رسائل الأدباء رسالة من الأديب حنّا مينه

6 / 10 / 1993

الأخ العزيز عبد القادر !
قلبك الذي هو في نقاء ورقة بيضاء ، مليء ببراءة ذلك الطفل الأشقر الجميل ، الذي عرفتُه يوماً وأنا أقف على باب دكّان الحلاقة في حيّنا القديم : القلعة ! ولَكَم بحثتُ عن هذه البراءة في النفوس ، ومنها نفسي ، فما وجدتُها ، إلى أن كان اللقاء ، وعثرتُ عليها في الشغاف من صدرك العامر بحبّ الناس ، مع شيء خاصّ هو حبُّك الأكبر لي ، وإني لمفعَم بالغبطة لهذا ، ومفعَم أكثر بشعور العجز أن أكون ندّاً لك في فيض المشاعر ، هذه التي نتناهبها لنسعد بها ، وتكتفي أنت بأن تقف منّا جميعاً موقف الواهب الكريم ، موقف البحر ، يعطي ويعطي دون أن يسأل ، ولو في مضمر الخلوة ، بين النفس والضمير ، عن التقابل في بعض هذا السخاء الذي أنت عنوانه .
أسفي أنني لم أعرفك منذ زمن بعيد . سمعتُ بك . كان الثناء ، وهنا غرابة فقدان الاستثناء ، قاعدة جمعيّة . أجمعوا فأصابوا ، وكان اللقاء ، على غير موعد أو قصد ، عفويّاً وحلواً ، وكان التطابق بين ما سمعتُ وما رأيتُ ، كاملاً ، فلا تدعني بنداوة أريحيّتك ، أطمع في المزيد من تشجيعك ، وفي الأوفر من الحصّة ، بين مودّاتك التي عليك أن توزّعها بعدل ، حتى لا يزداد حسّادي ، ويتورّم الضغن على جدران الأكباد التي باتت مقرّحة لاستئثاري بك ، أو إيثاري بودّك ، هذا الإيثار الذي يتجلّى فيوغر من هم حولك ، من الأقربين أو الأبعدين .
من حقّك أن تقول : ما هذا ؟! وأين السخرية التي في رسائل سابقات ؟ وأين البذاءة التي عرفناها في بعض الروايات ؟ ولماذا هذه الجديّة في ترسُّل إلى الحميميّة أقرب ؟ وماذا فعلت جائزة بفتانا الذي استعاض عن مرحه المعهود ، بوقار يبدو دشداشة فضفاضة على جسم ذلك الطفل النحيل ؟ وأجيبك : لقد تبتُ ! لا من ندم على ما كان ، أو حسبان لِما قد يكون ، وإنما من سكينة هبطت كغمامة سوداء ، مصدرها العقل الذي ترنّح في غربة طارئة ، من ضربة ذكريات كانت هاجعة فاستيقظت ، أدركتُ معها أنني مخلوق لا يعرف قيمة هنيهته حتى تمرّ ، وبذلك يخسر الحاضر ، ولا يفيده الماضي ، ويظلّ مؤرجَحاً بين تقوى كاذبة وعفّة أكثر كذباً ، معلَّقاً في حبل تداعيات ، يكافح ضدّها في غير نجاح ، تكر كشريط فيه حسرة على أيّام مضت ، وحسرة على تشرُّد فات ، وثالثة على ألم نفته هناءة مبعثها الخمول ، ولا علاج لكلّ هذه اللعنة إلا بأن أجنّ كرّةً أخرى ، فأغامر من جديد ، عائداً إلى البحر الذي منه خرجتُ .
نصيحتك في أن أذهب إلى كلابيريا لتسلُّم الجائزة صائبة . رفضتُ ركوب الطائرة إليها ، مع أنَّ واحداً سواي كان يذهب راجلاً ، وهنا الفارق بين لامبالاتي ولهفة الآخرين ، وسبحان من قسَّمَ المدارك على قدر الحظوظ ، أو على قدر العزائم ، وإني لأعترف ، الحظُّ لي ، والإدراك لغيري ، والشهرة لي ، والعزيمة لسواي ، ودعوتك لي كي آتي إليكم ، أفضل عندي من كلّ دعوات هيئات تحكيم الجوائز ، ولو كانت دُوَليّة الطابع ، وعبثاً هتفوا إليّ ، وسدىً كان الإلحاح ، وهكذا تأجَّلَ تسلُّم الجائزة إلى العام القادم ، ومن يدري ؟ فقد يغتال نواياي الطيّبة كسلي الملوكيّ ، فلا أذهب ولا أعود .
تعبيرك مدهش ورائع : " يد تمسك يداً ، وتمتدان إلى أخرى ، لتسهم جميعاً في دفع خطى الإنسان نحو صورة تليق به " . ولك يا صديق الجيرة والعمر ، أن تثق أنَّ يدي ستظلّ في يدك ، ومعها ، ومع الأيدي الأخرى ، إلى أن نبلغ صورة المجرّة التي في الأعالي ، ونحن أو الأصح ذرارينا ، ستهبط بهذه المجرّة إلى أرضنا ، أرض البشر ، وعندئذٍ تستنير دُنيانا .
لبّيك ، قادم إليك ، وفي العشرة المضروبة موعد . قبلة وتحيّات .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى