بهاء المري - إنها قصتي!

تعود بي الذاكرة إلى مفارقة، لم أكن أتوقعها، حدثٌ لم ألتقه خلال عملي، ولا قَصَّهُ عليَّ أحد، ولم تَجُدْ به ذاكرتي. وبالرغم من هذا اتصل اتصالا وثيقا بجريمة، وكأن الموضوعات الجنائية، كُتبَ عليَّ أن ألتقيها، ولو كنتُ مستقلا "الديزل".
بَدَتْ علامات الثَّراء جليَّة على مَظهرها، ثيابٌ بديعةٌ فاخرة، ألوانٌ جميلة مُتناسقة، يُطوِّق كل إصبع من أصابعها خاتم وربما في بعضها أكثر، وتَلتفُّ الأساور حول مِعصمها يَتدلَّى منها ما زادَها تناسًقا وبهاءً، وأمَّا ما يَتحلَّى به صدرها، فكان يُعلن عن نفسه حين تتحرك في مقعدها؛ فيعكس من فيْضِ جماله أبهَى ألوان الدنيا.
وما أن وطِئَت قدماها عربة "الديزل"؛ حتى أعلنَ عِطرها فورًا عن مَجيئها، وسارَت بخطواتٍ واثقة لا تَعبأ بتلكَ العيون الفاحصة، حتى استقرَّت في مقعدها إلى جواري.
وما أنْ انتظمَ القطار الفاخر في سَيره، حتى اكتمَلتْ في ذهني انطباعات حدَث كان قد تأثَّر به وجداني، سَحبْتُ من حقيبتي قلمًا وورقًا، ورُحتُ أُدوِّن انطباعاتي، ولم يقْطع علىَّ استرسالي فيما أكتبُ سوى صوت طفلتها التي اتَّخذت من رجليها مقعدًا، ولكن سرعان ما غلبَ الطفلة النُّعاس، فنامَت، وتداعت الأفكار إلى ذِهني واستطرَدْتُ في الكتابة.
كانت تلكَ الانطباعات عن قصة أرملة ثرية في مُقتَبل عُمرها، رحلَ عنها زوجها وتركها هي وابنها الصغير نَهبًا لطمع شقيقه، الذي بلغَت مُضايقاته لها الذُّرَى، وحين ألقَتْ الأقدارُ أمامها بصديق، كان يُواسيها ويُسرِّى عنها، استأجرَ ذلك الشَّقيُّ من يَضربه فقتله، قاصدًا بذلك كَشْف علاقتها به، والتلويح بسوءِ مَسلكها، ومن ثم تنحيتها عن الوصاية، وفرْض نفسه - هو - على المال، وما أن سِيقَ إلى ساحة الاتهام حتى انكشف المستور.
كان فحوَى الحكاية، أنَّ كنوز الدنيا لا تُساوي شيئًا أمام لحظةٍ واحدةٍ من الراحة والأمان التي يَنشدُها كل البَشَر، وأنَّ من كانت نفسه مَوتورة مَذعورة فلن يُعوِّضه مالُ الدنيا عن غياب الطُّمأنينة والراحة والأمان.
وحين فرغتُ من كتابة هذه الحكاية، فوجئتُ بدمعاتٍ ساخناتٍ تَستقرُّ على يدي، وإذا بهذه الدمعات قد انحدرَت من عَيني جارتي الأنيقة؛ حين مالَت لتعتدل في جلستها وتخرج منديلا من حقييبتها؛ نظرتُ نحوها، فإذا بها تَمدُّ يدها إلىَّ صامتة، تطلبُ مِنِّى بإيماءةٍ من رأسها أن أُعطيها الورَق، فناولتها إياه دونما تعليق، وأدركتُ أنها كانت قد أسنَدت رأسها إلى ظهر مقعدها الوثير، وأرخَتْ عينيها تُتابع ما أخَطُّ أولاً بأول، فعاشَت معي أحداثَ الحكاية، وتفاعَلَتْ معها؛ فسالت من عينيها الدموع.
وما أن انتهت جارتي الأنيقة من قراءة ما كتَبتُه، حتى مدَّت به يدًا، وجَفَّفت بالأخرى دُموعًا كانت لم تزل تترقرق في عينيها، وهمَسَتْ تُكلمني بصوتٍ حزين خفيض:
- "هل تعرفني"؟
اعتذرْتُ لها عن استدرار ما كتبْتُ لشجونها ودموعها، وقبل أن أستكمل عبارات اعتذاري، أشارت إلى الورق؛ ثم رفعَت يدها، وأزاحت عن عينيها عَبراتٍ أخرى: وقالت بذات الصوت الهامس الحزين ذاته:
- "إنها قصتي"!
أخذَني الفضولُ لمعرفة حكايتها، قالت ولم تزل بحَّة الحزن في صوتها:
- إن قصةَ هذه الأرملة هي قصَّتي، ولكن الذي عذَّبني وأدمَى قلبي، من
أجل مثل هذا المال الكثير، لم يكن أحد من أهل زوجي مثلها، وإنما أهلي أنفسهم، أبي وأمي وإخوتي، طمعوا جميعًا فيما تركَ زوجي من خير وفير، ولم يقتنع أحدهم أنِّي أمينة عليه لصغيرَين قد تركهما أمانة في عُنقي، وكان لديَّ ولدٌ يَكبُر هذه الطفلة بعام واحد، وذات يوم تَشاجَر مَعي أخي بسبب هذا المال، قَذَفَ نحوي "بفازة" استقرت في رأس ولدي؛ فسقَط في الحال صريعًا مُضرجًا في دمائه، دخل أخي السِجن ومات ابني، ولو كنتُ أعلم بما يُخِّبئهُ القَدَر، لكنتُ قد فديتُه ليس بمالي فقط، بل بكل كنوز الدنيا لو كنتُ أملكها".
ثم أسلمَت رأسها مرة أخرى إلى ظهر مقعدها، وراحت تُجفِّفُ دُموعًا أخرى غزيرة كانت تنحدر من عينيها في صمت.
أحزنتني حكايتها، وأثارت شُجوني، تأمَّلتُ ما كان ظاهرًا، وأحسَسْتُ بما لم تُنبئ عنه المظاهر، إنَّ كل ما فيها ينطق بالأناقة والفخامة والثَّراء، ويُوحي مظهرها بكل مباهج الحياة، حتى صمتُها المهموم تخاله كبرياء، ولا يُساورُ من يراها مجرَّدَ شكٍ أنها ذاقت يومًا طعم الهموم أو الآلام، أو أنَّ هُدوء الملامح وطيب المُحَيَّا تكسُوه هكذا أثواب الأحزان. إننا لنظلم الناس إنْ أخذناهم بمظاهرهم، فإن أحزان القلوب قد لا تُنبئ عنها المظاهر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى