سيدة بن جازية - قصة وطن..

بضراوة قصمت الهموم ظهرها،ثم لفظتها الحياة وحيدة كئيبة انفض الجمع من حولها فخامرتها فكرة عجيبة، حين زارت قبر والدها راحت تجول بين القبور تتعرف على أجوار ه الجدد فتوصيهم خيرا بأبيها المقعد منذ عهود ، بدت لها بعض القبور تئن تتألم تكاد تقطّع نياط القلب الموجوع ، و بعضها تناثرت حجارته وضاعت شواهده ، تأثرت لوجعهم،آلمها الصوت المتسرب بين خطّيُ الموت والحياة متلهفا ظمئا لقطرة ندى ، أحست برغبة ملحة في المساعدة بكل سذاجة، راحت توزع بينهم الماء وتوشّحهم بأدعية الرحمة والمغفرة علها تخفف مصابهم أو تعيد سكينتهم المزعومة.

هدأ الأنين شيئا فشيئا و استشعرت الراحة، فاستأذنت من والدها المغادرة وانسلت على وقع خطوات متثاقلةإلى الشارع المزدحم بالضجيج ، لم تبتعد كثيرا عن المقبرة حتى شعرت بالنفور من هذه الفوضى العارمة بالطرقات، أزيز السيارات يصم الآذان وروائح المطاط ممزوجة بالمحروقات تزكم الأنوف العليلة ، حيث ارتبكت الخطوات لهول العربدة في الطريق وغياب التقيد بقوانين المرور ، اكتظ المكان ، توترت الأرجاء و أنّت النفوس لاصطدام عجوز يعبر بشاحنة في جنوح مخلفة بعض الرضوض. اهتم به جمع وتحلقت حوله جموع زادت المساء توترا و انقباضا، لم تشأ أن ترمق مشهد احتضار جديد فواصلت طريقها إلى حيث يقبع مبناها المنفتح على ضفة البحر الأبيض المتوسط. انحدرت يمينا ثم شمالا و أخذ الهدوء يحل و العربات تكاد تنقطع لتتصافى مع ذاتها العطشى للارتواء و المناجاة.

عادت إلى البيت المنزوي ، حفيف أوراق الخريف الباهت ووشوشة الذباب تعاكس صفير نسائم متلفعة بغلالة رمادية ، انقبض الصدر و ضاق ككل المساءات منذ تركها والدها ورحل ، فاستلقت على كرسيه الصدئ وسط الحديقة ترقب الغروب المثير ، هالها المشهد الجنائزي، مجهولون يكفنون قرص الشمس بالحمرة الذابلة ثم يدفنونها في صمت رهيب ويردون عليها الثرى القاتم في كنف الظلام،دثروها جيدا كي لا تنفلت من جديد ككل مرة، ولم يعد أحد منهم كي يخبرنا بآخر وصاياها لهذا اليوم الطويل ، لعلهم يحرصون مرقدها ككهنة معبد آمون العظيم .

طال البقاء في العراء وهي ترقب مشهد التأبين الأخير، ترافقها شجيرات تودع وريقاتها في صمت كئيب، ودت لو أمكنها جمعها ودفنها تحت جذوع أمهاتها لكن خانتها عزيمتها المنهارة آنذاك ، لسعها برد ، اقشعر الجِلد فزاد الجَلد ، عاودها التفكير فيما سمعت بالمقابر، تراءت لها أحداث غريبة، تشتت الفكر و خانها الحدس، صور لها خيالها الكادح المثقل بالهموم صورة الجثث وبعض العظام تصطك تعلو، تنخفض، تحاول الخروج من الحفر تفتح فاها لكن صلابة اللحود تمنعها، تكبلها، فتستغيث، تستنجد بالأحياء و الكرماء و بعض البلهاء،لكن تخونها مخارج الحروف تضيع الأصوات تتبعثر فلا يبقى غير الأنين، ماذا عن والدها أيكون يعيش المعاناة مثلهم ؟!!
لكنها لم تسمع أنين قبره، لامسها طيف جمجمة جدها الأكبر ، نظرت شاخصة ، ارتد بصرها، و انحبست الكلمات في صدرها،
_ ماذا تريد؟
_ لا شيء، فقط أحببت أن أنصحك أن لا ترتدي الكعب العالي ثانية عند زيارة المقابر، لا تقضّي مضجعنا، وإلا...

قفزت إلى الخارج مذعورة، بين يديها حذاء، ألقت به في الحاوية القابعة آخر الشارع ثم قفلت عائدة تعاتب نفسها هذا الصنيع ، ولجت البيت حاولت أن تضغط على زر الإنارة ، انتبهت إلى انقطاع التيار الكهربائي ، أضاءت شاشة هاتفها فبدا لها البيت مقبرة كبيرة، تتراقص الجماجم والهياكل العظمية على إيقاع جنائزي رهيب حاولت أن تصرخ، لم تستطع، انساقت مع المجموعة ترقص و تغنّي و تسير على شكل دائري دون انقطاع إلى أن غابت عن الوعي متماهية مع الأطياف والجماجم منساقة، منقادة، دون تفكير أو تدبير.

انبعثت شمس يوم جديد، فركت عينيها أعادت الفرك جالت ببصرها في القاعة، تأكدت أنها ملقاة على الأرضية، بقايا أطياف لازالت تتراقص وبعضها يركض نحو السماء وبعضه يغوص في عمق الأرض ، لم تتمكن من استعادة وعيها كليا،
شيء ما يعيقها، أخذت ترتل بعض ما تستحضر ، تحدث نفسها، تبحث عن منطق لما يحدث،لكن خانها التفكير فعقلها الباطني مثخن بالهراء و التكبيل، جاهدت نفسها، قاومت لتخطي العقبة ،حتى غادرت كل الأطياف من الباب الرئيسي،
مهزومة متعثرة بينما حاول آخر طيف يتهددها بالعودة ، رن الهاتف ليخبرها أحد الأصدقاء أنه قد تقرر حظر الجوال من جديد لمصاب جلل حدث بالبلدة، فرحت للخبر رغم خطورته،
صاحت كالمولولة المقهورة :
_ لن يعودوا من جديد سيقبرون هذه المرة إلى الأبد...

لملمت شتاتها كالمعتوهة ونهضت من جديد، توجهت صوب المقبرة بحذائها الرياضي تتفقد القبور، تجول مزهوة بين القبور، تحدق، تمعن التفكير ، لم تسمع أي صوت، لم تخامرها الهواجس و الأقاويل ، فاطمأنت ثم عبرت وسط المدينة وصولا إلى تجمّع حشد كبير يطالبون بسقوط الخونة و المحتكرين لبناء عهد جديد، استبشرت خيرا و ارتفع صوتها عاليا صادحا بالنصر القريب، ناشدتها الشمس و قد زانتها حمرة لون العلم إشراقا وبهاء. تكاتفت الأصوات و انتبهت لتزايد عدد النساء بين المحتجين حتى تضاءل عدد الحضور تدريجيا بعضهم قاصدا الجامع وبعضهم اختفى بالبيوت خلف الشرفات يرقب ميلاد شمس جديدة متوجسا وجلا من عاداتهم و تقاليدهم و بعض العبث ، فجأة تخرج العروس بالزغاريد، خلفها الأحرار و الأبرار تتهادى لحفل كبير.
لم يغب أحد وقتئذ ، الكل في حضرة الحدث العظيم.

سيدة بن جازية - تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى