أمل الكردفاني - وداع الجراء الميتة- قصة قصيرة

كنت أتأمل الجراء الوليدة. ماتت أمهم ومات بعدها ثمانية منهم وتبقى جروان، أو على نحو أدق تبقت أنثى وذكر، في بداية شهرهما الثاني، وكان هناك الصبي يحاول الاعتناء بهما. إنهما فقحا وصأصئا على العالم ليجدا نفسيهما داخل الكون أعزلين إلا من مخلوق آخر لا يشبهانه ولا يشبههما؛ وهو يحاول أن يلعب دوراً لا يمكن له أن يجيده كأمهما الراحلة. ربما لو عاشت لمات أقل ممن مات من تلك الجراء الملقاة في قفص مظلم وبارد فوق سطح المنزل. سينشئان وهما غير مدركين لكُنه هذا العالم وستدفعهما غرائزهما الجسدية ليمارسا حيوانية ناقصة وهما بلا معلم صاحب تجربة مسبقة. كنت أجثوا أمامهما فنهضت وغادرت لأجد حلاً لشيء أقل أهمية من الجراء وهو موكلي الذي سيشنق إن لم أكتب مذكرة دفاع عنه وتكون مقنعة للقضاة. ورغم آلام نوبات الهلع.. سأقاوم لأصل إلى المحكمة فأحصل على تأجيل للجلسة بقدر المستطاع ثم أذهب إلى الطبيب النفسي. كان الصباح مقرفاً، وحرارة الصيف تخنق برودة واهنة تتسلل كلص بين وهلة وأخرى. أفراد الشرطة القضائية كانوا نشطين، رغم إنهم أقل من يحصل على رشاوي من بين فروع الشرطة الأخرى، فهم ليسوا كرجال شرطة المرور مثلاً.
في الممر المفضي إلى قاعة المحكمة التقيت بعضو النيابة فسالته مباشرة:
- هل تتبع الشرطة القضائية للداخلية أم للقضاء؟
ويبدو أنه لسبب ما استاء من هذا السؤال البليد فقال:
- لقد حدثت وفاة وأجل القاضي جميع الجلسات اليوم..
وهكذا جاء التاجيل بلا طلب مني، فتحركت مباشرة إلى عيادة الطبيب النفسي والذي أجل بدوره جميع جلساته مع المرضى إلى يوم لاحق لسبب مجهول. وهكذا انفتح أمامي يوم كامل بلا عمل وبلا نوبات هلع.. عدت لأجثو مرة أخرى أمام الجروين وتاملتهما وهما يحتضنان بعضهما بأجساد مرتجفة وأعينهما ترتعش بلا سبب.
- كم هما كئيبان..
تحممت بدش بارد وصنعت كوب قهوة وجلست أقرأ ملف القضية بتأن وأنا أسمع أنين الجروين من وراء الجدران. لقد وقع الكمين على المتهمين في الحادية عشر ظهراً وتم ضبطهما متلبسين بالإتجار بالمخدرات، غير أن أحدهما أخرج مسدسه وأطلق رصاصة مباشرة على قلب رجل الشرطة المتنكر فأرداه قتيلاً أمام عشرات الشهود من الشرطيين والمارة في الطريق. كانت القضية محكمة تماماً في مواجهة موكلي الذي سيشنق حتماً.. إنها مسألة وقت فقط ليلحق بأم الجروين إلى السماء، همست:
- لا يوجد حيوان يسأل عما سيحدث له بعد الموت سوى الإنسان.. إن الكائنات جميعها تنطفئ وهي مستسلمة بلا تساؤلات.. إما لأنها أقوى إيماناً.. وإما لأن عقل الإنسان هو الوحيد الذي يخترع الأسئلة وإجاباتها مختلقاً عالماً من الآلهة.. لكن ما الفرق بين الحيوان والإنسان إلا هذا التطور الدماغي.. مع ذلك فإن العقل وحده ليس هو ما يجعل الإتسان إنساناً وإلا كان من الجائز للعقلاء أن يقتلوا البشر المجانين دون مساءلة قانونية كما كان الأوروبيون يفعلون في الأزمنة الغابرة..
أشعلت شعلة البوتوجاز بصمت وقليت بيضتين بسرعة، وتداعت حينها ذكريات قديمة مبعثرة الصور، أمي وأبي وأعمامي وأخوالي وجداتي.. كانت تبدو كعفريت الصور الشمسية.. معكوسة اللونين الأبيض والأسود.. لقد رحل أغلبهم إلى السماء وتبددت أجسادهم تحت التراب.. وتركوني وحيداً بشكل متدرج.. نعم غادروا عبر سنوات متعاقبة، الواحد بعد الآخر. تركوني بلا حماية إلا من خيالاتي تجاه العالم..
حسنٌ.. يبدو أنني وجدت حلاً ما لقضية موكلي، فبدأت أكتب المذكرة بلا عجل. فتذكرت أسئلة شقيقه العجلى والمتلهفة حول واقع القضية وإجابتي له:
- لا أكذب عليك.. وضعه صعب جداً لكننا سنجد له مخرجاً من حبل المشنقة على الأقل لذلك لا تفكر في البراءة..
فقال وتفاحة رقبته تصعد وتهبط كمصعد قديم:
- فقط انقذه من حبل المشنقة..
- فليوفقنا الله..
وقلت للطبيب:
- لن أتمكن من مواصلة عملي في المحاماة بعد اليوم.. إن النوبات لا تأتيني إلا وأنا داخل القاعة..
- وكيف ستعيش؟
- لا أعرف.. سأتصرف.. هناك جروان يعيشان معي.. سأعتني بهما..
قرأ الطبيب ملفي وهو يمسكه بأطراف أصابع يده اليسرى في حين يمسك فريم نظارته بأصابع يده اليمنى..
- هل..
قلت قبل أن يستمر:
- لا..
- حسنٌ..
ثم كتب روشتة الدواء كالمعتاد وخرجت منه بحال أفضل مما كنت عليه.
ستكون هذه آخر جلسة لي أمام القضاء. وبالفعل دفعت باب قاعة المحكمة ودخلت ثم جلست على مقاعد المحامين.
كانت هناك محامية تجلس قبالتي وهي شاردة الذهن، فعيناها الواسعتان تحدقان في نقطة خلف رأسي تماماً. وربما رأيت شفتيها الصغيرتين تغمغمان بصلوات ما.
همست:
- تصلين؟..
انتبهت لهمسي ولم تستطع كتم ضحكة نافرة من فمها حتى أن القاضي رفع رأسه عن أوراقه، فكتبت هي ورقة ومدتها لي:
"أحاول حفظ وتذكر اسم الشاهد.. اسمه صعب جداً"
افتتح القاضي الجلسات وقال القاضي:
- أين مذكرة الدفاع يا أستاذ؟
قلت:
- لم أكتبها بعد يا سيدي.. إنني أفضل أن أسجلها شفاهة في محضر الجلسة.. ستكون موجزة جداً..
رفت ابتسامة ساخرة على شفتي القاضي، وظننت أنه قال:
- يائس..
قلت:
- نعم يائس..
فقال:
- ماذا قلت؟
قلت بسرعة:
- لا شيء..
ثقبني بنظرة لأبدأ المرافعة:
- سيدي القاضي وهيئة الاتهام الموقرة إنني أولاً أود ان أعيد ترتيب الوقائع بسرعة، وهي وقائع بسيطة وثابتة. لقد تقدم الشرطيان المتخفيان للمتهمين وطلبا كمية من المخدرات الموصوفة في لائحة الاتهام على نحو مستفيض، فابتعد المتهمان قليلاً وتشاورا ثم طلبا مهلة ساعتين وبالفعل ذهبا وعادا بعد ثلاث ساعات وهما يحملان الكمية المطلوبة من المخدر. وهكذا تم إلقاء القبض عليهما. غير أن المتهم الثاني أطلق رصاصة أودت بحياة الشرطي ليفر بعدها هارباً.. هذه هي الوقائع باختصار.. وإنني أود أن اشير إلى نقطة جوهرية وهي أن هناك جريمتان.. الجريمة الأولى هي الاتجار بالمخدرات والجريمة الثانية هي القتل العمد.. لكن دعوني أقول بأن هناك جريمة ثالثة وهي جريمة اصطناع كل هذه الجرائم.. نعم.. لقد طلب الشرطيان من المتهمين كمية كبيرة من المخدر الموصوف وهكذا سنرى أنهما أغريا شخصين بريئين على البحث عن مخدرات ليستفيدا من هذه الفرصة التي لا تحدث في العمر إلا مرة واحدة.. لقد اخطأ الشرطيان المتخفيان حين طلبا تلك الكمية الكبيرة بدلاً عن كمية صغيرة وهكذا فالكمين اصطنع الجريمة اصطناعاً.. إنني ورغم أنني رجل شريف وسأظل هكذا طيلة حياتي كنت لأتردد كثيراً حين يغريني شخص بشراء كمية من المخدرات تجعلني أرباح بيعها غنياً خلال بضع ساعات فقط.. نعم.. فالكمين لم يكن متقناً بل كان إغراء صنع الجريمة الأولى وهي جريمة الاتجار بالمخدرات.. ومن المعلوم أن هذا الكمين وهو على هذا النحو ما كان ليصلح كدليل على اقتراف المتهمين البريئين لجريمة الاتجار بالمخدرات..فهو دليل باطل وما ترتب عليه باطل.. هذا بالتاكيد دون أن نغفل أن المتهمين وقفا بعيداً وتشاورا حول هذه الفرصة واجتهدا بعدها لأكثر من ثلاث ساعات بحثاً عن المخدرات المطلوبة من الشرطيين.. وهذا يؤكد بأنهما لم يكونا تجار مخدرات.. فالتجارة كما تعلمون هي احتراف بيع وشراء سلعة أو خدمة.. فلا بد من الإحتراف.. نعم.. فلو بعت منزلي فلن أكون تاجر عقارات ولكن لو أصبحت اشتري المنازل وابيعها باستمرار فأنا حينها أكون تاجر عقارات وبهذا يا سادتي فالمتهمان لم يكونا محترفين في تجارة المخدرات.. بل على العكس.. لقد أغرتهما الشرطة بكمينها الباطل ذلك ليدخلا في عالم تجارة المخدرات.. فالشرطة لم تصطنع الجريمة فقط بل دفعت إلى خلق حالة نزوع نحو احتراف الجريمة.. وهكذا تفاجأ المتهمان بأنهما تعرضا لأكبر عملية خداع وهما البريئان حين اكتشفا بأن الشرطة قد حولتهما لمجرمين وهما من لم يكونا يوماً من الايام قد دخلا قسم شرطة من قبل ولو في حادث مروري فقد خلت سجلاتهنا الجنائية من أي تاريخ إجرامي.. لقد خلقت الشرطة جريمة من العدم ووضعت المتهمين في موقف الهلع والخوف وأفقدت موكلي السيطرة على نفسه ليفر هارباً.. ولما كان رجال الشرطة قد أخرجوا مسدساتهم حين القبض على المتهمين عبر ذلك الكمين الباطل لم يجد موكلي وهو بتلك الحالة من الرعب إلا أن يطلق الرصاص ليتمكن من الهرب.. تخيلوا معي يا سادة أن تأتي امراة جميلة وتقتحم مكتب رجل محترم ثم تخلع ملابسها قطعة قطعة.. فهل بعد هذا يكون الرجل هو المذنب أم تلك المرأة الحسناء.. لذلك يا سيدي القاضي.. أرى أن الشرطة كانت هي الجاني الحقيقي على هذين المتهمين ودفعتهما دفعا نحو ارتكاب الجريمة.. إن الشرطة هي المحرض على اقتراف الجريمة ومن المعلوم أن المحرض يتحمل مسؤولية كل الجرائم الأخرى التي تقع بسبب اقتراف الجريمة المحرض عليها..
توقفت عن الحديث هنا واصابتني نوبة هلع.. فقلت:
- سيدي القاضي.. إنني أشعر ببعض التعب..
توقف القاضي عن الكتابة وقال باهتمام:
- هل تريد الجلوس..
قلت:
- بل المغادرة.. سأكمل مرافعتي كتابة.. إنني مصاب بوعكة صحية لكنني اضطررت للقدوم اليوم لتأجيل الجلسة..
غادرت المحكمة. وكنت مرهقاً بالفعل، وبدا لي أنني داخل دوامة رهيبة، فالأشياء من حولي تدور بلا ملامح. توقفت واتكأت على الحائط ثم أخرجت حبة جابيكس وابتلعتها ولم تمض بضع دقائق حتى تفتح عقلي على العالم من جديد. حصلت على كمية لا بأس بها من شقيق موكلي وقد ساعدتني كثيراً في تجاوز أزمة نوبات الهلع.
- إنها أفضل أنواع المخدرات يا استاذ.. وهي هدية مخصوصة من أخي..
قلت:
- حقاً.. إنها أفضل ما حصلت عليه حتى الآن..
وصلت إلى الجراء، وجثوت قربها.
- نهارك سعيد أيتها الجراء.. اليوم كانت آخر جلسة لي أمام المحكمة.. سأتفرغ لك تماماً بعد اليوم..
أخذ الجروان يصأصئان ويموران فوق بعضهما.
- متى ستتحركان ككلبين كبيرين يا ترى؟ يبدو أن حياتكما على المحك كموكلي.. وإن كانت حياتكما أهم من حياته بكثير.. نعم.. فانتم معشر الكلاب تملكون خصالاً يوقرها البشر لأنها ليست فيهم.. أما أنتم فلا توقرونها لأنها جزء اصيل منكم..
أخرجت قطعة بسكوت وبللتها بلعابي ثم قدمتها لهما فقضما منها قليلاً ثم أشاحا عنها.
دفعت الباب ودخلت ثم خلعت ملابسي وجلست عارياً.
كان عالمي يبدو هلامياً جداً. إن الزمن قد مضى بي بسرعة دون أن أمسك فيه بحقيقة واحدة. لذلك كنت كل ما أفعله هو أن اصطنع الحقائق لعالم تستوي فيه الحقائق بالأكاذيب. وسمعت صوت أستاذي الذي تدربت على يديه وهو يقول:
- هناك اكثر من حقيقة للشيء الواحد.. ففي القانون هناك حقيقة واقعية وحقيقة قانونية.. ما سيهمك دائماً هو الحقيقة القانونية.. وهي التي عليك أنت أن تختلقها وتقنع الآخرين بها.
مات الجرو الذكر، ثم لحقت به الأنثى بعد دقائق. كانت جثتاهما ملقاة تحت قدمي، باردة والذباب يرف حول خطميها. فصنعت والصبي الذي كان يعتني بهما نعشاً صغيراً من الخشب، وأحطناه بزهور بلاستيكية، وبعض قطع صغيرة من أخشاب الصندل. ثم حملناهما إلى الخلاء لندفنهما هناك.
بعد بضعة أشهر وأنا أسير في شارع ترابي عريض وجدت شاباً يقفز أمام وجهي شاهراً مسدسه وهو يصيح:
أيها الكلب.. لماذا أنقذت قاتل والدي من حبل المشنقة.. اخبرني ايها المجرم..
أدركت أنه ابن الشرطي وأن بضع كلمات مني قد تجعله يعدل عن تهوره، لكنني تذكرت كل شيء في تلك اللحظة.. كل من فقدتهم.. وخاصة الجروين الصغيرين.. لذلك لم انبس ببنت شفه.. حتى رأيت الوميض ينبعث من فوهة ذلك الجسم المعدني الأسود.


(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى