رايفين فرجاني - مراجعة: أعلام الفكر العربي / السيد ولد أباه

يمكنني ولي الفخر -أو بكل فخر فلا أقول بلا فخر- بصفتي قارئا في المقام الأول,وكاتبا وناقدا وباحثا,وناشرا وجامعا للكتب وموزع لها ومسوق لها,أن أزعم لنفسي أنني قرأت واطلعت على جميع ما أنتج سوق النشر العربي من كتب عن أعلام الفكر العربي,بغض النظر عن مادة الكتاب أو محتواه متفاوت بدرجات الجودة,وسواء على الصعيد الفكري أو على الصعيد الصحافي,فكلاهما صعيدان معرفيان على كل حال. وبكل تأكيد سوف أمرّ من حين لآخر على مراجعة لأفضل تلك الكتب الذي يعد كتاب (أعلام الفكر العربي,مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة) للباحث الدكتور السيد ولد أباه,إضافة مهمة بينهم. والسيد جزء من اسمه (اسمه الكامل عبد الله السيد ولد أباه) وليس سابقة تفخيم مثل باحث أو دكتور. والسيد ولد أباه باحث وفيلسوف موريتاني تلك البلد الغائبة (أي موريتانيا) عن الذهن والحاضرة في أقاصي الغرب بفلاسفتها,وباتت تشغل الراهن العربي ببعض أطروحاتها الذكية أو تعليقاتها الرصينة. وهو أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط هناك بالعاصمة. وما يجعل كتابه هذا إضافة قيمة هو جمعه لأبرز معالم الفكر العربي الحديث ممثلة في (أشهر أعلامه) ولا أقول أهمهم لأنه أغفل ذكر الكثير جدا. لما أقول أنه إضافة قيمة,أقصد أيضا أنه ورغم تحفظي على العديد من النقاط السلبية في الكتاب,إضافة وحيدة. حين سألت كريم الصيّاد الروائي والباحث في العلوم الاجتماعية والفلسفية وأستاذ مساعد بقسم الفلسفة،كلية الآداب،جامعة القاهرة,عن رأيه في عمل كتابي لي يتعرض لأهم الفلاسفة أيضا. لم يعجبني رده,فقد علق بتعليقين؛الأول أنه وانطلاقا من فخ فكري ذاتي عميق,لم يهتم بالمادة نفسها وقال أنه لن يطلع أو ربما لن يهتم بها,أو أنه قرر أنها بلا قيمة ما لم تنشر عبر مؤسسة علمية لها اسمها وتحت إشراف باحث له اسمه!. ولكنه محق في التعليق الثاني,وهو ضرورة وجود طرح مفيد في أي عمل مقالي أو كتابي جامع للفلاسفة وإلا لن يختلف عن قائمة من قوائم ويكيبيديا الموسوعة الحرّة. إن عملا مثل (موسوعة الفلاسفة العرب المعاصرين) يمكننا القول تقريبا أنه يقع في هذه الخانة. وعلى العكس منه,فكتاب الفيلسوف الموريتاني, يشبه ما يقدمه الفيلسوف المصري سمير أبو زيد عبر إطلاقه موقع (فلاسفة العرب) الذي يعد مدونة شخصية وعامة فيها ما فيها من طرح ومفيد وموجز نأمل أن يتوسع لاحقا.

والكتاب -كتاب الفيلسوف الشنقيطي الذي نراجعه الآن- "ليس عرضا مفصلا لتيارات الفكر العربي المعاصر واتجاهاته,وإنما هو مجرد مدخل لخارطة هذا الفكر من خلال ترجمات مقتضبة لأبرز أعلامه ووجوه المعروفة". هكذا تحدث الكاتب نفسه في مقدمته للكتاب (ص9). وقد أجاد الوصف,فقد جاءت بعض فصول الكتاب مقتضبة كثيرا كأنه وضعها اضطرارا وليس استمرارا للنص كما ينبغي.

وبغض النظر عن المرجعيات التي يستند إليها الكاتب في كتابه مثل العملان الرائدان لكل من ألبرت حوراني وفهمي جدعان حول الفكر العربي الحديث,الذي يحسب الكاتب أن كتابته للنص جاءت كمحاولة تكميلية منه لعملهما. وبغض النظر عن المعايير التي تعاني من قصور واضح,لا يعنينا هنا إلا أن الكاتب قدم اختيارات عشوائية مرتبة أبجديا وموفقة إلى حد بعيد لمجموعة من أبرز الوجوه الممثلة للتيارات الفكرية السائدة في العالم العربي. والكتاب حديث صدرت الطبعة الأولى للنص عام 2010 عن (الشبكة العربية للأبحاث والنشر) التي نقلت مؤخرا فرع من فروع مكتباتها عن شارع عبد الخالق ثروت الواقع في طلعت حرب العريقة. وقد أسفت لذلك كثيرا,وكلي أمل أن أعرف لها مكانا جديدا فتحت فيه, ولكن لهذا وقت آخر. تصميم غلاف الكتاب أكثر من جيد,رغم كونه تقليدي,فيه عرض لصور وجوه أعلامه,ومتماشي مع تصميم صفحته الخلفية ومتناسق تماما مع تصميم أغلفة إصدارات الشبكة العربية.

الأهم من ذلك هو التعليقات من فيلسوفنا الكبير,على كل فيلسوف يتعرض له في كتابه,ولم تكن المعلومات,بل التعليقات هي ما شكلت مادة غنية جدا,رغم إيجازها الشديد,للقارئ والباحث العربي للاطلاع على مدخل جيد,ومبسط عن التيارات السائدة اليوم في الفكر العربي,وأهم المؤثرين به. عدا عن ذلك,يمكن المرور على بعض أسماء الأعلام كأنها مجرد معلومات أرشيفية (من التي يمكن العثور عليها على الشبكة) يمكن تجاوزها أو الاستزادة بها أو الرجوع إليها من وقت لآخر (فالكتاب خفيف في 200 صفحة فقط). فكان هناك بالضرورة -لكونه مثقف منتمي للثقافة والفلسفة الموريتانية- انحياز واضح إلى فلاسفة الغرب فأتى على ذكر أبو يعرب المرزوقي وعبد المجيد الشرفي وعبد الوهاب بوحديبة ومحمد الطالبي وهشام جعيط من تونس,وهذا هو الفريق الأقل شهرة في مشرقنا,خصوصا بمصر,وعدا عن أول اسمين,لم يكن هناك داع أو مبرر لذكر أعلام مغاربة على حساب إغفال آخرين من مصر أو تونس (هشام جعيط مهم لكنه أغفل فتحي؛أي واحد سواء المسكيني أو التريكي). وذكر طه عبد الرحمن وعبد الله العروي وعلي أومليل ومحمد عابد الجابري ومحمد عزيز الحبابي من المغرب. وأنصف المصريين بذكر تسعة منهم مقابل فلاسفة المغرب هم أنور عبد الملك,وحسن حنفي,وزكي نجيب محمود,وسمير أمين,وطه حسين,وعادل حسين,وعبد الرحمن بدوي,وعبد الوهاب المسيري, ونصر حامد أبو زيد. وهي قائمة موفقة جدا لا اختلف معه تقريبا في أي من اختياراته بها (دون تحيز مني للفلاسفة المصريين كما قد يحسب البعض). من سوريا ذكر برهان غليون, وصادق جلال العظم,وطيب تيزيني,ومطاع صفدي. ومن لبنان حسين مروة,ورضوان السيد,وعلي حرب,ووجيه كوثراني. ومن الجزائر طبعا حديثنا عن مالك بن نبي ثم محمد أركون يأتي تاليا من بين آخرين لم يأتي بذكرهم أمثال عبد الملك مرتاض,والزواوي بغورة, ومحمد شوقي الزين. ولكنه لعجبي أغفل وربما بدون قصد أي حديث عن جاك دريدا (فرنسي من أصول جزائرية) مع أنه تحدث عن أنور عبد الملك (فيلسوف فرنسي آخر من أصول مصرية). ومفكر أردني وحيد هو فهمي جدعان,ومفكر عراقي وحيد هو محمد باقر الصدر, ومفكر فلسطيني وحيد هو هشام شرابي!. ومفكر بحريني وحيد هو محمد جابر الأنصاري, في ظل غياب تام لأي من فلاسفة الخليج المعروفين. ولن تتيه بين الأعلام والبلدان,لأن الكاتب يخصص أول سطر,وفي الكثير من الأحيان أول ثلاث كلمات,لتحديد جنسية الفيلسوف المذكور مباشرة تحت العنوان الذي يحمل اسمه. وقد يحسب القارئ أنه ولأنه يقدم أربعة أعلام تقريبا عن كل بلد كان منصفا,وكاد أن يقارب الإنصاف,لولا أنه يتحدث كثيرا ومتعمقا عن فيلسوف يخصص له بضع صفحات,بينما فيلسوف آخر قد لا يتجاوز الصفحة الواحدة تقريبا (فلا شيء جديد عدا التوصية ببعض القراءات). والعجيب أنه لم يأتي على ذكر فيلسوف موريتاني واحد (بدي ابنو المرابطي على سبيل المثال)!.

مع ذلك,أو ورغم كل ذلك,فالكتاب قيم جدا,وممتع لأبعد مدى,والفائدة المرجوة منه متحققة. يقدم الكتاب قراءات مفتاحية لأهم الكتب التي يمكن أن تقرأها للفيلسوف المذكور في كل فصل. وعلى الرغم من كونه أفرد ثمانية صفحات لأبو يعرب المرزوقي وحده (والذي يعد أهم فيلسوف على قيد الحياة بعد من فلاسفة المغرب العربي) إلا أنه حتى في الصفحات القليلة التالية لا يقدم حكما جاهزا أو متحيزا على فيلسوف أو آخر. بل يكتفي بقراءة موضوعية وتسليط الضوء على المنجز الفلسفي الرئيس ما يجعل الفيلسوف المعني أصيلا. وهو في ذلك يحيد نفسه قدر استطاعته,مما يعطينا رؤية موضوعية لتكوين وجهة نظر غير منقوصة قدر الإمكان عن بعض الأعلام المذكورين,وفلسفاتهم وأفكارهم,دون الحاجة لقراءة جميع أعمالهم (وهو ما لا يستطيعه الكثير من القراء).

باختصار؛الكتاب معمق,مكثف,مبسط,مباشر,وغير متكلف.

قراءات مشابهة
-خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين / محمد المختار الشنقيطي

-المفكرون العرب (مشاريع وتطلعات) لـ مجموعة من الباحثين العرب

-مفكرون من عصرنا / سامي خشبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى