أحمد عبدالله إسماعيل - كوكو..

تهب ريح عاتية شديدة، في عصر يوم ربيعي مثير للرمال والأتربة، أجلس في المحطة، أنتظر القطار الذي تأخر كعادته، أشرب القهوة التي يفضلها معظم أبناء جيلي سادة.
أمسك بهاتفي المحمول أمرر الوقت؛ فطلبت شقيقتي أسأل عن أحوالها.
تلمح عيني، في أثناء حديثنا، منظرًا صادمًا!
سألتها في استياء:
- ماذا يحدث في هذه الأيام؟
فسألت في استغراب:
- ماذا جرى؟
انفجرت في ضجر:
- لماذا لا يعلّم الأهالي أولادهم ما يجب وما لا يجب؟!
استفسرت في عجب:
- لماذا تقول هذا الكلام الآن؟!
أجبت في ضيق شديد:
- يجلس طفل بملابس المدرسة على قضيب القطار دون مبالاة!
تعجبتْ من هول ما سمعتْ:
- أنت تمزح كعادتك، أليس كذلك؟
أنهيتُ المكالمة، وفتحتُ الكاميرا وأخذتُ صورة للطفل، ثم تأملتها وتساءلت:
"هل يعيش في الخرابات أو الأماكن المهجورة؟! لا؛ فهو يرتدي ما يُظهر أثر النعمة عليه، لكن لماذا طأطأ رأسه في انكسار هكذا؟!"
أرسلت الصورة لشقيقتي على هاتفها ثم عاودت الاتصال؛ لوصل الحديث الذي انقطع:
- هل وصلت اللامبالاة إلى ما يفعله؟!
أجابت بصوت مهتز:
- ربما يمر بحالة نفسية سيئة.
أيدت كلامها محاولًا إيجاد مبرر مقبول:
- ربما ماتت أمه.
قاطعتني:
- بل ربما أهانه أحد المعلمين أو مارس أحد زملائه البلطجة عليه.
سمعت صوتًا ينذر بقدوم قطار، فأنزلت الهاتف جانبًا، ونظرت في صدمة إلى الإشارة الضوئية، ذهلت حين تحول لونها إلى الأحمر، نظرت إلى الطفل وجدته قابعًا في مكانه بلا حراك كأنه مكبّل الجسد!
رفعت الهاتف على أذني وقلت في صدمة:
- سيدهسه القطار!
قالت في لهفة:
- إنه لا شك يحاول ...!
وضعت الهاتف في جيبي؛ لأني سهوت عن إنهاء المكالمة، صحت بأعلى صوت:
- القطار على وصول ، قم بسرعة، يا ولد!
لم يتحرك الصبي، والأعجب من ذلك أن أحدًا لم يلتفت إليه!
سمعت صوت طقطقة القطار؛ فهرعت في جنون، وقفزت فوق قضيب خط السكة الحديدية، عريض الرأس مسطح القاعدة، محاولًا تفادي الحصى.
جذبت الطفل منكس الرأس رافض النهوض، ثم حملته بالقوة فوق كتفي.
ظننته في البداية يلهو عابثًا، لكنه صدمني حين قاومني ودفعني غير مرة بكلتا يديه ليفلت مني، وصاح:
- اتركني وشأني.
أكملت دون التفات لما يقوله، لم يتحرك أحد لمساعدتي؛ حملته ووضعته على رصيف المحطة، وبمجرد خروجي من المنطقة الخطرة مر القطار أمام أعين المسافرين الذاهلة المندهشة!
صرخت في الناس الذين تجمهروا حولنا:
- لأكثر من ربع ساعة، ظل على قضيب القطار، لم ينتبه إليه أحد، لم يتحرك، كأنه مثبت بمسامير في الأرض، ولم تلتفت إليه أعينكم، لماذا تنظرون إليه الآن؟! هل نحن في سيرك تشاهدونه للتسلية؟! انصرفوا، انصرفوا، كل إلى حال سبيله!
بكى الطفل في حالة هيستيرية، ونظرات عينيه أخذت تتهرب مني، لكنه لم ينطق بكلمة واحدة.
بعد نصف ساعة، سكنت العاصفة، تسمرت نظراته برهة، التفت إليّ، بدأ يحرك شفتيه، وقال:
- لم أعد أهتم بأي شيء.
أكمل حديثه بوجه عابس والدموع تنساب على خديه:
- وجهي صغير لا يناسب شكل أسناني الكبيرة!
حاولت تهدئته:
- لا أفهم ما تقصده، هل يضايقك أحد لهذا السبب؟
حاول أن يتمالك نفسه، أطل الحزن من عينيه، ثم أجاب:
- كانت المضايقات من زميلين بالتحديد، واستمرت طوال السنين الماضية في المدرسة!
فاجأني قوله؛ فسألته في دهشة:
- هل تقدمت بشكوى إلى الإخصائي الاجتماعي؟!
حول نظره بسرعة، أجاب بصوت يئن في ألم:
- اكتفوا بالضحك في كل مرة!
بلعت ريقًا أمر من الحنظل، وقلت:
- ما فائدة التعليم؟!
سألته متعجبًا من عدم وجود أي شيء معه، وقلت:
- أين الحقيبة والكتب ؟!
حطت على قسماته نظرة تحدٍّ، أجاب بصوت متهدج:
- تركتها في سيارة المدرسة، مشيت في الشوارع حتى سمعت صوت القطار!
قصدت التهوين مما يعاني منه وقلت:
- هل مضايقات الزملاء تؤلمك إلى هذا الحد؟!
داهم أذني ما شكي منه حين قال:
- سخروا من شكل أسناني، وكتبوا ورقة أظهرت كراهيتهم لي، بالإضافة إلى وقوفهم تحت شرفة منزلي يصرخون بألفاظ سيئة ضدي؛ إنهم يلقبونني ب (كوكو الضعيف)!
كان وجهه رغم اليأس ينبض بالرغبة في الحياة، انتفض صدره؛ فتعاطفت معه وقلت:
- هل حدث هذا حقًا ؟!
ترقرقت الدموع على صفحة وجهه، وقال بصوت حزين يصعب معه تفسير الكلام:
- أقسم أني لم أسخر يومًا من أحد، حتى أبي لم يمل من تأجيل اصطحابي لطبيب الأسنان كأنه لا يحس بمعاناتي هو الآخر.
أثار استغرابي اتخاذه هذا القرار الصعب اليوم بالذات؛ فسألته:
- احتملت هذا الوضع طويلًا، فما الذي دفعك اليوم كي تقسو على نفسك هكذا؟!
نظر إليّ بعين ذليلة وقال:
- لم أشعر بالإهانة مثل اليوم؛ إذ رتبوا شجارًا حادا؛ فتجمعوا لضربي وإسقاطي على الأرض بقسوة لأكثر من خمس عشرة دقيقة، وأصدر أحدهم من أنفه وحلقه صوت شخير غير مهذب أشعرني بالخجل، وتألم قلبي وتقلّصت عضلته حتى كدت أموت من شدة القهر!
قالها وسكت عن الكلام، وكأنما حدث شرخ بداخله.
انطلقت معه إلى بيته، احتضنه والده في ألم وحسرة، وكادت أمه تجن؛ فسقطت مغشيًا عليها، تعالت الصرخات قبل أن يفحصها الطبيب؛ فيقول إنها فقط تعاني من انهيار عصبي.
صدمني الأب حين انفرد بي وقال:
- اعتاد أن يكتم بداخله ما يسمعه ويراه كل يوم!
انفجرت كالبركان مستفسرًا:
- لا بد أن أوقد لك الضوء الأحمر وأسألك: هل تتواصل مع ابنك وتستمع إليه بإنصات؟
كان وجهه قاتمًا، فأجاب في حسرة:
- لا يتحدث كثيرًا رغم أني أقنعته مرارًا بزيارة الطبيب؛ بسبب شكواه المتكررة من الأوجاع وشعوره بالغثيان!
أشعل الأب سيجارة، وأصر أن يعرف كيف أنقذت ولده فحاولت استحضار ما كان وقلت له:
- وضعني القدر في هذا المكان؛ لأني بطبيعتي لا أميل إلى السفر بالقطار، لكن ما أذهلني مرور الناس من أمام ابنك دون أدنى اهتمام!
أخذ الأب نفسًا عميقًا ثم سأل:
- ما الذي دفعك للتصرف بخلاف كل الناس؟
مسحتُ جبهتي بكفي، وركزت نظري على صورة ابنه المعلقة على الحائط، أشرت إليها بسبَّابتي اليُمنى وقلت:
- ابني الأصغر في مثل عمره، وعندما رأيت إشارة مرور القطار احمرّ لونها، ذهب عقلي، نظرت كالمجنون وقلت لنفسي: هل يصدق حدسي فيما يفكر فيه هذا الطفل؟ وهل يعاني ولدي يومًا مثلما يعاني هو الآن؟!
أجاب الأب وجسده يرتعش في ذهول وقال:
- مع الأسف، كثرت حالات الانتحار بين الأطفال والكبار.
- وما السبب من وجهة نظرك؟!
- الاكتئاب الذي لا يفرق بين طفل سخر منه زميله، ولا شاب فشل في الحصول على وظيفة أو رفضته من تعلق بها قلبه، ولا شيخ خاب ولده أو خانته شيبته أو هجره أولاده بعدما أعطاهم كل ما يملك في حياته!
أجبت متعاطفًا مع ولده وقلت:
- ربما كان في حاجة إلى تعديل سلوكياته وبناء شخصيته، وربما يغار منه زملاؤه.
أجاب الأب بنبرة حزينة وقال:
- لا أعلم، هو يتعامل باحترام مع المعلمين والزملاء في المدرسة، ويهتم بزيّه المدرسي، ويبتعد دومًا عن أساليب العنف، ويمتلك مهارات يتفوق بها على رفاقه!
تعجبت من امتلاكه كل تلك المقومات فسألت:
- لماذا يقدم على تلك الفعلة إذن؟
أجاب متحسرًا وقال:
- لم يقل أبدًا إنه يتعرض للإهانة اللفظية بسبب شكل أسنانه، قال فقط إنه يكره المدرسة كثيرًا بسبب مناداة زملائه له بلقب «كوكو الضعيف» لكني لن أمنعه من الذهاب إلى مدرسته بسبب مجرد كلمة.
كان وجهي شديد العبوس حين أجبته مختلفًا معه في الرأي:
- بل لا بد من احترام كل كلمة ينطق بها الطفل مهما بدت تافهة أو سخيفة؛ فالكلمة ترفع وتضع.. تُبقي وتُبيد.. الكلمة تحيي وتميت.
اصطحبت الرجل وولده في رحلة قصيرة استغرقت دقائق معدودة، انطلق "كوكو" تاركًا يد والده؛ ليضع قبلة حارة على خدي الأيسر؛ إذ أدرك أننا أمام مركز لتقويم الأسنان!
عدنا معًا وعمَّ بيتهم الفرح، وفي تلك اللحظة تلقيت اتصالًا من ولدي، سمعتُ صوت بكائه؛ فرقّ قلبي وقلت:
- ماذا بك يا حبيبي؟ ما الذي يبكيك؟
أجاب بصوت يخرج بصعوبة وفاجأني حين قال:
- لا أريد الذهاب إلى المدرسة مرة أخرى!
لطمت كلماته أذني، فسألته في حنان وقلت:
- لا عليك، سوف تنتقل إلى مدرسة أفضل منها، لكن قل لي بصدق، هل حدث ما يغضبك إلى هذا الحد؟
انتظرت أن يروي ما يعاني منه، وبحسرة، بعدما غاب صوته للحظات قليلة، فوجئت به يقول:
- أُخبرك عندما ترجع، لا تتأخر.
انزعجت بشدة وصرخت عاليًا:
- بل الآن؛ لن يهدأ بالي إن لم تخبرني!
تأوَّه أسفًا حتى أوجع قلبي ثم قال:
- ليس لدي أي أصدقاء؛ اتفق الزملاء على عدم الاقتراب مني، وعزموا على ضربي!
أصر كوكو ووالده على مرافقتي. بعد أقل من عشرين دقيقة كنت إلى جوار ولدي في سريره، رفعت الغطاء عن وجهه العابس؛ فرأيت البراءة في عينيه؛ ابتسمت دون أن أمنع عيني من البكاء، قبلت يده كعادتي ثم عانقته، ومسحت بيدي على ظهره، وقلت:
- هل أنت جاهز للخروج معنا؟
اتسعت حدقة عينيه، وكان مستلقيًا فجلس، ثم استفسر متعجبًا:
- إلى أين؟! ومع مَن؟!
أبت الكلمات أن تخرج من فمي حتى ابتعدنا عن البيت قليلًا، وفي الطريق تعرَّف إلى كوكو ووالده.
تبدد الألم العالق بقلب ولدي؛ أذهلته المفاجأة، وسرعان ما ضمني إلى صدره بشدة، وطبع قبلة على خدي الأيمن حين وجد نفسه في ذلك المكان!
شعر كوكو بالسعادة الغامرة حين وافق والده على أن يلتحق، بهذا المركز الرياضي لتعلم حيل الدفاع عن النفس؛ فانطلق تاركًا يد والده؛ ليضع قبلة حارة، هو الآخر، على خدي الأيسر، ثم توسَّل ألا أناديه إلا بلقب "كوكو الأسد"، وقال بابتهاج وثقة:
- لن أكون خائفًا بعد اليوم.

أحمد عبدالله إسماعيل
من المجموعة القصصية "أقنعة السعادة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى