عمر العسري - وقت مستقطع من الحرب (7) ثمة حرب مجهولة أقتات منها.. إعداد: سعيد منتسب

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..


****



هل كانت الحرب الموضوع الأول للأدب؟ قد يكون الأمر صحيحا في جميع الأزمنة، والتأكيد أن العلاقة بينهما قديمة قدم الإنسانية. فقد قامت دائما على مدى فترة طويلة من الزمن منذ هوميروس و»حروب طروادة» في «الأوديسّة» و»الإلياذة» وغيرهما.
وأنا أقرأ الشعر العربي القديم، والأدب العالمي أجدني منجذبا أكثر إلى شعر الشجاعة والإقدام، ومن منا لم يستمتع كثيرا بشعر الحرب في العصرين الأموي والعباسي. وفي القرن الماضي عكس أدب الكاتب إرنست هيمنجواي تجاربه الشخصية في الحربين العالميتين، الأولى والثانية وحتى الحرب الأهلية الإسبانية.
غير أن الحرب التي أقرأ عنها قد لا ترتقي إلى مفهوم «الديستوبيا» التي أثارها جورج أورويل عندما ألّف روايته 1984 عن مصير الإنسان المعاصر. أو كتابات فيليب ديك، التي تتضمن تصورا مستقبليا يهجر فيه معظم البشر كوكب الأرض، ويزداد تسخير آليين مصنعين بيولوجيا ليقوموا بعمل البشر. وغيرها من التصورات الاستشرافية.
فهي حرب قادمة من المستقبل ولاتزودني بما يكفي من تأمل، بل تدفعني أيضا إلى التشكيك فيها وفي طبيعة الأدوار والدوافع العاطفية للمحارب الجديد والخفي وطبيعة المصير المجهول، وهو ما قد يثير الرغبة الجامحة في تجاهلها أصلا واحتمالية وقوعها بشكل أوبآخر.
بيد أن الرغبة قائمة للكتابة عنها من منطلق وعي استشرافي صرف، وقلق وجودي مخلوط بالشك. لأن الحروب التي نسمع عنها أوتصلنا من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي لا تبعث على الصدق، بل أصبح للصورة الواحدة روايات عديدة ومتعددة. إن الحرب التي لا أعيشها بل أسمع أوأقرأ عنها هي حرب قابلة للتأمل والنظر إليها من زاوية المستطلع من خلال العديد من الكتابات والفيديوهات. ويضطلع دوري بتمجيد الأخلاق والتضحية والسلمية. ولا أرى في الكتابة عن الحرب سوى وسيلة لفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية الأوسع. فالكتابة لا توقف الحرب أو تنهيها، وإنما تقف عند تفاهتها ولا جدواها أصلا.
فالحرب التي أعيشها وجودية بامتياز، وهي أشق إذا ما صارع الإنسان نفسه، وليس كما تصورها تشارلز سيميك في روايته «ذبابة في الحساء» حين قال: «الحرب تقوم على أيدي رجال قساة بصفوف من الميداليات تغطي صدروهم التي لم تكبر أبداً، إذا ذكرت انتصار الحلفاء لأمي فستذكرك بعدد الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن فى الجانبين». لأن الوقائع تمتلك صلابة مؤكدة لمقاومة هجماتها، حيث البحث عن مخرج لايتحقق آنيا، لكنه سيتحقق في عملية لانهائية. ولا يمكنني شخصيا أن أعي هذا الصراع إلا بتخيل ومناشدة التوازن الطبيعي للحياة.
إذا كانت الحرب قديما تأتي أحيانا من مستصغر الشرر، فإن نتائجها لم تتلخص بعد من مفهوم الشر الذي تفشى وطغى على الحياة، ولم يعد للفرد وجود خارج دائرة الشر. وقد حسم تيري إيغلتون تصوره عندما انتفض في وجه الشر من خلال تصريحه بأنه هو العمل الذي ينتج من دون سبب تاركا وراء ظهره المفهوم الشائع بأنه السبب وراء كل الرغبات والشهوات البشرية على الأرض. قد يقرن الشر بالحرب، ولكن وجه الصراع متحقق وشائع سواء في الأدب أو في الواقع، لأن الكاتب على وعي بالحياة النابضة والتالفة في آن، التي تُسحق هويتها وملامحها باستمرار، غير أن الكتابة قد تسمو إلى المخلّص أوذلك الشكل المعتق من النتائج الكارثية ولو مجازيا.
إن حدود التعالق بين الأدب والحرب هي علاقة مربعة الزوايا تضم؛ التاريخ، والكتابة، والواقع، والتجربة الذاتية. وبهذا المعنى، تتلخص الرؤية النموذجية للعلاقات، وهي على اختلافها قابلة للتفكيك. ولاشك أن في هذا الزعم ما يستحق التفكير والكتابة، ولكن من زاوية ذاتية صرف. قال بودلير: «سيموت قلبي من كثرة تراكم الأيام التي أبتلعها بطعمٍ مر». الحياة كافية أن تعلمنا أن أقسى ما مررنا به كان خيرا بطعم صراع فردي أوحرب من نوع خاص، إنه الصراع أوالحرب الذي نؤجله بالأمل ونقيده بالكتابة، ونتعايش معه وفق مسار حياتي مجهول وملتبس، أوما يسمى بقلق الحرب أوالموت. هل فعلا كما قال دوستوفيسكي: « بعد مُنتصف الليل تبدأ أول معارك القلب إما بالحنين أوالمواجع وكلاهُما قاتل»؟

الكاتب : إعداد: سعيد منتسب


بتاريخ : 09/04/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى