أمل الكردفاني - مسلسل المحامي المعتزل: الحلقة الثانية- بعد فوات الأوان

السقف الأبيض يُشع، جفناي ينقبضان لكي يحجبا الوميض عن عدستي العينين. ثم رأيت أكثر وجه اكرهه في حياتي؛ رأيته يطل من أعلى ويقول بصوته الذي لا أحبه:
- حمدالله على السلامة يا أفلاطون.. أراك عدت إلى الحياة ولم ترحنا منك..
إنه رؤوف؛ المحامي المتملق والحقود منذ أيام الجامعة..ذو الكرش الضخم والرأس الصغير شبه الأصلع.. كائن دميم..
حاولت التنفس ببطء حين أدركت بأنني داخل مستشفى.. ثم تذكرت المشهد الأخير حين ومضت فوهة المسدس من الصبي ابن الشرطي.
- لو تزوجت لوجدت من يهتم بك وأنت في هذه الحال..
قاطعته:
- ماذا أتى بك.. بالتاكيد لم تأتِ لتتشفى بمنظري هذا؟
ثقبني بعينيه العسيليتين وهمس وهو يجز أضراسه:
- كم أكرهك..
ثم عاد وقال بجدية:
- ولكنني في حاجة ماسة إليك..
قلت:
- وما الذي يدعوني لمساعدة شخص يكرهني..
قال بجدية:
- لتشعر بتفوقك علي كالعادة.. نعم.. أنت رجل نرجسي يا سعادة الأفوكاتو الكبير.. وهذا ما يجعلك تسحق خصومك داخل قاعة المحكمة كما لو كانوا ذباباً..
- لقد هجرت المحاماة.. انتهى عهدي بها..
- حقاً؟!!!
- حقاً.. وقبل أن تسالني.. قررت ذلك لأسباب شخصية..
قال بحزن:
- ويبدو أنني أيضاً سأعتزل المحاماة..
ثم أضاف بسرعة وفزع:
- انقذني يا أفلاطون.. ارجوك..
وقص عليَّ قصته الخائبة. فكعهده دائما حاول رؤوف اقتناص فرصة للشهرة فقرر الدفاع عن متهم في قضية لا أخلاقية، ويبدو أن الإعلام قد شنَّ عليه هجوماً واسعاً وثقيلاً ووصموه بالمحامي القذر وغير ذلك من أوصاف.. ثم صرخ:
- انجدني يا أفلاطون..
- وماذا بإمكاني أن أفعل لك؟
قال:
- اسمح فقط بعشر دقائق من وقتك ودافع عني في لقاء تلفزيوني.. لقد جهزت كل شيء.. رشوت مدير القناة والمذيع وأعددت الأسئلة كما أفعل مع الشهود لكن ينقصني الأجوبة من شخص مثلك يملك حججاً منطقية..
- أنت ترى بأنني مصاب بطلق ناري ووضعي لا يسمح بالانتقال إلى مكاتب التلفزيون..
- سيأتِك التلفزيون في مكانك.. فقط وافق.. أرجوك..
قلت:
- وماذا لو هاجمتك؟
قال:
- لن تفعل..
همست وعيناي تبرقان:
- ماذا لو أردت تدميرك؟
- لن تفعل.. هل تعرف لماذا؟.. لأنك تحب تحدي نفسك..
قلت:
- سأحاول.. ولكن عليك أن تعلم بأن خطأك كبير.. إن الشعب كله ضدك لأنك ستدافع عن ذلك الكلب..
نهض وقبلني على خدي الأيمن ثم الأيسر وقال:
- وأنت أقوى من كل الشعب..
- حسنٌ..
غادر وهو يتحدث عبر هاتفه ويصيح بصوت عالٍ كالمعتاد:
- وافق.. فوراً.. فوراً.. الآن..
وخلال ساعة كان مصمم الأزياء يلفني ببدلة قديمة وهو يقول:
- سنظهرك من أعلى فقط.. لذلك لا داعي لارتداء بنطال أو حتى النهوض من السرير.. كن مرتاحاً يا أستاذ..
وجلست المذيعة قربي وأخذت تثرثر ثرثرة كثيرة لا معنى لها ثم طرحت السؤال:
- نتحدث اليوم عن أخلاقيات المهنة.. هناك حادثة شغلت الرأي العام خلال الأسبوع المنصرم وهي قضية المحامي الذي دافع عن مجرم في قضية لا أخلاقية.. الا تتفق معي أنه بذلك يكون مدافعاً عن الشيطان؟ أليس هذا ضد أخلاق المهنة؟
قلت:
- إن الشيطان نفسه يجب أن يحصل على محامٍ إذا تمت محاكمته أمام القضاء.. ليس فقط لأن هذا حق كفله الدستور والقانون ولكننا جميعا يجب أن ندافع عن حق الشيطان في الاستعانة بمحامٍ لأننا لو فرطنا في هذا الحق مرة فستستغله الحكومة يوماً لتهديد حريتنا.. نعم تستطيع السلطة العامة أن تورط خصومها السياسيين في جرائم لم يرتكبوها ثم ترفض أن يدافع عنهم محامٍ.. تستطيع أن تدس لنا مخدرات في سياراتنا أو جيوبنا.. أن ترسل لنا نساء فاسدات ليشوهن سمعتنا.. أو أي جريمة مختلقة أخرى.. حتى الأفراد العاديون يمكنهم أن يدعوا كذباً بأن شخصاً ما قد ارتكب جريمة لينتقموا منه.. لذلك ولحمايتنا أوجب الدستور والقانون أن نتمتع بحق الاستعانة بمحامٍ.. لأن المحامي هو الذي يملك الخبرة القانونية الكافية لفضح الإدعاءات الكاذبة..
- ولكن ماذا لو أفلت المجرم من العقاب بسبب المحامي؟
- إن المحامي لا يرتكب جريمة ليفلت المتهم من العقاب وإنما يستخدم القانون ولذلك فإذا كانت هناك ثغرة قانونية فإن المسؤول عنها ليس المحامي ولا حتى القاضي بل المسؤول عنها هو المشرع.. هو البرلمان.. ودعيني أخبرك بحكمة قانونية قديمة ولكنها عظيمة في نفس الوقت.. وهي أن إفلات عشرة مجرمين من العقاب خير من إدانة متهم واحد بريئ. نحن ليس علينا أن نقوض هذه الحكمة الخالدة على أساس مشاعرنا العاطفية المؤقتة والسطحية.. ولذلك إذا تمت محاكمة شخص عبر منعه من حقه في الاستعانة بمحامٍ فإن هذه المحاكمة تكون باطلة..
- ولكن ماذا لو كان المحامي يعلم بأن المتهم فعلاً قد اقترف الجريمة.. هل من أخلاقيات المهنة أن يدافع عنه..
- إن المحامي ليس هو من عليه أن يحكم.. بل يجب أن يحكم القاضي بذلك.. فالحقيقة القانونية تعلو ولا يعلى عليها.. وإذا كانت كل الأدلة تشير إلى اقتراف المتهم للجريمة فلا شك أن المحكمة ستقضي بإدانته أما لو لم تكن الأدلة كافية فستقضي ببراءته ولا يحق لأي أحد بعد الحكم بالبراءة أن يشين سمعة المحكوم له بالبراءة وإلا عد مقترفاً لجريمة. دعيني أؤكد لك مرة أخرى.. أن حرمان المتهم من الاستعانة بمحامٍ يبطل المحاكمة وإذا كان المتهم لا يملك مالاً ليدفعها كأتعاب للمحامي فعلى الدولة أن توفر له محامٍ على حسابها.. لذلك ففي كل الأحوال لا بد أن يكون هناك محامٍ ما دام المتهم لا يرغب في الدفاع عن نفسه بنفسه.. وهذا في أغلب الأنظمة القانونية في الدول الدموقراطية المحترمة.. لذلك أعتقد أن شن حملة تشويه للزميل المحامي ناتجة عن جهل بروح القانون وضمانات المحاكمة العادلة وقيم العدالة الخالدة..
- نشكرك يا أستاذ..
- العفو..
انتهى اللقاء وعلمت بعدها أن رؤوف قد نشره في كل وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الورقية والرقمية وربما علقه على جدران المعابد والمستشفيات والمحاكم.. ثم اتصل بعدها وقال بنبرة حانقة:
- لهذا أكرهك.. أكرهك..
ثم أغلق الهاتف..
كانت صحتي تتحسن ببطء، وانتابني سعال لسبب خفي، وكانت كل نوبة سعال مقدمة لنوبة هلع قادمة. وهذا ما حدث بالفعل حين رأيت رؤوف ومعه امرأة حسناء يدخلان إلى غرفتي. إنها المحامية التي كانت تردد اسم الشاهد في سرها داخل قاعة المحكمة؛ لكنها الآن أكثر جمالاً مما كانت عليه.
- لم تكن تصدق بأنني زميل دراستك يا أفلاطون ولهذا أحببت أن اؤكد لها ذلك بياناً بالعمل..
كانت تمتلك ابتسامة واسعة جميلة بصف أسنان بيضاء ومتناسق.. فقلت في سري:
- لقد كبرت على هذه المشاعر يا أفلاطون.. هرمت ويجب أن لا تتمادى في خيالات الحب..
احتضنت كفها كفي وهي تقول ضاحكة:
- أعجبتني مرافعتك تلك يا أستاذ رغم أنك لم تكملها..
سألتها:
- وانا كنت أتمنى أن اعرف اسم شاهدك.. كاد الفضول أن يودي بي..
قهقت بصوت عذب وقالت:
- لن تصدقني إذا أخبرتك بأنني نسيته اثناء السماع.. بل أنني لا أستطيع تذكره حتى الآن..
كانت روحها لطيفة، منفتحة وتملك ذكاءً عاطفيا.. فقلت بحسرة:
- إن الأشياء تأتي دائما بعد فوات الأوان..
قالت:
- ماذا تقصد؟
قلت:
- لا شيء.. لا شيء..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى