عبير سليمان - المسخ..

كلما دخلت إلى مكان أجد من حولي وجوهاً تحدق بي مثل عيون مخبر ينظر من خلف ثقب جريدة ليرقب متهماً بعد خروجه من السجن ، في يوم ما دخلت إلى متجر شهير لدفع قسط اللاب توب الذي اشتريته مؤخرا لابني ، وإذا بوجوه من حولي من زبائن المتجر وحتى العاملين تتحول لعيون كبيرة وفقط، عيون ترقبني وتتأملني بنظرات استهزاء أو اتهام ، عيون تقذف بألسنة نيران ملتهبة تطال جلدي فتحرقه، بعد سداد القسط أسرعت بخطواتي مبتعدا عن الشباك ، حتى أتجنب نظرات الموظف، لكنه ناداني:" يا أستاذ ، نسيت أن تأخذ إيصال الدفع ".
عندما عدت إليه مددت يدي لألتقط منه الورقة وأخطفها منه ، كأني أمسك قطعة حديد ملتهبة سُخِنت للتو محاولا تجنب نظراته وعينيه اللتين تحولتا لدائرتين مفرغتين بعدما خرجت عيناه من محجريهما ترميان إلي بجمرتين من نار تخترقان جسدي وتعبران عبر جوفي إلى بطني وأحشائي، عندما خرجت وقبل ركوبي سيارتي وقفت أدخن سيجارتي ناظرا في كاميرا المحمول الأمامية ، ترى ما الغريب في وجهي يجعل المحيطين بي ينظرون إلي هكذا ؟ تملكني الرعب ؟ وجهي يبدو عاديا ، لكن بعد لحظة وقبل أن تظلم الشاشة أمامي وجدتُ لحم وجهي يذوب ويسقط ، انحنيت لأجمعه ، لكني رأيته يتبخر مثل قطع من الثلج تساقط على الأرض الساخنة ، شعرت بوجهي يتحول إلى مسخ مشوه أقرب لجمجمة تعرَّت من اللحم . ارتعدت من كوني أمشي بلا وجهٍ آدمي، تبا كيف سأواجه المحيطين بي بهذا الوجه العاري إلا من عظام وعينين فارغتين!
عدت إلى مقر عملي بهيئتي المخيفة فإذا بإحدى العاملات تغمزني بنظرة غير بريئة ، وابتسامة تحمل كل معاني الإغواء والرغبة، أكاد أقسم أنها المرة الأولى التي أتبين فيها ملامح هذه المرأة هي تعمل هنا منذ سنة ، ما الذي جعلها في هذا اليوم العجيب تفعل فعلتها وتنظر لي هكذا بكل هذا الاشتهاء الوقح ؟
بدخولي مكتبي ألقيت نظرة على زملائي ، إحداهن منهمكة في القراءة كعادتها ، الآخر يلتهم إفطاره حياني بابتسامة سمجة وقال متهكماً : "ما بدري يا عريس"
ضحكت السيدة الخرفة ذات الوجه الملطخ بمساحيق تحمل ألوان الطيف لا تتناسب مع كونها قاربت على الستين، ترى كيف عينوها نائبة عني وهي ممن يحملن شهادة معاملة أطفال؟ ضحكَتْ ضحكة مقززة بصوت يشبه جرس إنذار الحريق ، ما إن فتحت فاها حتى عبقت المكتب كله برائحة كريهة ووجدت أسنانها السوداء المتآكلة قد ظهرت كلها في مشهد يفوق رعباً أي مشهد من أفلام الرعب، تضاعف خوفي رغم أني المدير، كيف أخاف وأنا المسؤول عن هؤلاء بصفتي مديرهم وأنا الذي اعتدت -بحكم سلطتي التي ورثتها عن أبي المسؤول الكبير- أن أُعامل مثل نجم عرض مسرحي يطل على الخشبة بعد ظهور الممثلين المساعدين !
ها هي زميلتي الحسناء التي اعتدت أن أسميها بشجرة الفراولة ، الوحيدة التي لم تنظر إلي ولم تعلق ، كانت غارقة في خيالها منهمكة في القراءة كعادتها وجدتني أقترب منها ، سألتها بعد ما فتحت هاتفي عن الصورة التي التقطها لنفسي سيلفي من دقائق " هل في وجهي شيء عجيب ؟ " ردت بفتور واضح: لا ، ثم عادت إلى كتابها ، لكن حالة غضب بعدها تملكتني فقلت لنفسي: "هذه الملعونة ، أحاول إغواءها منذ فترة وتتجاهلني ، لا بد أن ألقنها درساً قاسيا في يوم ما ".
أفقت من شرودي على رنين الهاتف ، رقم غريب صاحبه يلقي التحية ويتأكد من هويتي واسمي الثلاثي، ثم يقول بنبرة وقحة: "لقد توسمت فيك الجرأة وروح المغامرة كي تساعدني وتقدم لي هذه الخدمة، والوردة يا معلم مهما ذبلت ريحتها فيها!"
تبا له ماذا يقصد؟ وما نوع الخدمة التي يريدها هذا الوقح، أتراه طلب رقما خطأ؟ لا لم يكن رقما خاطئا لقد تأكد في بداية الاتصال من اسمي!
هل فقدت ذاكرتي ، ترى ما المهمة التي يلمح لها دون توضيح وكأني كنت منذ سنوات لصا أو ديلر أو قوادا؟
إنني الآن من يحتاج المساعدة، تطاردني عيون البشر في كل مكان أذهب إليه في صحوي ونومي، حتى رأيتني في الحلم أمشي عارياً في شارع مزدحم ، العابرون ينظرون لي بنظرات نارية تلفظ ما في نفوسهم من كراهية واشمئزاز يرددون: "المجنون أهو"، ركض خلفي الشرطي مكيلا لي السباب: "البس حاجة تسترك يا ابن ...."
واكتمل المشهد الكابوسي بإحضار عربة الإسعاف نزل منها إثنان من الأشداء بالمريلة التي تربط من الخلف ، ألبسوها لي بالإكراه وسحبوني كما تسحب البهيمة قبل أخذها للمسلخ .
أفقت مذعوراً وأنا أصرخ ، لم أجرؤ على مصارحة زوجتي بما رأيت، خفت أن تشمت بي .
بعد عودتي إلى البيت منهياً وردية عملي الليلية في المقهى الذي أعمل به كي ألبي احتياجات البيت التي لا تنتهي، وقفت أدخن سيجارتي، هاتفي على وضع الاهتزاز ، رسالة تقول: سأنتظرك غداً زوجي مسافر في الصباح لديه مأمورية تمتد أسبوعاً"
ترى هل زوجها هو من يراقبني ، ويرسل خلفي من يتتبع خطواتي كل ليلة ؟ ربما أيضا هذا الشخص يعلم أني لم ألمس زوجتي منذ أسبوعين بسبب الإرهاق الشديد وعودتي متأخرًا من عملي الليلي، ربما ينتظر أسفل العمارة كل ليلة فيعلم من وقت إطفاء نور الغرفة وخروجي للشرفة أني لا أنام ، فيشمت بي ويشعر بأنه انتصر علي ، بأن أقض علي مضجعي وحرمني من الراحة جزاء خيانتي له.
أم ترى زميلتي التي حاولت مغازلتها فامتنعت ، وقامت بحظر رقمي ، لقد ذبحتني بفعلتها تلك كما يذبح جدي صغير بسكين بارد ، سأجبرها بوسائل ضغط غير نظيفة على الاستقالة جزاء لها على كبريائها المزيف .
بعد يوم شاق عدت لبيتي ، وجدت زوجتي في غرفتنا قد تزينت وبدأت بمغازلتي والتودد إليّ، قلت مسراً لنفسي: "هذا يؤكد ظني ، لا بد أنها علمت شيئاً وتخشى أن تزوغ عينيّ . أليست هي نفسها التي حطمت بعض الأطباق وكادت أن تصيبني إثر اكتشافها خيانتي لها من شهر واحد، أم تريد ان تشعرني أنها اعتادت تكرار الأمر طوال خمسة عشر عاما من عمر زواجنا ، ويبدو أنها قررت أن تغير خطتها لاستعادتي وتجديد مشاعر البدايات المليئة بمشاعر الحب المتأجج ، فقررت أن تعيدني إلى حضنها حتى لا أطير بعيدا عن عشنا!
معجبا بصبرها عليّ وعلى مغامراتي أرضيتها كما لم أُرضها منذ فترة طويلة ، نامت هانئة ترتسم على وجهها سعادة أنثى منتشية برحيق الرغبة الذي ملأ الغرفة ، تملكني الأرق قبل أن أستسلم للنوم بمعجزة، لأجد نفسي محاطاً بأشخاصٍ لا أعرفهم يريدون سحبي وجرجرتي لعربة شرطة تنتظر تحت البيت ، يقول لي أحدهم أنهم ضبطوا حشيشا بمكتبي ، وسط الرجال اندفعت عشيقتي إليّ ، حمدت الله أن هناك من سينقذني ، لكنها انقضت عليّ مكشرةً عن أنيابِها مقتربةً من خدي السمين تعضه بشراسة ، صرخت من الألم وأفقت وأنا ألوح بيدي دافعا عني هذه المرأة ، فإذا بي أرى أمامي على الفراش ابنتي الرضيعة ، نهضت منتفضاً وأنا ألهث وأحمد ربي أني لم أدفع بابنتي أرضا ، ورأيت زوجتي تنظر لي غامزة وتملأ فمها ابتسامة تفيض سخرية :" مالك مفزوع كده ليه ؟ نسيت إنها بتسنن ؟" .
قمت بسرعة بعدها لأمسك بهاتفي معتذراً لعشيقتي عن موعدنا ، ثم ضغطتُ على حظر وتنفست الصعداء ، وقررت إعادة النظر في حياتي ، وأن أكف عن بعض الصراعات التافهة التي لن أجني من ورائها شيئاً .

عبير سليمان
يناير 2023
  • Like
التفاعلات: صلاح حمه أمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى