مرفت يس - حينما يأتي الموعد

بابتسامة مرسومة على شفتيه .. لا يعرف كيف يمنحها لكل مريض، وهو يوقن أن سويعاته في الحياة معدودة، وأن كل شيء يقوم به فقط.. لتأخير مهمة ملك الموت قليلا .

تلك الابتسامة كانت تثير غيظ وضيق الحاج بطران في الأيام الطويلة التي قضاها طريح الفراش بغرفته المطلة على النيل في المستشفى. يتسائل : كيف يمتلك ذلك الطبيب الجرأة على أن يبتسم، ويضحك في الوجوه ، التي يترقبها الموت . نفس تعبيرات الوجه ؛ تصاحب من يخرج بصحبة أهله في الحالين : للحياة أو للموت .أم هي ابتسامة متفق عليها ، إشارة تقول أد عملك قد حان الوقت .

عجيب أمر هؤلاء الأطباء ! هل يعقدون صداقة مع ملك الموت ؟.

طرق باب غرفته، تصفح ملفه بسرعة، وكتب بعض السطور، ختمها بتوقيعه، وعلق الملف في مكانه، رفع وجهه بابتسامة ردها الحاج بطران بإيماءة وجه ونظرة عميقة إلى عيني الطبيب ، أربكته قليلا ، قبل أن يخبره بلستة الممنوعات .

العملية بكرة ، لاشاى ولاقهوة ولادخان طبعا، تصبح على خير

*************

في سكون الليل ، بعد أن هدأت الحركة تماما في المشفى ، نهض ببطء يستند على أطرف سريره ، أصابع قدميه تبحث عن حذائه ، من كومدينو بجانب السرير, أخرج حقيبة عتيقة الطراز من أحد جيوبها تناول علبة السجائر والولاعة المحفوظتين بعناية شديدة داخل علبة فضية، منقوش عليها جداريات فرعونية قديمة. شد ستارة النافذه وجلس على كرسي مسندا ظهره، مادا قدميه على منضدة صغيرة أمامه. أشعل سيجارته واستمتع بأخذ أول نفس منها بعد فترة طويلة من المنع داخل جدران تلك الغرفة ،أحس بخدر خفيف يسرى في جسده ، أغلق عينية عندئذ رأى نفسه داخل نفق طويل ضيق مظلم تتزايد ضربات قلبه ، في نهاية النفق رأها .

تقف أمامه تومض صورتها وتظهر ثانية، فرك عينيه ليراها بوضوح، ملامحها تبدو مألوفة لوجه شاهده من قبل . يفتش في ذاكرته، بين مئات الوجوه التي استضافها في مندرة بيته الواسعة ، و اعتاد أن يستقبل فيها أفواج من المتنازعين من أهل قريته ليحتكموا إليه ، يسأل نفسه أين رأها.

تتشكل صور من تموجات دخان سيجارته ، تتشابك فيها وجوه كثيرة، تنمحي لتظل تلك الفتاة واقفة بمواجهته، تتضح ملامحها أكثر ف أكثر. عيناها عسليتان محملتان بغضب شديد، وشفتاها ترتجفان ، وشعرها مشعث . أصابته نظرتها بقشعريرة أحس بها من قبل مرارا ، فشل في تذكر أين شاهد هذا الوجه الذي يبدو مألوفا له.

نسيتني؟!

الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان

انتابته رجفة شديدة ، صدى ذلك الصوت أرقه لسنوات في منامه ، صراخها ،وهى تستنجد به فيما هو يتجاهل لك الصراخ . شقيقها يجرها من يديها على الأرض أمام ناظريه ، كان واقفا منتصب القامة بطوله الفارع ، فوق تلة مرتفعة، تستغيث به بعد أن كمم الآخ فمها ،ظلت تحملق فيه إلى أن وقعت صخرة كبيرة على رأسها ،اسلمت الروح وسبح جسدها في النيل .

شفت أنت عملت فيا إيه؟
ليه كده؟

قالتها وهو منشغل بطى عباءته السوداء ولفها حول كتفيه فوق جلبابه الأبيض .

العباءة نفسها التي فرشها على الأرض بين أعواد الذرة الممتلئة بكيزان ناضجة ، راقبها وقتها وهى تمرح في الغيط المجاور للبحر، تمشي بخيلاء وفرحة مراهقة صغيرة تتفتح براعمها للحياة. كان يومها يسير باتجاه البحر ليمارس عادته اليومية في السباحة في نفس الوقت كل يوم من الظهيرة ، تسلل خلفها بهدوء شديد بعد أن تلفت حوله مرارا؛ ليتأكد من خلو المكان من الفلاحين .

شدّ طرحتها وقبل أن تلتفت ألقى بها، برك فوقها وجهها كان ملاصقا للأرض ، أحكم قبضته علي فمها وانتهى الأمربسرعة شديدة ، جذب عباءته من تحتها في تلك اللحظة التقت عيناهما .فر مسرعا من أمامها وتركها تولول وحيدة .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى