رافقه في صبيحة مشمسة، كان أكثر منه قليلا في الطول، وأكثر من صمتا، يسير معه ليستمع له؛ فهو الصديق الأوفى الذي يثق فيه، يكتم سره ولا يكدر صفو بوحه، لم يعهد منذ طفولته وفاء مثله ولا يريد، فكم من مرة قصد فيه محبته فلبى النداء وترك الكل وبقي معه مهما! طال الحديث، الطريق ممهد وضجيج السيارات لا يمنع حديثهما عنها، رائحة عادم رصف الجانب الآخر من الطريق لم تزكم أنفه عن رائحة جسدها القطر بندى كقطرات الفردوس، أصوات تباع السيارات الأجرة وصراخ الأطفال والباعة وصخب الطريق في كل صوب لم يصم اذنه عن قهقهاتها كبلابل الفجر الصداحة التي جمعت في دلالها إغراء كل فاتنات الكون، يقف أمام السينما الصيفي التي يذهبان إليها معا؛ هي تفضل حفلات منتصف النهار.. صارحه برغبته في الدخول فوافق كعهده ظل يتحدث معه قبل بداية الفيلم عن أحلامه التي قضى عليها الزمن قبل أن تكتمل ورفض والدها إتمام الزواج بحجة فقر المال وأخبره أنها ستتزوج ابن عمها القادم من إحدى دول المال، أطفأت الأنوار وانطفئ معها باقي الحديث، ليبدأ فيلما جديدا يحكي المعاناة عينها، وعند مشهد مأساة الحبيب المرفوض تنهمر دمعه سخية في ظلمة العرض، تعجب من صديقه كيف لم يواسي جرحه؛ جميل أن يكون لي صديق يسمعني لكن ما أجمل أن أجده قلبا يرق لحالي ويضمد جرحي ويربت على كتف اوجاعي او حتى يحتضنني، نعم فأنا مهما كبرت يعوزني فقر الحضن، لا أريده أبكم.. هكذا كان حديثه مع نفسه في صمت دامع، كسر حدته نور السينما الذي أضاء ثانية للاستراحة، هل يستريح القلب؟ هل تهدأ السويداء؟ هل ترجع الايام إلى الوراء لأجدها أمامي في قدها البض وشعرها الأسود كليل الشتاء، ورائحتها التي تعطرت بها فراديس الرحمن، ووجها الناصع الطيبة والرقة والبهاء والحياء الذي تستحي منه العذارى في خدرها، ودلال ظبية شاردة تبحث عن صدر حنون يضم حسنها في حنان، هل تعود الأيام لأرى كل هذا النعيم فاسكنه؟ ماجت تلك الأسئلة بخاطره وهو شارد بين مرور المتفرجين في صالة العرض والعجب لماذا يمتهن كل هذا السكوت؟ لماذا يتركني شاردا وحدي لا يحدثني؟ أريد الانفجار مع أحد يرد علي لا أن يسمعني دون جواب... كاد يفقد هدوءه لولا أنهم عادوا فأطفأوا صالة العرض وعاد العرض، لم ينتبه لما تلى من أحداث؛ فقد كان في عرض سحري آخر نسجه خياله لم يذكر أفراده ولا الأحداث، كل ما تذكره انه بطل قصتها وأنها فتاته الطاغية الحسن، انتهى العرض وعاد إلى ضجيجهم وصمته الذي بات يستفز شكواه، اصطدم به شاب مفتول العضلات وقبل ان يهم بالاشتباك معه تنبه لبنيته؛ فتراجع عن رغبته، بحث عن صديقه بين جمع المتفرجين فلم يجده فصاح كأبطال الروايات المسرحية العالمية:
جميل أن يكون لك صديق كظلك، لكن ليس من الصواب أبدا أن يكون ظلك صديق لك كالقيد.
جميل أن يكون لك صديق كظلك، لكن ليس من الصواب أبدا أن يكون ظلك صديق لك كالقيد.