محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود. - صراع الديكة

اجتاز نادر خان بوابة القاعدة الأمريكية في( كابل)، ولم يخضع لتفتيش أو أي اعتراض من الحرس الرئيس، لقد أُذِن له بالدخول لأنه يحمل معه ديكاً أحمر الريش! لو أنَّ ذلك حدث في الأيام العاديَّة لكان ذلك غريباً بالفعل، ولكن الأمر لم يكن كذلك في ذلك النهار الصيفي لأحدي أيام الجمعات.
ولكن البداية كانت قبل ذلك بأسبوع، عندما حضر المقدم جونسون وجنوده إلى سوق الطيور بـ(كابل)، وقد كانوا في دوريَّة عاديَّة، وذلك بعد أن هدأت الحرب وانتهت لصالح القوات الأمريكيَّة. توقف المقدم وجنوده بالقرب من تجمهر للناس بسوق الطيور، والغريب في الأمر لا أحد أعار أدنى اهتمام لجونسون وجنوده، إذ إنَّ المباراة كانت حامية الوطيس، مباراة صراع الديكين، حيث الجميع مشدود إلى متابعة الصراع بين الديكين، ديك- نادر خان- ذي الريش الأحمر الناريِّ وبين ديك آخر ضخم الجثة، وقد أمسك نادر خان ديكه من مؤخرة ريشه، وكذلك فعل الرجل الآخر بديكه. اقترب جونسون من حلبة الصراع، وقد راقه الصراع بين الديكين، فتابعه حتى النهاية، وقد انتهى الصراع لصالح ديك نادر خان، ومن ثمَّ انصرف الناس لقضاء أغراضهم، وانصرف جونسون وجنوده لمباشرة واجباتهم العسكرية، إلا أنَّ صورة الصراع ومشهده لم ينصرفا من مخيِّلة جونسون، وقد بات تلك الليلة يحلم به. في الصباح أمر جونسون أحد المترجمين بأن يشتري له ديكاً أبيض اللون، وقد همَّ بعد ذلك بالذهاب به إلى سوق الطيور، لولا أنَّ المترجم أخبره بأن الصراع بين الديكة يكون في يوم الجمعة فقط، فأمر جونسون جنوده بالاعتناء بالديك، كما أشرف على تغذيته بنفسه حتى يوم الجمعة.
وصل جونسون وديكه وجنوده سوق الطيور وقد انتصف النهار أو كاد، وذلك بعد أن فرغ من المهام الملقاة على عاتقه، وصلوا إلى هناك وديك نادر خان يصارع آخر ديك في ذلك اليوم، وقد بدا الإعياء واضحاً على جسد الديك، وقد خاض أربع مباريات حاسمة، وانتصر فيهن جميعاً، وهذه هي المباراة الأخيرة، ولم تكن مضمَّنة في جدول المباريات، وقد خاضها نادر خان بسبب إلحاح الجماهير الغفيرة، والتي تجمعت لمشاهدة الديك الأحمر ومتابعة انتصاراته، فها هو ديكه يخوض الصراع بالرغم من أن كل الظروف - ظروف اللياقة والراحة - كانت في صف الديك الآخر، ولكن لم يكن أمامه سوى خوض المباراة، فخاضها مرغماً، شاهد جونسون الدقائق الأخيرة من المصارعة، وقد رأى ديك نادر خان يتفوَّق بصعوبة على الديك الأخير، وقد بدا الإرهاق واضحاً عليه، حتى أنه لم يصح صيحة النصر، والتي عادة ما يصيحها في مثل تلك اللحظات، وقد سرَّ ذلك جونسون فأسرَّه في نفسه، وقد همَّ الجميع بالانصراف لولا أن صاح جونسون بصوته الجهوريِّ، وقد زاده صوت المترجم الأفغاني حدة بقوله: لا أحد سيغادر المكان. آمركم بهذا. وأنت يا صاحب الديك الأحمر سيتصارع ديكانا الآن. أعتقد أنَّ هذا مفهوم .

قال جونسون ذلك ثم انتحى بجنوده عن الجمع الغفير تحسُّباً لأيِّ طارئ، وقد أشفق الجنود على قائدهم وعلى نفسهم من استفزاز هؤلاء الرجال، لأنَّهم يعلمون أنَّ هؤلاء الأفغان لا يمكن التنبؤ بردّة فعلهم، وخاصة في مثل هذه اللحظات التي يشعرون فيها بأنَّ غريباً يأمرهم بطاعته بطريقة كهذه، وقد كان الجنود محقِّين في اعتقادهم ذلك، إذ إنَّ تلك الكتيبات الصغيرة - عن طباع الشعب الافغاني- لم توزَّع عليهم عبثاً، لقد تذمَّر الرجال بالفعل، وقد بدأ الأمر بهمهمات غاضبة، ثم بدأت تعلو شيئاً فشيئاً، يبدو أنَّ الموقف سينفجر بعد دقائق، وقد بدا ذلك واضحاً على وجوه الرجال القاسية، ومن الشرر الذي يتطاير من أعينهم، وقد تيقَّن الجنود من أنَّ الإقامة الآن في هذا الموضع من سوق الطيور أشبه بالإقامة على فوهة بركان ينبعث الغاز من جوفه إيذاناً بالانفجار، وقد كان الأمر كذلك بالفعل، وقد همَّ الجنود بمغادرة المكان على الفور، لولا أنَّ قائدهم تسمَّر على المكان، ولولا الأوامر العسكريَّة الصارمة لتركوه وغادروا بالفعل، ولكنهم يعملون أنَّ تسمّره بهذا المكان بالذات يُعدُّ أمراً عسكرياً بالثبات، ولا يقبل المناقشة، لذلك أطاعوا الأمر بالرغم من أن ذلك يعرض حياتهم للخطر.

يرى جونسون أنَّه خلاصة تجربة ديمقراطيَّة ناجحة، فهو منضوٍ تحت لواء الديمقراطيَّة التي فاضت عن حاجة أهلها، وحامل جذوة شعلتها المتَّقدة إلى أنحاء المعمورة، بل يخالج قلبه أحياناً شعور بأنَّه أنقى ما انتجته تلك التجربة، إلَّا أنَّ كل ذلك لا يمنعه من أن يلقي بالأوامر الصارمة، ولا يقبل أيَّ رأي أو احتجاج من الآخر، وخاصة في هذا الموضع من العالم، هذا الموضع الذي لم تطاله أعمدة الإنارة أو شبكات المياه، لذلك لم يجد جونسون مبرراً لهمهمة الرجال الغاضبة، فأمر المترجم بأن يقول لهم:

من الأفضل أن تكفوا عن الضجيج. إنَّها مباراة لا غير. يجب أن تلزموا الهدوء حتى لا يحدث مالا يروقكم. تردد المترجم في ترجمة ما قاله جونسون، لأنَّه يعلم يقيناً لو أنَّه ترجم هذا ترجمة ضمنيَّة فسيثير إعصاراً بالمكان، ولو أنَّه ترجمه ترجمة حرفية فسينفجر بركان بالمكان، أنَّه يعلم طباع أهله جيداً، وكذلك حدة ردود أفعالهم الغاضبة، أحسَّ المترجم بخطورة المهمة الملقاة على عاتقه، إذ إنَّ حياة الطرفين تعتمد على ما سيترجمه الآن، أحسَّ بدقَّة الموقف الذي يتطلَّب مهارات خاصة تمكِّنه من أن يحقن كل هذه الدماء التي تضخ من القلوب على تلك الأجساد، والتي ستنفجر شلالات دمائها على الأرض لو أنَّه ترجم ما يقوله هذا الضابط الأمريكي. لأوَّل مرة في حياته يحسُّ المترجم بجسامة مسئوليَّة حقيقية، وهو الذي لم تتعد حدود مسئوليته عنزاته السبع وأخواته الثلاث في غياب والده، لم يتحمَّل مسئولية كهذه من قبل، ولم يكن على استعداد لتحملها يوماً ما، ولكنه يرى الآن أنَّ عليه أن يفعل ذلك من أجل أن يحقن دمه على الأقل، لعلمه أنَّ هذه الرشاشات الأمريكيَّة لو لعلعت الآن فإنَّها لن تميز رصاصاتها بين المُترجِم المصاحب لها وبين أهله المترجَم لهم، وكذلك يفعل رصاص مواطنيه، لذلك قال مهدِّئاً

من حدَّة الموقف:
إن جونسون يقول لكم.
هز الضابط جونسون رأسه إعجاباً، إنَّه يطرب لسماع اسمه، وخاصة عندما يقترن بقول مثل جونسون يأمركم. جونسون يحذِّركم. استمر المترجم في حديثه، وكذلك رأس جونسون بالاهتزاز:
إنه صديق محبُّ لكم. ودلالة حبه أنَّه يأتي لمشاركتكم هوايتكم المفضلة. وإنِّ صراع الديكين سيكون تنافساً شريفاً، وتوثيقاً لأواصر الأخوة بين الشعبين الشقيقين. ولكن دعوكم من هذا الهراء الذي يقوله جونسون. نعم إنَّ ما يقوله جونسون هراء لا غير.

لاحظ جونسون أنَّ الترجمة قد أخذت طابع الإسهاب، وقد كانت موجزة من قبل، ولكنه لم يعترض أو يأمر المترجم بالاختصار، طالما أنَّ هذا المترجم يذكر اسم جونسون كثيراً، وقد راق جونسون سماعه لتكرار اسمه وسط تلك الفواصل والسكتات البليغة. أخذت حدَّة غضب الرجال طابع التفهم، وقد سيطر عليهم أسلوب المترجم وحديثه، وقد أعجب المترجم بنفسه وبحديثه الذي سيطر على الموقف وقد استمر بقوله:
فما جونسون بصديق لكم، ولا هو محب لكم أيضاً، بل إنَّ جونسون لم يأتِ لمشاركتكم هوايتكم المفضلة كما يزعم، أقولها لكم صراحة رغم زمجرتكم الغاضبة. وقد حقَّ لكم أن تغضبوا. نعم أقولها لكم أنَّه كاذب فيما يزعم.
دوَّت الزمجرات الغاضبة للرجال، وقد ضجَّ السلاح بأيدي الجميع، يبدو أنَّ حديث المترجم أصاب وتراً حساساً في قلوب الرجال، ولكنه همَّ بمواصلة حديثة، لأنَّه تعمد ذلك، لقد عمد إلى اتخاذ تكتيك بارع وخطر معهم، إذ استفزهم لأقصى درجة في الاتجاه الذي يريدونه، حتى يمكنه أن يقودهم إلى الاتجاه الذي يريده لهم، وقد كان الأمر أشبه بالسائق الماهر الذي يعود بالسيارة إلى الخلف حتى يندفع بها فوق كثيب الرمال الذي لا ترغب في اختراقه، لذلك استمر المترجم في حديثه برغم ضجيج السلاح وتكثُّف سحب المعركة، وهو يقول:
أعيروني آذانكم دقيقة واحدة، ثم افعلوا ما تشاؤون، إنَّ لكم مطلق الحرية وكلّ الحق بأن تغضبوا من هذا الـ(جونسون) وجنوده، بل من أحقِّ حقوقكم أن تنفجروا الآن من الغضب، وكذلك أنا. بل بإمكاننا أن نبيدهم جميعاً، كما إن بإمكانهم أن يفعوا ذلك بنا. ولكن قبل أن يحدث كلُّ ذلك، يجب أن نلقِّنهم درساً لن ينساه من تبقَّى منهم، إنَّكم تعلمون كما أعلم أنَّ صراع الديكين الذي يرغب فيه جونسون لن يكون تنافساً شريفاً، ولن يوثق أواصر الأخوة بين شعبنا والشعب الأمريكي، بل لا توجد أي صلة أو أخوَّة لنا مع الشعب الأمريكي ولكن دعونا نرد عليه بضاعته، ونرد له الصاع صاعين، سيتساءل البعض كيف سنفعل ذلك ؟!. سيكون ذلك بأن يتم الصراع بين الديكين الآن، ليس ذلك إرضاء له، ولكن حتى نوجِّه له صفعة لن ينساها، نعم يجب أن نجرعه الهزيمة في ديكه قبل أن نذيقه الهزيمة في نفسه وجنوده، وحتى تكون الهزيمة هزيمتين قبل أن نقتله وجنوده، وحتى نذيقه الموت مرتين. والآن ما رأيكم يا أخوتي؟ فإنَّ الرأي الأول والأخير هو رأيكم أنتم، وأنَّ القرار بأيديكم أيها الفتية الأشاوس.
ران الصمت المعبِّر على المكان، ثمَّ صاح أحدهم بالموافقة وصواب الفكرة، وتبعه ثانٍ ثم ثالث، ثمَّ تتابعت عبارات التأييد، وقد تحمَّس الجميع للمباراة الفاصلة والمصيرية بين الديكين. أعجب جونسون بالطريقة التي أقنع بها مترجمه هؤلاء الرجال، وقد استعدَّ للمباراة بينما نادر خان وديكه يستعدَّان أيضاً، إذ لم يعد أمامهما سوى الرضوخ لرأي الجماهير. افترش الضابط الأمريكي بساطاً كان قد حمله الجنود خصيصاً للمباراة، ثم جلس عليه ممسكاً ديكه من مؤخرة ريشه، بينما جلس نادر خان على الأرض ممسكاً بمؤخرة ريش ديكه هو الآخر أيضاً، ويبدو على ديك نادر خان النشاط بسبب الراحة التي اكتسبها أثناء فترة الجدال. بلغ الاستعداد أتمَّه، وقد اتخذ الوضع النهائي، الديك الأبيض فالضابط الأمريكي ثم جنوده، يقف مقابلاً لذلك الديك الأحمر فنادر خان ثم أتباعه ومريديه، وبدأت المباراة التي يراهن الجميع على الانتصار فيها، بدأ الديك الأبيض المصارعة وقد انقضَّ موجهاً ضربة قوية بمنقاره إلى عرف الديك الأحمر، فاصطبغ بلون الدم القاني، وقد صاح جونسون فرحاً، فتوالت صيحات جنوده امتثالاً لصياحه، جاوب ذلك الصيحات الغاضبة للرجال الأفغان. لقد عوَّد الديك الأحمر مناصريه على امتلاك زمام المبادرة، هذه أول مرة يرونه يفلت فيها الزمام منه، وقد عزا بعض الرجال ذلك إلى الإرهاق، بينما يرى بعض الغاضبين أنَّ هذا بسبب الإهمال، في الوقت الذي يرى فيه أكثر هؤلاء غضباً أنَّ الديك لم يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وبالرغم من كلِّ ذلك أبدى الديك الأحمر روح المقاومة، والديك الأبيض ينقضُّ عليه، وضربات منقاره تتابع عليه، وضجيج الرجال يزيده ارتباكاً. تقهقر الديك الأحمر عن موقعه حتى أحسَّ نادر خان بالخزي، وأحسَّ جونسون بنشوة النصر إلا أنَّ ميزان الصراع انقلب أخيراً، بدأ ذلك من ضربة مدروسة بارعة وجهها ديك نادر خان بمنقاره إلى العين اليمنى للديك الأبيض فتراج الأخير مذهولاً، وقد استمر الديك الأحمر بالانقضاض، مشيعاً للأبيض بالضربات على عينيه ومنقاره، حتى رضخ الديك الأبيض وافترش الأرض، فعلاه ديك نادر خان صائحاً صيحة النصر، وضجَّ المكان بعبارات الثناء على الديك الأحمر، بينما وجم جونسون وجنوده من واقع النتيجة المخيِّبة لآمالهم، وقد عزا جونسون هزيمته إلى عامل الأرض والجمهور، وقد خطر له خاطر مفاجئ، فاعتدل واقفًا ثمَّ صافح غريمه وهو يقول مستفزَّاً:

لن تستطيع هزيمتي هناك في القاعدة الأمريكيَّة.

وقد وجد نادر خان ذلك استفزازاً له، وكذلك وجد الأمر الرجال الذين يناصرونه، فقرَّروا أن يكملوا النصر حتى النهاية، وقد قال نادر خان:
يمكنني أن أهزمك هناك أيضاً. وإنني على ثقة من ذلك.

تحرك الجميع إلى القاعدة الأمريكية، وما أن بلغوا إلى هناك حتى تمَّ اعتراضهم، وسمح بالدخول لنادر خان وديكه فقط، بينما طُلِب من مناصريه أن يشاهدوا الصراع من خلف الأسلاك الشائكة للقاعدة. وبدأ الصراع بين الديكين، وقد بدا نادر خان غير متحمِّس لذلك، وفي هذه المرة انتزع ديك نادر خان زمام المبادرة، وقد ضرب الديك الأبيض على عينه اليسرى، مما أفقده الرغبة في الصراع، فافترش الأرض صاغراً، فعلاه ديك نادر خان مرة أخرى، وصاح صيحة النصر المعتادة. استلَّ جونسون مسدسه وأطلق رصاصة على الديك الأحمر، فخرَّ صريعاً، ولعلع الرصاص من خارج وداخل القاعدة الأمريكية.


مايو 28, 2022

محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود




صراع الديكة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى