جوناس ميكاس - يوميات نازح.. ترجمة: أسماء يس

في 1944، بينما كان في سن العشرين، غادر جوناس ميكاس (المخرج التسجيلي البارز) قريته الصغيرة في ليتوانيا، ليقبض عليه النازيون برفقة أخيه ألدوفاس.
بدأ ميكاس حياته الأدبية محررًا بصحيفة محلية أسبوعية، ونشر أولى قصائده. كما شارك في إصدار نشرة مضادة للألمان، وكتب قصيدة مضادة لستالين؛ "خُتم مرتين".
بدأ جوناس وألدوفاس رحلتهما إلى فيينا، مستهدفيين الوصول إلى سويسرا من هناك. لكن بدلاً من ذلك، انتُزعا من القطار قرب هامبرج، ليرسلا إلى معسكر الاعتقال النازي، وهناك بدأ ميكاس يدوِّن يوميّاته. وأخيرًا، بالطبع، وصل إلى نيويورك.
في سنوات اليوميات، من 1944 حتى 1955، حيث تنقل ميكاس في أوروبا ما بعد الحرب، حتى مناظر المهاجرين إلى نيويورك في منتصف القرن "كان الشك هو الثابت الوحيد". في 1985 يقول ميكاس "عندما أعيد قراءة هذه اليوميات، لا أعرف حقًّا إن كانت حقيقة أم خيالاً... أقرأها وكأنها ليست حياتي أنا، بل حياة شخص آخر.. وكأن هذه المآسي لم تكن مأسيَّ قط! كيف استطعت أن أنجو؟ لا بد وأني أقرأ يوميات شخص غيري!".
نُشرت اليوميات للمرة الأولى في بلاك ثيستل برس1991، بعنوان "ليس لدي مكان أذهب إليه"، وستعيد دار سبكتور بوكس طبعها هذا الشهر (2017).
في المدونات الثلاث التالية، سنة 1948، سنجد دوناس وألدوفاس في معسكر النازحين في فسبادن، ميكاس محبط ويشعر بالحنين إلى الوطن، لكنه عنيد، ومصمم على الحياة يومًا بعد الآخر.
نيكول روديك.


4 يناير 1948
مناخ ربيعي. رياح ربيعية. بلل ووحل في كل مكان.
11:30 صباحًا. جاء فالداس ودعانا كلنا لأكل الكوكولاي "الزلابية" هذا المساء، كانت أمه تطهو. ذهبنا، ألجيس وليو وألدوفاس ولحقنا بوزيناس، إلى فالداس من أجل الزلابية، لكن أمه أعلنت أنها لم تَعِد بأن تطهو لنا، وكي نتسلى ذهبنا كلنا للتمشية.
في الشارع، كان هناك رجلان يوغوسلافيان ثملان، يحاولان تشغيل موتوسيكل، تجمع الحشد حولهما، وكان الجميع يضحكون. لقد شغَّلاه، لا، لقد وقعا، وها هما يحاولان ثانية، جاءت امرأة يوغوسلافية شجاعة، ومسكت أحد الرجلين من عنقه، وجرَّته، حرفيًّا، حملته بعيدًا إلى البيت. أعتقد ذلك.
أنهيت قراءة ستانسلافسكي.
يتمشى ليو، ببطء شديد، كما لو كان سحابة سوداء. يشكو، إنه خائف أن يكون مصابًا بالسُّل. ظهره يؤلمه، يقول ربما يكون سرطانًا، يجب أن يذهب ليجري فحصًا.
قالت تيريزا "أنا امرأة عصرية، أحترم الاتجاهات الحديثة، وأعتبر أن الأشياء الموجودة اليوم ضرورية، أمتثل لها، وأعيش بهذه الطريقة". قلت لها "أنت امرأة غبية، لا عصرية... أنت مؤمنة بالقدر، لو جاء شخص يومًا ما وأراد أن يقطع رقبتك، هل ستتقبلين ذلك أيضًا؟".
أخذ جوزيف عائلته وابتعد مع ماري والطفل.
"لقد مُنحنا حرية التصرف، حرية اختيار التصرف. لا ينبغي أن نمتثل "للقدر". لا ينبغي أن نتبع كل ما يحدث اليوم بطريقة عمياء".
قالت تيريزا إني شاعر، ومثالي، وأني لن أرى الواقع كما هو أبدًا. عندها أنهيتُ المحادثة.
قدر ما نستطيع نحاول إخفاء الغنائية، لكنها لا تنفك تظهر. لا يستطيع الليتواني أن يعيش بعيدًا عن الطبيعة، لا يمكن أن تفصله عن الأراضي الخضراء المتسعة، ولا عن جداول الماء، ولا عن خيوط العنكبوت الطائرة في الهواء آخر سبتمبر، ولا الغابات التي تعبق برائحة الطحالب والتوت.
لهذا استمر ينحت تماثيل المسيح الخشبية ويضعها على جوانب الطرقات، بوجوهها التي تنظر، دومًا، نحو الأرض، تنظر إلى الأرض، وتحلم. كان مسيحهم دائمًا ما يحلم. مسيحهم ليتواني، مسيح الطرقات الجميل!
أحيانًا يكون من الجيد السقوط في الفراغ، سواء كان شخصًا آخر، أو الشخص نفسه، أو مزبلة..
مباركة هي ساعات الفراغ..
أيا كانت فهي ليست ممتلئة..
مازالايتي: ماذا لدى الآخرين ليعلمونا إياه؟ ماذا هناك ليتعلمه الكُتَّاب من الآخرين؟ الكاتب، أو الفنان، مثل الطائر؛ عليه أن يغني، عليه أن يغني أيا كان غناؤه!".
أنا: غنِ، لكن كفى من فضلك، كفى، كفى، غناؤك مريع!
ذكرى
ذهبنا مع والدي إلى الغابة بالسيارة، كانت كل الطرق مقصوفة، ومليئة بالحفر، جلست في الجزء الخلفي من العربة. مع كل اصطدام للعجلات، يضطرب كل ما في داخلي ويتقافز، كبدي، ورئتايَّ...
حدوتة
كان هناك رجل، طلب منه الله أن ينفذ مهمة صغيرة، كانت مجرد مهمة صغيرة، ولا أعرف ماذا كانت بالضبط. قال له: افعل ذلك، وستتحول هذه الأرض ثانية إلى جنة، لن يكون هناك ملوك، ولن يُضطر أي شخص للعمل، سيكون كل الناس أحرارًا وسعداء... إلخ.
أخذ الرجل يفكر، أيفعل ذلك أم لا؟ ذات يوم فكر فعلاً أن عليه أن يفعل ذلك، لكنه في اليوم التالي لم يكن متأكدًا، وفكر أنه ربما لا يجب أن يفعل "لماذا نحن في حاجة إلى الجنة؟ دع الناس يعملون، أهذه مشكلة كبيرة؟! هذا مفيد جدًا لنظامك". لكنه عاد في اليوم التالي وفكر" ربما، في النهاية، سيكون لطيفًا ألا نعمل، وألا نفعل أي شيء". وعلى هذا الحال، لم يستطع أن يتخذ قرارًا، استغرق الأمر أيامًا وهو يفكر في الأمر، حتى مات ذات يوم. يا له من أمر مؤسف... لقد كان بوسعه أن يحول الأرض إلى جنة!
**
10 يناير 1948
أنت مدعو لقراءة هذا على أنه شذرات من حياة أحدهم. أو كرسالة من غريب مشتاق لوطنه. أو كرواية، خيال بالكامل، نعم، أنت مدعو لقراءة هذا على أنه خيال، الموضوع، والحبكة التي تربط بين هذه التفاصيل هي كيف شببت عن الطوق، هي حياتي. الشرير؟ الشرير هو القرن العشرون.
الأجواء حزينة قليلا في الغرفة الآن، أجلس وأنظر خارج النافذة، كان هناك جليد، ورياح رهيبة فجَّرت علب البسكويت الفارغة، وطيّرت التنانير، الناس يمشون على جانب الطريق ووجوههم إلى الوراء، والسحب... آه كم كانت السحب تمر بسرعة، مليئة بالبرد وأنا جالس هنا أفكر، وأتساءل كيف هي السحب الآن في ليتوانيا، وأصبحُ عاطفيًّا.
لكن لم لا أكون عاطفيًّا؟ إذا كان هذا حزينًا، ليكن حزينًا، وساعتها لا شيء في إمكانك أن تفعله حيال ذلك، على الأقل ليس الآن. يمكن للواحد أن يلعب دور الشخص المتفائل، الشجاع، السعيد، لكنه في أعماق قلبه يشعر بهذا الحزن الدائم العظيم. لا يمكن الفرار من ذلك، من الحنين للوطن. لكنك تحاول أن تخفيه، أن تحدث نفسك للخروج منه، تحاول أن تتحايل عليه، لكن أفكارك تفضحك، وأحلامك تفضحك، كل شيء يفضح حنينك للوطن. وعندها، تشعر بالراحة، ما دمت تشعر بالحنين إلى الوطن فأنت تعرف أنك لست ميتًا بعد. تعرف أنك لا تزال تحب شيئًا!
*
28 يناير 1948
شفاينفورت. من رسالة إلى م بافارسكاس.
نود في منتصف فبراير أن ننشر عددًا جديدًا من مجلة سفلجسنياي. آمل أنك لن ترفض أن ترسل لي قصة قصيرة مختارة.
ماذا يحدث، ما الذي تكتبه؟ الرياح الفارغة تعوي في أرض أدبنا في المنفي (ليس الحال بأفضل في الوطن)، الحياة ثقيلة جدًا كصخرة، كنا ندفع إلى الأسفل في الثُكنات، أستطيع سماع الخطوات الحزينة للناس في غرفهم، جيئة وذهابًا، ذهابًا وجيئة، طول اليوم! (سيأتي أحد إليك ويضع يده على كتفك، ويسألك: ها، أهناك أخبار من الوطن؟ ثم يذهب بعيدًا، يذهبون بعيدًا، هؤلاء الناس، بعيونهم، في الماضي السحيق).
عندها، أحيانًا في منتصف الكتابة، ينهار كل شيء فجأة، لماذا؟ لمن؟ لمن أكتب؟ لماذا أكتب إن كان لا أحد سيقرأ هذا؟ ربما من الأفضل تركها، وحرقها في داخلك، فلا تولد أصلاً وتموت، إنهم يقتلون، ويمحون بلادي، الرجال ذوو الأصابع الدموية يسيرون في جميع أنحاء العالم مستهدفين رقبتي. سيخنقون شعبي كله، سيقطعون ألسنة الجميع، ما معنى الكتابة إذن؟ لمن أكتب؟
لذلك جلست إلى المائدة ثانية، وبعينين ثقيلتين حدقت إلى الورقة. كتبت، وكان كل ما أكتبه منقوعًا بيأس وجنون الزمن الذي نعيش فيه؛ جرائم مجنونة، وانتظار مجنون، عندما يكون الشيء الوحيد الذي تملكه هو الانتظار نفسه. بينما أنت تعلم أن هناك أناس، في مكان ما، يستطيعون العمل، يستطيعون فعل كل ما يريدون، في مكان ما، العجلة تدور، وأنت مجرد لا شيء صغير في العجلة الكبيرة، في الجحيم الكبير الذي تخمره القوى الكبرى.
لكن سيكون من الغباء أن تنتظر حتى يطحنوك. اجعلهم يعملون أكثر، اجعل الأمر صعبًا عليهم.. لذلك قف، وابدأ في تطويح ذراعيك يمينًا ويسارًا، أرجحهما في الهواء من حولك. تعال. تعال. نعم أنت، تعال وحاول أن تبتلعني. ربما سأقف في زورك، فتختنق، وربما تحتاج إلى معجزة.. من يدري! حتى جالوت انهار ذات مرة.
حين أنظر إلى العالم أجد أن الغالبية العظمى من الناس تريد الخير. حتى لو، بخجل، يأخذونه حين يعطى لهم. سواء كان خبزًا أو حرية، لكن أن تعمل من أجل ذلك، لا سمح الله، تلك الأشياء الجيدة وتلك السلبية. تعلم أن ما الذي يحتاجه الأخيار للتغلب على الشر؛ يحتاجون قليلاً من الشيطان في داخلهم.
والآن حان وقت دفاعنا عن هذه الأرض. اكتبوا...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى