بوجه متغضن، و لحية جار عليها الشيب، يفك العجوز شاله "الكشمير"، و يلقيه جانبا، بينما تغوص عيناه في ركية الجمر، التي استقرت داخلها " البشعة"، ربما كان هذا الاسم يغني عن الوصف؛ فلملعقة النار تلك مقبض خشبي، و رأس معدني مستدير، يتميز غيظا، بعد أن يعيره الجمر السر، و الحرارة، و العنفوان؛ فيثير لونه المحمر الرعب في القلب بمجرد أن يتخيل أحدهم ما قد يفعله هذا الرأس المتوهج بالجلد الحي. لقد اقترن اسم "البشعة" دائما بالقسوة، لكنها عندما يغيب الدليل، تتحول إلى شارة تفرق ما بين الزور و النور. هذا ما يعتقده أهل النجع، بل هذا ما صار يقينا، و صنما شاخصا في روءسهم، يصعب كسره أو إزاحته. ربما استحضر هؤلاء روح كبير لهم، قال، و كثيرا ما قال: دون أعرافكم الدم و الهلاك؛ فالامتثال الامتثال.
(٢)
يدنو العجوز من ركية الجمر؛ و يلتقط "ملعقة النار"، و يرفع ذراعه؛ فيرى على ساعديه و ظاهر كفيه سباع، تحمل سيوفا كوشم باهت قديم، دق منذ أمد بعيد. السباع تزأر، و تضرب بسيوفها يمنة و يسرة؛ فتخضع لها رقاب الرجال؛ فيسلمون للعجوز مسبقا بما سوف تحكم به أداته الحارقة المشهرة.
العجوز يشير إلى رجل على مشارف الشيخوخة، منكمش، مربد الوجه، يتوارى من سوء ما أحاط به؛ إذ جلس حيث يكره، و أنى لرجل مثله أن يجلس مطمئنا مشرق الوجه منشرح الصدر بعد أن اتهمت ابنته في شرفها على رءوس الأشهاد؟! الأب المسن ينهض متثاقلا، و يسير بظهر متقوس؛ فيبدو كخنفساء تشق طريقها بصعوبة فوق تل من الرمال، الرجل يغادر المربوعة للحظات، و يعود سريعا، تقبض يده على ذراع امرأة، أرخت طرحتها السوداء الشفيفة على وجهها. العجوز يشير إلي الأب المسن، أن أجلس ابنتك ها هنا، و المرأة بإذعان تام، و بدن مرتجف تجلس في الموضع المختار، و تستقبل بوجهها حشد الرجال. العجوز دون خجل يطرح عليها سؤالا بصوت أجش، يخدش حياء الصمت، و رهبة الموقف، اللذين يكتنفان المربوعة ، المعبأة عن آخرها بدخان السجائر؛ فيسأل بملء فيه: هل استقر قلم أحدهم في مكحلتك منذ أن صرت حليلة زوجك؟! العجوز يخاطب المرأة، و لكن عينيه في ذات اللحظة تفتشان بين الرجال عن زوجها، ذلك الكهل، الذي أصر على اتهامها بالخيانة، و لما أعياه تقديم الدليل، طالب أهلها بالاحتكام إلى مجلس " البشعة"، و ليكن ما يكون. قال ذلك يومها بتبجح رجل مكلوم. عينا العجوز تبصران الزوج وسط أبناء عمومته، فيرى في وجهه الشر، و يلحظ أسنانه الفضية، التي ضغط بعضها على بعض من فرط ما به من الانفعال. العجوز يردف سؤاله بسؤال آخر يحمل ذات المعنى، لكنه يخلو هذه المرة من مواربة المجاز؛ فيسأل المرأة بصوت قاس جهور: هل لهوت مع أي من الرجال أو الفتيان لهو الزوجة مع زوجها منذ أن عقد هذا الرجل قرانك؟! الزوجة تنتفض، و تتلعثم قليلا، لكنها تهتف في النهاية بحرقة، و تجيب عن سؤالي العجوز بكل خلجات جسدها، و تقسم بأغلظ الأيمان بأنها لم تفعل ذلك قط، و إنما هو كيد ملأت به ضرتها أذني هذا الظالم. المرأة تشير إلى الكهل المستشيط غضبا، و تستأنف كلامها، قائلة: إنما أرادت ضرتي التي بنى بها زوجي منذ شهور قليلة أن يخلو لها الجو؛ فهي لا تزال صغيرة لا يشبعها أن أشاركها في ماء زوجها الشحيح، و لا يرضيها أن تشطر ليالي الأسبوع مناصفة بيني و بينها، و لا تهدأ نار غيرتها، كلما هجر فراشها إلى فراشي. يا سيدنا، لقد رزقت بولد واحد بعد أن ذقت مرارة الحرمان ، هو لا يزال في السادسة من عمره، أخاف عليه من النسيم، قلبي لم يطاوعني أن أتركه يذهب إلى مدرسة النجع بمفرده، فقررت أن أصطحبه كل يوم إلى المدرسة، و أن أعاود الكرة؛ لأعيده إلى الدار. ما غادرت الدار إلا بإذن زوجي، و ما سارت قدمي إلى حرام، ما كنت أحسب أن الحية نسجت حولي الأقاويل، ما كنت أحسب ألا يرد لها قولا، كأنها عملت له عملا أعماه، فصار يهذي كالمسحور.
(٣)
العجوز يستدير، و و يسأل الزوج بشكل مباشر، و يشير إلى المرأة الجاثية بين يديه، قائلا: هل هي في حل من أمرها من بعد ما قالت ؟! و الزوج يشيح بيده، و يهتف بعصبية مفرطة، تابع عملك يا سيدنا، و الله ما أراها إلا فاجرة. ما كاد الزوج ينهي كلمته، حتى تكهرب الجو، و حتى انقسم الحاضرون إلى فريقين متشاحنين، فأخوة الزوجة انفلتت أعصابهم، و غلى الغضب في صدورهم، و علت أصواتهم المستنكرة، و راحوا يكيلون السباب لزوج أختهم. و في المقابل ثارت ثائرة أهل الزوج، الذي بدا بأوداجه المنتفخة مثل ديك رومي، أثاره أحدهم بقماشة حمراء، بينما جلست المرأة ترقب المشهد في صمت.
(٤)
تهمة الأعراض نار، أوشكت أن تحرق الجميع. و الأجساد توترت، و غادرت مواضعها، و الأيادي امتدت، و كادت أن تشتبك، لولا أن العجوز أعاد "البشعة" إلى قلب ركية الجمر، و أمسك بزجاجة ماء، و زعق بصوت غليظ، و هدد الجميع بإطفاء النار، و الإعلان عن انتهاء المجلس، لكنه في ذات الوقت حذرهم من مقتلة ستكون، دم سيراق، لو لم يلتزم الفريقان حدود الحكمة؛ فما كان من الطرفين المتشاحنين إلا أن كظما الغيظ على مضض و كراهة؛ فساد الصمت المشوب بالحذر. و العجوز التقط ملعقته المتوهجة من جديد، و أمر المرأة بأن تكشف عن وجهها، و أن تخرج لسانها، و أن تلحس البشعة الكاوية ثلاث مرات متواليات، و ما إن نفذت ما أمرت به، حتى قدم إليها العجوز زجاجة الماء، و أمرها بأن تتمضمض، و أن تتفل ما في فمها في دلو صدئ وضعه أمامها مباشرة، و لما فعلت، أمرها بأن تخرج لسانها مرة أخرى؛ فراح يحدق فيه، فوجده رطبا، لم تصبه ملعقة النار بأذى؛ فهتف بصوت جهور، خالطته فرحة خفية، صوت تخطى جدران المربوعة، و انزلق إلى الشارع، و ربما اخترق جدران الدور القريبة؛ فسمعه الأهالي، الذين تشمموا الأخبار، منذ أن رأوا الرجال يدخلون الدار، حيث يقيم محكم "البشعة" الشهير. العجوز يخاطب الزوج بصوت منكر، و يهتف بحزم: الحق ظهر كالشمس، زوجتك- يا هذا- بريئة مما قذفتها به؛ فعليك وزر ما صنعت، و أنت من الساعة مدين لها و لأهلها بما يرضيها، و يرضيهم.
أبو المرأة يتنفس الصعداء، و يقبل ظهر يده اليمنى و باطنها، و أبناؤه الخمسة، يهتفون في صوت واحد، و يطالبون الزوج بتطليق أختهم في التو و اللحظة، و الزوج يجلس مبهوتا، قد اسود وجهه، و عيناه تلتهمان العجوز، كمن يتشكك في حكم " البشعة"، و كمن لم يستوعب بعد ما آلت إليه الأمور. و أهله رمقوه بنظرات حانقة، و طأطأوا رءوسهم. و المرأة باغتت الجميع؛ إذ هبت من مكانها، و انحنت في لمح البصر على ركية الجمر المتقدة ، و حملتها بين يديها، و بسرعة خاطفة طوحت الركية في الهواء؛ فتناثر الجمر المتقد، و تساقط في حجر الرجال المبهوتين، و قبل أن يستفيقوا من ذهولهم كانت المرأة، تشق طريقها في الشارع المكتظ بالأهالي الجالسين على مساطب الدور المتراصة على الجانبين. الدموع تغرق وجه المرأة؛ فتغيم الرؤية في عينيها، لكنها تركض بأقصى سرعة، و تتلاحق أنفاسها، في حين طاردتها همسات النساء، و ضحكاتهن المكتومة، التي أوشكت على الانفجار، بينما التهمت أعين الرجال جسدها اللين المرتج، حتى اختفت عن الأنظار.
(٢)
يدنو العجوز من ركية الجمر؛ و يلتقط "ملعقة النار"، و يرفع ذراعه؛ فيرى على ساعديه و ظاهر كفيه سباع، تحمل سيوفا كوشم باهت قديم، دق منذ أمد بعيد. السباع تزأر، و تضرب بسيوفها يمنة و يسرة؛ فتخضع لها رقاب الرجال؛ فيسلمون للعجوز مسبقا بما سوف تحكم به أداته الحارقة المشهرة.
العجوز يشير إلى رجل على مشارف الشيخوخة، منكمش، مربد الوجه، يتوارى من سوء ما أحاط به؛ إذ جلس حيث يكره، و أنى لرجل مثله أن يجلس مطمئنا مشرق الوجه منشرح الصدر بعد أن اتهمت ابنته في شرفها على رءوس الأشهاد؟! الأب المسن ينهض متثاقلا، و يسير بظهر متقوس؛ فيبدو كخنفساء تشق طريقها بصعوبة فوق تل من الرمال، الرجل يغادر المربوعة للحظات، و يعود سريعا، تقبض يده على ذراع امرأة، أرخت طرحتها السوداء الشفيفة على وجهها. العجوز يشير إلي الأب المسن، أن أجلس ابنتك ها هنا، و المرأة بإذعان تام، و بدن مرتجف تجلس في الموضع المختار، و تستقبل بوجهها حشد الرجال. العجوز دون خجل يطرح عليها سؤالا بصوت أجش، يخدش حياء الصمت، و رهبة الموقف، اللذين يكتنفان المربوعة ، المعبأة عن آخرها بدخان السجائر؛ فيسأل بملء فيه: هل استقر قلم أحدهم في مكحلتك منذ أن صرت حليلة زوجك؟! العجوز يخاطب المرأة، و لكن عينيه في ذات اللحظة تفتشان بين الرجال عن زوجها، ذلك الكهل، الذي أصر على اتهامها بالخيانة، و لما أعياه تقديم الدليل، طالب أهلها بالاحتكام إلى مجلس " البشعة"، و ليكن ما يكون. قال ذلك يومها بتبجح رجل مكلوم. عينا العجوز تبصران الزوج وسط أبناء عمومته، فيرى في وجهه الشر، و يلحظ أسنانه الفضية، التي ضغط بعضها على بعض من فرط ما به من الانفعال. العجوز يردف سؤاله بسؤال آخر يحمل ذات المعنى، لكنه يخلو هذه المرة من مواربة المجاز؛ فيسأل المرأة بصوت قاس جهور: هل لهوت مع أي من الرجال أو الفتيان لهو الزوجة مع زوجها منذ أن عقد هذا الرجل قرانك؟! الزوجة تنتفض، و تتلعثم قليلا، لكنها تهتف في النهاية بحرقة، و تجيب عن سؤالي العجوز بكل خلجات جسدها، و تقسم بأغلظ الأيمان بأنها لم تفعل ذلك قط، و إنما هو كيد ملأت به ضرتها أذني هذا الظالم. المرأة تشير إلى الكهل المستشيط غضبا، و تستأنف كلامها، قائلة: إنما أرادت ضرتي التي بنى بها زوجي منذ شهور قليلة أن يخلو لها الجو؛ فهي لا تزال صغيرة لا يشبعها أن أشاركها في ماء زوجها الشحيح، و لا يرضيها أن تشطر ليالي الأسبوع مناصفة بيني و بينها، و لا تهدأ نار غيرتها، كلما هجر فراشها إلى فراشي. يا سيدنا، لقد رزقت بولد واحد بعد أن ذقت مرارة الحرمان ، هو لا يزال في السادسة من عمره، أخاف عليه من النسيم، قلبي لم يطاوعني أن أتركه يذهب إلى مدرسة النجع بمفرده، فقررت أن أصطحبه كل يوم إلى المدرسة، و أن أعاود الكرة؛ لأعيده إلى الدار. ما غادرت الدار إلا بإذن زوجي، و ما سارت قدمي إلى حرام، ما كنت أحسب أن الحية نسجت حولي الأقاويل، ما كنت أحسب ألا يرد لها قولا، كأنها عملت له عملا أعماه، فصار يهذي كالمسحور.
(٣)
العجوز يستدير، و و يسأل الزوج بشكل مباشر، و يشير إلى المرأة الجاثية بين يديه، قائلا: هل هي في حل من أمرها من بعد ما قالت ؟! و الزوج يشيح بيده، و يهتف بعصبية مفرطة، تابع عملك يا سيدنا، و الله ما أراها إلا فاجرة. ما كاد الزوج ينهي كلمته، حتى تكهرب الجو، و حتى انقسم الحاضرون إلى فريقين متشاحنين، فأخوة الزوجة انفلتت أعصابهم، و غلى الغضب في صدورهم، و علت أصواتهم المستنكرة، و راحوا يكيلون السباب لزوج أختهم. و في المقابل ثارت ثائرة أهل الزوج، الذي بدا بأوداجه المنتفخة مثل ديك رومي، أثاره أحدهم بقماشة حمراء، بينما جلست المرأة ترقب المشهد في صمت.
(٤)
تهمة الأعراض نار، أوشكت أن تحرق الجميع. و الأجساد توترت، و غادرت مواضعها، و الأيادي امتدت، و كادت أن تشتبك، لولا أن العجوز أعاد "البشعة" إلى قلب ركية الجمر، و أمسك بزجاجة ماء، و زعق بصوت غليظ، و هدد الجميع بإطفاء النار، و الإعلان عن انتهاء المجلس، لكنه في ذات الوقت حذرهم من مقتلة ستكون، دم سيراق، لو لم يلتزم الفريقان حدود الحكمة؛ فما كان من الطرفين المتشاحنين إلا أن كظما الغيظ على مضض و كراهة؛ فساد الصمت المشوب بالحذر. و العجوز التقط ملعقته المتوهجة من جديد، و أمر المرأة بأن تكشف عن وجهها، و أن تخرج لسانها، و أن تلحس البشعة الكاوية ثلاث مرات متواليات، و ما إن نفذت ما أمرت به، حتى قدم إليها العجوز زجاجة الماء، و أمرها بأن تتمضمض، و أن تتفل ما في فمها في دلو صدئ وضعه أمامها مباشرة، و لما فعلت، أمرها بأن تخرج لسانها مرة أخرى؛ فراح يحدق فيه، فوجده رطبا، لم تصبه ملعقة النار بأذى؛ فهتف بصوت جهور، خالطته فرحة خفية، صوت تخطى جدران المربوعة، و انزلق إلى الشارع، و ربما اخترق جدران الدور القريبة؛ فسمعه الأهالي، الذين تشمموا الأخبار، منذ أن رأوا الرجال يدخلون الدار، حيث يقيم محكم "البشعة" الشهير. العجوز يخاطب الزوج بصوت منكر، و يهتف بحزم: الحق ظهر كالشمس، زوجتك- يا هذا- بريئة مما قذفتها به؛ فعليك وزر ما صنعت، و أنت من الساعة مدين لها و لأهلها بما يرضيها، و يرضيهم.
أبو المرأة يتنفس الصعداء، و يقبل ظهر يده اليمنى و باطنها، و أبناؤه الخمسة، يهتفون في صوت واحد، و يطالبون الزوج بتطليق أختهم في التو و اللحظة، و الزوج يجلس مبهوتا، قد اسود وجهه، و عيناه تلتهمان العجوز، كمن يتشكك في حكم " البشعة"، و كمن لم يستوعب بعد ما آلت إليه الأمور. و أهله رمقوه بنظرات حانقة، و طأطأوا رءوسهم. و المرأة باغتت الجميع؛ إذ هبت من مكانها، و انحنت في لمح البصر على ركية الجمر المتقدة ، و حملتها بين يديها، و بسرعة خاطفة طوحت الركية في الهواء؛ فتناثر الجمر المتقد، و تساقط في حجر الرجال المبهوتين، و قبل أن يستفيقوا من ذهولهم كانت المرأة، تشق طريقها في الشارع المكتظ بالأهالي الجالسين على مساطب الدور المتراصة على الجانبين. الدموع تغرق وجه المرأة؛ فتغيم الرؤية في عينيها، لكنها تركض بأقصى سرعة، و تتلاحق أنفاسها، في حين طاردتها همسات النساء، و ضحكاتهن المكتومة، التي أوشكت على الانفجار، بينما التهمت أعين الرجال جسدها اللين المرتج، حتى اختفت عن الأنظار.