محمد يوسف حسن - طائرة ورق مقوى

احتفلنا أنا وأمي بعيد ميلادي الرابع، لم يكن في الغرفة سوانا، عرفت ذلك حين عددت الشمعات الأربعة التي حشرتها أمي فوق قطعة الكيك الصغيرة التي حضرتها، وكلما كانت الشمعة الرابعة تهرب، أحاول لملمتها وأصفق بيديّ؛ وأصرخ متألما"من قطرات الشمع التي أبت إلا أن تلسعني، تضحك أمي وتضمني وأسرع مرة أخرى في ترتيب الشمعات وأصفق بيديّ مع صرخة خبيثة لأحظى بعبق ضمة أخرى.
لا أذكر يوم ميلادي الثالث ولا الثاني ولا كذلك الأول، لكنني أذكر قول أمي لي بأنها كانت تحتفل في يوم ميلادي وأمي لا تكذب .
أنهينا الاحتفالية الرابعة مع هدوء المكان، احتفلت معنا كل الجدران وكذلك كل الأثاث، حتى قطتنا كانت تهرب الهوينا وتعود ثم تعاود الهروب، خائفة من شيء لا أعرفه.
عندما شعرنا بمجيء والدي؛ أسرعنا أنا وأمي بلملمة المكان الذي أرهقه فرحي وتماهى مع حنوّ والدتي .
لم يكن والدي مجبولا من طين، كانت خلطته صلصالية تخدشها أصغر الهفوات، كنت أرى حبه الكامن في عينيه المتصقرتين، ويديه المتشققتين كانتا بلسما لطيفا" يشعرني بقشعريرة رقيقة تدب في كل تفاصيلي عندما يمسح بهما خصلات شعري المذهب، أقف أمامه دائما" في احترام رصين، وأخجل أن أتمرد، وأستحي أن أطلب منه ثمن قلمي الذي سال حبره من سخونتي الدائمة، لكن أمي ظلت تتحسس كل طلباتي دون أن تشعرني، أجدها حاضرة دون أن أطلب .
كنت دائم الشرود بوجه أبي الحنطي اللون والذي يحمل جبهة بعرض الكون ويوهب من الوقار والدفء ما يغرق العالم ويغرقني. وقور كما الظل وسيم كما الوردة وعنيد كما الصخر، يفرض الاحترام على الجميع والانحناء، لم أكن أجده قاسيا" مطلقا" كنت أراه فقط مخيفا" أكبر من براءتي وضعفي، وأمي الوديعة لا أعرف لونها بالتحديد، لكنها زهرية اللون دائما بوجود أبي .
كبرت مع تلك السنديانة القابعة تحت النافذة المطلة على تلك التلة التي أبت أن تتصدع مع السنين، وتقلبات الفصول، وأبي القابع دائما في صدر البيت بشموخ يصغر ويتورد ولا أعرف لما لون شعره يتغير، ولا أشعر بسعادته إلا حين يحتضنني ويمطرني بعشرات القبل، يداعب طفولتي ويعطيني الثقة والأمن والأمان،
وبقيت أكبر، ويدي اليمنى بقيت صغيرة، لا أعرف لماذا..؟! وهي مسورة دائما بيدي والدي اليسرى على طول الطريق .
كل القلاع التي كانت تعترضني تترمل، ويفك عراها أبي بطرفة عين، حتى وجدته ملاذي الوحيد، وكل عالمي، ولم أعد وقتها أبحث عن ملاذ، فكل العالم كان وعالمي كله هو .
ومازلت أكبر ويكبر حبه بداخلي وأستشيره بكل الصغائر ولا ينشغل عني قيد أنملة، وطلباته كانت كلها أوامر، أنفذها بحذافيرها دون كلل ولا ملل، حتى كل المسارات التي تخطيتها كانت مرسومة بقلمه الواعي والرصين، بكل حرفية ووعي واقتدار، وكل خطواتي التي يجب أن أخطوها لاحقا كنت أجدها موضوعة على طاولتي الضيقة أحاول تطبيقها حرفيا"، فأنجح وتبهر نجاحاتي القاصي والداني، حتى غدوت حديث الخلق لكني أتأتئ، وأسهى، وأنا آكل كل أظافري بلا وعي .
عانقت حياتي وألفتها وتعايشت معها وأنا مستمتع مع عالم؛ قدم لي كل ما يحلم به ابن من أب يعرف الحياة، ويرسم لي كل الخطط التي أوصلتني إلى أماكن مرموقة، يحلم كل أصدقائي بالوصول إليها، ويحاولون التسلق، ولكن دون حبل وكنت أنا الدلو وأبي كان لي الحبل .
كنت أرقص دائما، تعلمت فن الرقص، عند كل ملاحظة من أبي أو أمر، ربما فرحا" أو قهرا" أو لا أعرف لماذا أرقص وألتوي وأتمدد، حتى لمعت في خاطري الذي أحب أن يتمرد فكرة كنت قد رسمتها في خيالاتي، دائما لا تبرحني وهي لاشك سوف تكون القنبلة التي تروق لأبي، وستكون عربون نجاحاتي وبر لما قدم ويقدم ولا يبخل أبدا في التقديم .
سهرت في تلك الليلة الحالمة، وأنا أرتب كل الخطط المرسومة لي على ورق مقوى، والتي حافظت عليها كل ذاك العمر فقد كانت بالنسبة لي ذكرى وتراث، بل كنزي الذي لابد له أن يرى النور لكل الاجيال القادمة .
أخذت ترتيب كل الخطط وصنعت منها طائرة ورقية، وضعت بها كل ما نهلت من وقار وورع، ولملمت كل ما بداخلي من اتزان وطاعة، لتخرج من بين أناملي المطواعة أجمل طائرة ورقية عبر كل التاريخ، وتضاهي طائرة عباس بن فرناس، التي كنت أحلم بها دائما وها أنا أنفذ بها هذا الحلم الدفين، والقابع بكل طياته أرجاء كاهلي، الذي يتمنى معانقة الريح ومداعبة الغيم ورصف الطريق عبر كل الفضاءات إلى أعالي القمم، وتكون عربون محبة وطاعة لأب قدم كل مايملك من أدوات لابن بار حمل معه الجميل وطار به ونجح في الطيران .
وأخذت الطائرة تعلو وتطير بي، وقلبي الصغير يخفق من الفرح ودموع الفرح التي انهمرت أندت كل الكون، وذهب مني كل الخوف والتردد وصرخت وأنا أطير وخرجت كل مخارج الحروف مني دون تأتأة، ونسيت أكل أظافري وحك فروة رأسي، وتذكرت وقتها عندما كان أبي يختار لي لباس عيدي؛ كان ذوقه يروقني جدا" أحاول أحيانا" التململ، يراودني التمرد لكنني انطفئ.
كان يكبر بعيني دائما في جل تصرفاته حين أجبرني على اختيار فرعي الدراسي كان محق، ربما لا يعرف خوالجي، لكن خبرته في الحياة كبيرة فاقت أحلامي واقتنعت وأقنعت نفسي وحضرت أول محاضرة على مضض لكني ثابرت .
كم هو كبير أبي، القادم من خلف صخور ذاك الجبل، والشامخ شموخ قلاعه والمعطاء دون حدود، والحامل دفء الكون، وتقطع إسهابي وأنا أعلو وأرتفع، وتلك الدموع أبت إلا أن تنهمر، كان كل همي أن أصل ليفرح أبي بي وينتصر فهو بطلي الأوحد ومن بعده كل الدنيا فتات .
كنت أحلم أن أطير إليه وأعانق كل تجاعيده، وأسكنها علني أنعم بالدفء والأمان في تلك المسامات التي أعرف أنها تتنفسني .
ومازلت أعلو وأسابق الريح وتسبقني الطيور وأحاول اللحاق بها، لكن طائرتي أخذت تكبو وترعبني ويهرب مني الخوف، حاولت أن أعلو بها من جديد لكنها مازالت تهبط، والحلم يهرب، وصورة أبي التي شاهدتها لأول مرة تبكيني وتعاتبني لم تعد تبرحني وأنا أقع .


المحامي محمد حسن
سوريه. حلب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى