عبدالأمير المجر - معلّم التأريخ

مازلت اتذكر .. ومازال شيء من الخوف يحضر مع كل تذكّر .. فحين يقبل معلم التأريخ نحو الصف، كنت أرقب خطواته من خلل الشباك حيث كانت رَحلَتي وزميلي، وكلما اقترب من الصف، كنت أسمع تلك الأصوات المخيفة التي تحيطه وتتقدم معه، حتى كنت أخاله مذياعاً يبثها .. حمحمات خيول وقرقعة سيوف ودوي مدافع ونداءات استغاثة، وأيضاً أصوات لأناشيد حماسية متداخلة .. ينتهي الصوت حين تنتصب قامته قرب السبورة ويرمقنا بنظرة خاطفة ثم يحاول أن يبتسم، قبل أن يبدأ الدرس .. كنت أنظر لوجهه وهو يحدثنا عن الحروب والصراعات القديمة، فيأخذنا الى أقفار بعيدة ومسميات كثيرة، حتى يغوص ويبدو وجهه أشبه بهالة من ضباب، أو ربما أنا أراه كذلك وقد غامت ملامحه وسط غبار المعارك أو الأحداث التي يتحدث عنها .. زميلي في الصف بادرني مرة بعد أن انفرد بي قائلاً؛ إنه لايخاف معلم التاريخ، لكنه يرى وجهه يتغير أثناء شرح المادة، وأكّد عليّ بأن لاأقول هذا لأحد، إنه يراه مرة بلون أحمر فاقع ثم يتحول الى أصفر وبعدها الى أسود فتختفي كل ملامح وجهه ثم يختفي كله، فلم أعد أراه ولم أعرف عن أي شيء يتكلم .. قلت لزميلي إياك أن تتحدث لأحد عن ذلك .. وكنا أنا وهو نحاول أن نخفي ما بدا لنا من معلم التاريخ، لكن زميلا آخر قال لنا أيضاً؛ إنه يراه حين يشرح المادة وقد جحظت احدى عينيه فيما الأخرى صغرت، وهكذا، واحدة تكبر حتى تخرج من محجرها ومن ثم تتدلى على صدره والأخرى تختفي تماماً ويغدو مكانها أشبه بالحفرة السوداء! وقد قلنا له أيضاً أن لايكلم أحداً غيرنا .. المفاجأة التي أذهلتني هي إن زميلاً ثالثاً قال لي بعد أن انفرد بي، كما لو إنه يخبرني بسر خطير؛ إن معلم التأريخ الذي يأتينا كل يوم ليس هو نفسه، وإنما يتغير باستمرار وإن إدارة المدرسة إتفقت مع أكثر من معلم لتدريسنا المادة، بعدما وجدت إن وجوههم تتشابه بعض الشيء، ولهذا لايتذكر معلم اليوم ما قاله بالضبط معلم الأمس، فتداخلت علينا المواد وتهنا بين الأحداث التي يشرحونها لنا .. أخافني حقا ما قاله زميلي هذا ولم أخبر زميليّ الآخرين به، لكني تيقنت من إن ما أراه وأسمعه عند قدوم معلم التأريخ حقيقة وليست تهيؤات كما كنت أظن وأريد أن يخرجني أحد منها ... في إحدى المرات وبينما كان يتحدث لنا عن أثر من العصور القديمة في إحدى الممالك، راح يستعرض لنا موجوداته حتى خيّل لنا إننا ندخله، ثم غشي علينا ووجدنا أنفسنا فيه، وقد دخلناه على شكل رهط، بملابس من تلك الحقبة القديمة ونتحدث بلغة أخرى أخذنا نتفاهم من خلالها مع بعضنا، فيما كان يتقدمنا معلم التأريخ الذي راح يتجول معنا في أرجاء المكان، ويشرح لنا موجوداته التي أذهلتنا، وشيئاً فشيئاً رحنا نبتعد في أعماقه حتى صرنا غير قادرين على العودة، لأننا ضللنا طريق العودة وسط المسالك المتعددة له وسعته الكبيرة، كان المعلم معنا، وصار يحاول بث الهدوء في نفوسنا المضطربة، وفي كل مرة يقول، لعلنا أدركنا طريق العودة، لكننا حين نلج مكاناً او قاعة نجد ملكاً عظيماً يجلس على عرش هائل، يحيطه الحرس والخدم والجواري وتبهرنا هالة المكان، فينسى معلم التأريخ إنه يريد إخراجنا ويأخذ يشرح لنا عن الملك والمملكة وعن حياة الناس هناك، لكن الحرّاس يتقدمون الينا بغضب وبأمر من الملك نفسه يطردوننا من المكان، فيما معلمنا يداري حرجه بالحديث عن مشاهدات أخرى نجد أنفسنا بينها ونعتقد مثل كل مرة، إننا اهتدينا لطريق العودة، يتقدمنا معلمنا مزهواً، لكننا نجد أنفسنا إما عند أمير أو قائد عسكري طرق اسمه أسماعنا من قبل أو حدّثنا عنه معلم التأريخ نفسه .. يتكرر الأمر ويشرح لنا المعلم عنه لكننا نجابه بالطرد فيزداد خوفنا من عدم امكانية العودة الى أهلنا، لاسيما إن الزمن يمر ونحن ندور في أرجاء مكان عرفنا إن له بداية وليست له نهاية، قصور تفضي الى ساحات واسعة والى قلاع وحصون وميادين، يبدو إنها شهدت معاركَ طاحنة وأهوالاً كثيرة، وكلها يستوعبها هذا الصرح العملاق الذي أدخلنا اليه معلمنا ولم يستطع إخراجنا منه، حتى وصلنا معه الى مكان شبه خال، يحيطه الهدوء وعلى جانبيه ما يشبه الإيوانات، حينها قال لنا معلمنا إن علينا أن نتوزع بينها للاستراحة لحين ما يستدل على طريق العودة .. ولأننا تعبنا من كثرة التجوال، أخذنا النوم .. ربما مرت علينا أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنون، لاندري بالضبط، لكننا شهدنا في أحلامنا الكثير من الأحداث التي شرحها لنا معلمنا من قبل، وحين صحونا راح كل واحد منا يحدث الآخر عن رؤياه لكن رؤانا لم تتشابه.. وكان علينا أن نحتكم لمعلم التأريخ .. وعندما أردنا أن نعرض عليه الرؤى، اكتشفنا إنه غير موجود، فرحنا نفتش عنه بين الأرجاء القريبة، وننادي عليه بصوت عال وموحّد .. يامعلمنا أين أنت؟؟! فيتردد الصدى في أرجاء المكان ويحدث دوياً هائلاً من دون أن يرد علينا أحد .. بقينا ننادي وبقي الصمت يحيطنا بعد أن يذوي دوي صياحنا .. وحين أشار أحد الزملاء الى باب صغير لم ننتبه اليه، قررنا أن نتجه اليه، كان الباب قد غطس في الأرض ولم يبق منه سوى نصفه أو اقل، فخرجنا أشبه بالزحف على بطوننا، وحين اكتمل عددنا خارج المكان، وجدنا أنفسنا في ساحة مدرستنا، وصوت الجرس يقرع وكان علينا أن ندخل صفنا ..! جلسنا كلّ في مكانه من دون أن يكلم أحدنا الآخر، خشية أن نكذّب بعضنا.. لكن عيوننا تشي بالكثير الذي نريد قوله، ومن خلل الشباك رأيت معلم التأريخ وهو يتجه الى الصف، يحيطه الصمت .. لقد كنت أرى احدى عينيه تجحظ وأخرى تختفي، وفي لحظة أخرى كنت أراه أسودَ جداً ومن ثم أحمر وأصفر وهكذا، وحين اقترب ودخل الصف لم يكن هو المعلم الذي كنت أرقبه .. استرقت النظر من خلل الشباك أيضاً، وأنا أشعر باضطراب وخوف، فوجدته يتقدم نحو صفنا، إنه معلمنا نفسه، وفيما أخذ المعلم الذي في الصف يشرح لنا المادة، كان المعلم الآخر قد اقترب تسبقه أصوات قرقعة سيوف ودوي مدافع وأناشيد حماسية متداخلة .. ووسط ارتباكي هذا، بادرني المعلم الذي في الصف وهو يرمقني بنظرة معبرة ومحذرة بعبارة .. انتبه للدرس ..!!

عبد الأمير المجر || قاص عراقي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى