وفي النهاية يتخلص عباس ومساعدته من بعض أفراد العصابة، ويتمكن أحدهم من قتل عباس، ثم تقتل أسيل أم لانا عليًّا. وتنتهي هذه الجولة من الصراع، وتعود الحارة إلى ممارسة حياتها الروتينية بعد جولات القتل.

يلاحظ أن فيلم "الحارة" متأثر كثيرًا بالأفلام والروايات المصرية، التي تناولت الحارة والأحياء الشعبية المصرية، التي تكثر فيها الجريمة والمخدرات وأعمال الدعارة، كما في كثير من روايات نجيب محفوظ. ويبدو الفيلم قد تأثر على وجه الخصوص بفيلم "الشيطان يعظ" المأخوذ من قصة وردت في كتاب بهذا العنوان لنجيب محفوظ، وعنوانها "الرجل الثاني". والفيلم من إخراج أشرف فهمي عام 1981م. تدور أحداث الفيلم حول عالم الفتوة في الحواري المصرية القديمة، حيث يقوم على صراع بين معلمين كبيرين: الديناري والشبلي (فريد شوقي وعادل أدهم) اللذين يتنافسان على السلطة، وما يتصل بها من حب الذات، والاعتداد بالذكورة، والسيطرة على البشر، وفرض الإتاوات وتملك النساء، حتى إنهما استخدما العنف والقتل في سبيل ذلك.

وقصة فيلم "الحارة" كما يبدو غير محبوكة جيدًا. فالمؤلف يحرك الشخوص كما يشاء، ويأتي بها في الوقت الذي يريده، ويقفز بالأمكنة إلى حيث شاء، ولا يكون للحارة نفسها تأثير كبير في الشخوص أو الأحداث، فمع أن الزقاق شعبي فقير فإن ظاهرة الغنى ظاهرة على شخوصه في السيارات التي يملكونها خاصة عصابة عباس، ووجود صالون للتجميل، الذي يستقدم بنات الليل لتجميلهن قبل القيام بأعمالهن، وظهور مصور ليبتز الناس بصورهم العارية. فهذه المظاهر لا تجتمع في مثل هذه الحارة، أو حتى في أي منطقة شعبية تعاني من الفقر والحرمان والتشبث بالحياة.

إن ما يجري في الزقاق بعيد عن سكانه وهمومهم، فالشخصيات والأحداث في واد وما عليه حياة الناس في واد آخر. وكأن الزقاق قد من الخيال منقطعًا عن قوانين الحياة والمجتمع، مع غياب تام للدولة وأجهزتها مما لا تحتمله أي عوالم فانتازية، فلم يكن هم المخرج الكاتب غندور غير تقديم فيلم يقوم على الجريمة، والإغراء الجنسي، وانعدام المشاعر الإنسانية بين أبطاله. سواء بين عصابة المعلم عباس، أم بين علي ولانا، أم بين صاحبة صالون التجميل وعائلتها. وتأتي الألفاظ والتعابير البالوعية ملائمة لهكذا أجواء. فلا هدف للفيلم غير التشويق من خلال القتل والجنس.

وإذا ما قابلنا فيلم الحارة بفيلم "الشيطان يعظ" نجد أنه لا يحمل أية فكرة عميقة أو رموزًا إنسانية تعمق حبنا للحياة، وتعزز صمودنا لتحمل أثقالها، بل في نهاية الفيلم تثبط همتنا خاصة حين تعود الحياة في الحارة إلى رتابتها وبؤسها كما بدأت من قبل. في حين أن فيلم "الشيطان يعظ" يحمل معاني كثيرة، ويمكن النظر إلى الصراع بين المعلمين الديناري والشبلي بأنه يرمز إلى الصراع في منتصف القرن الماضي بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي للسيطرة على العالم. وينتهي الصراع في الفيلم بظهور الأمل الذي ترمز إليه ولادة طفل في المشهد الأخير من الفيلم.

في النهاية، لعلنا نجرؤ، مع احترامنا لحرية التعبير والرأي، على القول: إن فيلم "الحارة" يُغيّب قدرة الممثلين المتميزة من خلال تغييب أي مظهر من مظاهر الأخلاق الحميدة، أو الدفاع عن الشرف أو الكرامة، ليجسدها في إظهار جانب من الثقافة الغربية الذي يقوم على العنف والجنس وتسليع القيم. وهو الجانب الذي يريده الغرب أن يتحقق في الشرق العربي بصورة رئيسية في الأعمال الفنية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى