عبدالجواد خفاجى - تقول التقارير

فى أحد شوارع القاهرة الكبرى كان يسير متجهمًا كعادته ، تاركًا قدميه تقودانه إلى حيث توقف أمام المقهى البلدى بحىِّ الحسين ، وقد مازجته رغبته الكبرى فى فضح البشرية .

( تقول التقارير إنه وعندما خرج من بطن أمه كان يبكى كثيرًا ، لكنه كفَّ عن عادته تلك عندما تحدرت الدموع من عينيه فوق شفاه قومٍ لا تفارقهم البسمة .. أدرك يومها أن القطب البارد قد تحدب فوق الكرة الأرضية كهلالٍ معقوف ، واستأثر بالمساحات المشاع ، وأن الناس أيضًا هياكل ثلجية ) .

كان المقهى كعادته حافلاً بوجوهٍ لم يألفها من قبل .. تنبأ عندما وضع القهوجى الشيشة أمامه أن ثمة خوارق فى الكون ستحدث على غير ما يألف .. سيتبدل حاله تمامًا ، وربما لن يصبح طريدًا إلى الأبد .. هكذا ربط بين الشيشة والغيب . لقد تخيَّل عندما دبت رجلاه خارج غرفته القذرة أن القهوجى سيضع الشيشة عن يمينه فوق البلاطة التى تلى رجله اليمنى مباشرة ، قليلاً جهة الأمام ، وهو الجالس على مقعد أسود خلف منضدة فى الركن الشرقى من المقهى ، وقد حدث مثلما تخيَّل تمامًا .

مرة أخرى ربط بين الشيشة والأحداث عندما اقترب منه رجل مجهول .. هيئته تماثل أبا الهول تمامًا ، غير أنه ثلجىُّ المُحَيَّا .. يجلس دائمًا ماسكًا بجريدة قديمة ، أقسم " حيدر" إنها لم تتغير منذ أن رآها للمرة الأولى ، مستسلمة لوقعتها " المنيَّلة " بين يديه .. سأله عن رأيه فى حرب الــ.... اقتحم صمته وتجهمه ، وهتك سكينته بسؤاله نحو أذن حيدر ، وقد أطلت رأسه فوق الجريدة قليلاً .. قال حيدر: " سأجيب عندما يُحْضِر القهوجى الشيشة " .

يتذكر حيدر أيضًا أنه قال ، وقد وُضِعت الشيشة عن شماله : " لن يكون بمقدورنا العيش بسلام فوق الكرة الأرضية .. يبدو أن الكون قد احدودب كى يتسع ، ولربما كى ينفجر " ، لكن الرجل البارد كان لحوحًا .. أراد أن يخترق صدر حيدر بكلماته الناعمة ليدكَّ كل مقدساته بيديه ورجليه ، ويمضى منتهكًا كل الحرمات .. أو سيظل هكذا صامتًا ، ومؤرَّقًا جالسًا خلف صفحة الجريدة ، متلصصًا على لحية حيدر ووجهه المكفهر المنكمش تارة المنبسط تارة أخرى ؟ .. لقد أصبح وجه حيدر محيَّرًا : لماذا ينبسط حينًا وهو ينظر إلى التلفاز .. ما الذى يعجبه بالضبط ، وما الذى لا يعجبه ؟ .

عاود السؤال بصيغة أخرى :

ــ هل تذهب إلى السينما هذه الأيام ؟.

ــ لا أجد ما يشجع على ارتيادها ، لكننى على أية حالة أُفَضِّل الأوبرا وحفلات الأوركسترا السيمفونى .. لولا .... لولا ضيق ذات اليد لذهبت .. أتذكر أننى لم أذهب منذ وفاة أبى .

وأضاف بعد فترة صمت قصيرة :

ــ هل سمعت عن بيتهوفن ؟

وقبل أن يتلقى جوابا كان الرجل البارد يطوى جريدته مغادرًا المقهى ، وثمة دلائل قد تبدت فى ذهنه مفادها أن لحية حيدر لا تشكل خطرًا .

( تقول التقارير إن حيدر عاش طفولته متنقلا بين باكستان ولندن والقاهرة ، وتعلم فى المدارس الألمانية بها حتى توفى والده الذى كان يعمل ــ فى أواخر أيامه ــــ سكرتيرًا بمنظمة الأمم المتحدة ، وتقول أيضا أنه من أصل ألبانى ويحمل جواز سفر باكستانى ، وأن والدته من أصل أرمينى ، وإن والده تزوجها بمصر ، غير أن شيئا عن موطنه لم يكن واردًا ضمن التقارير ) .

تساءل حيدر وهو يتابع الماتش على شاشة التلفزيون بين فريقى قطبى الدورى الممتاز :

ــــ لماذا لا يتركوننى أعيش ؟

وفى اللحظة الحرجة من المباراة كان حيدر يعدو فوق أرض الملعب .. وكانت الجماهير تصفق للمساته السحرية .. أضخم لاعب كان فى الملعب .. تماما مثلما أراد له والده أن يكون .. قويًا ..دوليًا .

ــــــ ها أنا يا أبتِ قد كنتُ دوليًا كما أردت ، وقد تركــتنى و مِتَّ ، وأنا الآن بلا وطن ! .

( تقول التقارير إن حيدر كان لاعبًا دوليًا ضم الفريق القومى لباكستان .. لعب فى معظم الدول الآسيوية ، ولذلك تعاطفت معه الحكومة الباكستانية وقتها ، ومنحته حق المواطنة ) .



ــــــ حتى اللغة الأردية قد تعلمتها يا أبتِ ؛ كى أعيش بينهم ومع ذلك تبقى المشكلة فى الجذور .. لم تكن من ورقةٍ واحدةٍ موشومةٍ فى أى موضعٍ فوق الأرض تعترف بى !

وفرغ حيدر من الشيشة التى يرضع مبسمها رضعًا ، وأخرج من جيبه حبةً مهدئةً .. تناولها سريعًا ، وطلب فنجان قهوة سادة .

أتاه رجل مهندم .. وضع شيئًا ما، ملفوفــا فى ورقة جرائد على المنضدة وطلب الجرسون .. ناوله جنيهــا وقال :" حساب حيدر عندى ".. أرتاب الجر سون للحظة وتناول الجنيه ، غير أن حيدر سأله بهدوء :

ــــــ أوهل تعرفنى ؟

ــــــ نعم .. الرجل الطيب يعرفه الجميع .. أنت زبون دائم فى هذا المقهى ، وأنا أيضًا ، لكنك تفضل الجلوس فى هذا الركن الذى لا يستهوينى .

وأضاف بعد فترة صمت قصيرة :

ــ تلعب طاولة ؟

ــ لعبت كثيرًا

ــ طاولة ؟

ــ كل الألعاب .

ــ إذن فلتلعب معى طاولة.

ــ لم يبقَ من رغبة فى شىء .. أود الانصراف .

ــ كنت قد سألتك عن رأيك فى حرب الــ....

ــ وأنتم تفتشون عن موتتى ، دعونى أفتش عن رقدتى .

ــ ها .. مستر حيدر .. ماذا تعنى ؟.

ــ لست أدرى ؛ فالكلمات كالخطى .. تسترسلنى ولا أسترسلها .

أتذكر أننى سألتك عن رأيك فى ....

ــ ستفوز الفالنة الحمراء .

ــ أو هل تفهم فى الكرة ؟ .

ــ مثلما أنكم تفهمون فى اللون الأحمر .

ــ مستر حيدر .. سألتك عن رأيك فى حرب الــ ....

ــــ لقد سألنى مخبر سرى قبلك ، وقد أجبت ! .

وانصرف حيدر لعد أن ألقى نظرة امتعاض إلى وجه الرجل الناعم ، وثبت نظره قليلاً على شامة تحت شاربه الحليق .

ــ الجينات الوراثية مسئولة عن التخلف العقلى والذكاء أيضًا !.

( تقول التقارير إن والد حيدر ـ رحمه الله ـ تزوج بوالدته التى كانت تعيش فى مصر بعد الحرب العالمية الثانية ، وهو مجهول الأصل ، لكن حيدر يؤكد أن والدته مصرية ، ويستند فى أسلوبه المقْنِع على أوتاد غائرة عن منظار القوانين الحديثة .. فهو يقول : طالما أن والدته وُلِدتْ وعاشت فى مصر فما يمنع من مصريتها ؟ وبخاصة أن والدتها مصرية الأصل ، ويحدد حيدر عائلة جدته ، ويضيف : وأنا أيضًا ولدت هنا ، وسأموت هنا ؛ فما الذى يمنع من مصريتى .. لماذا إذن يضايقوننى هكذا ؟ ) .

خطر فى ذهنه وهو يسير فى جنبات الليل أن يكتب إلى الجمعيات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان .. أو هل تعجز البشرية عن منحه وطنًا قوميًّا ؟ .. على الأقل يعيدوه إلى الأرض التى منحته حق المواطنة .. فهو لم يأتِ هذه المرة إلى مصر إلا من أجل البحث عن أصله .. عن ميراث من والدته يعزز نسبته إلى أرض الله الواسعة ، لكنه لم يجد سوى الضياع ، وأقدام البوليس .. رجل مسن مثله كيف له أن يدبر ثمن تذكرة العودة؟ .

( تقول التقارير إن حيدر حضر قبل ذلك إلى مصر فى حيلة والدته ، ومكث بها ثلاث سنوات دون أن يُمنح تصريحٌ بالإقامة الدائمة ، وظل مخالفـًا القانون ، وعندما قُبِض عليه ، وأُخْطِرت السفارة الباكستانية بحالته اعتذرت عن دفع ثمن تذكرة سفره بحجة أنه شخص لا يمتُّ إلى الباكستان إلا بهذه الورقة المسمَّاة " جواز سفر " غير أنه شخص غير مرغوب فيه ، وليس له أهل هناك يمكن أن يردوا للدولة قيمة تذكرة السفر المطلوبة) .

ــ للمرة الثانية يطاردنى البوليس يا أبتِ فوق أرض القاهرة الكبرى .. وأنا .. أنا عاجز عن تدبير ثمن تذكرة العودة إلى باكستان .. وصاحب الغرفة القذرة الكائنة فوق إحدى البنايات القديمة يهددنى بالطرد ؛ لأننى عاجز عن دفع الإيجار الشهرى ، وعاجز عن الحصول على تصريح بالإقامة .. ماذا لو وقعت الفأس فى الرأس وقبض علىَّ البوليس ؟ .. لاشك سيودعوننى الغرفة رقم " 62 / 201 " مرة أخرى .. سيفتحون لى ملفًا ، وعلى غلافه سيكتبون " شئون أجانب ــ على ذمة الإبعاد " .. ثلاثون عامًا مضت منذ وفاتك ، أُودعت فيها سجونَ خمسِ بلدانٍ مختلفة .. نفس العبارات تُكتب .. تختلف الحروف ويبقى المعنى واحدًا : حيدر ليس له مكان فوق الأرض ، وتلك هى محصلة المعانى يا أبتى ! .

( تقول التقارير إن حيدر عندما كان يقيم فى باكستان كان يواجه نفس المصير المطيَّن ؛ لأنه لايجيد لغة الأردو تمامًا ، ولا يستطيع دفع إيجار المسكن أيضًا ، وإنه عاجز أيضًا عن إثبات نسبه وإنه ..... )

ــ ها أنا يا أبتِ رجل دولى .. أجول العالم المتحضر / المتخلف .. لا أحمل سوى جواز سفر قديم انتهت مدة صلاحيته ، وأنت لم تترك لى ورقة واحدة تثبت جنسى ونسبى ، حتى والدتى لم تكن مصرية ! .. كان بإمكانك أن تتزوج بفتاة مصرية .. كان بإمكانك إلا أنك كنت تفضل أن تظل هكذا منتميًا لعالم آخر .. عالم لا يفضل الأوراق والأختام .. ذلك صحيح تمامًا ، إنك كنت تفضل الانتماء للإنسانية جمعاء ، بَيْدَ أنك نسيت يا أبتِ أن الإنسان المجرد ليس له وجود .. هكذا قد جردتنى من أشيائى ، ولم يُبقِ لى سوى جسدى الذى لم أعد أحس بثقله كثيرًا .

ومضى حيدر يودع بقايا جسده الذى بدا للحظة أنه باتساع الكرة الأرضية ، حتى أنه إلتبس بالأرض .

( تقول التقارير إن البشر السائرين ذاك الصباح لم يكن يجول بخاطر أحد منهم أن جسد حيدر ليس هو الأرض التى يسيرون عليها ، بعدما اختلطت الأشياء ، وأصبح جسد حيدر المنبطح على الأرض طينًا ودماء ... ) .

ولكن ثمة أشياء تبقى .................

( تقول التقارير إن حيدر كان يشغل سلطات كثيرة : أمن الدولة .. شئون الأجانب ... المباحث ... مكافحة الإرهاب .. مكافحة التسول ... مكافحة البشرية .............. إلخ ) .



********

القاهرة فى 15 / 12 / 1990




•· حصل هذا النص على جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1992 .
•· نُشِر هذا النص فى مجلة الثقافة الجديدة ــ العدد 101 فبراير 1997 .


عبدالجواد خفاجى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى