أحمد عبدالله إسماعيل - لحظة العمر

عادا برفقة والديهما، بعد صلاة الفجر ، ينظر الأول في صمت كمن يحمل همًّا، أما الآخر فيمشي خفيف القلب، بعد شهرين من زواجه، وقال مبتهجًا :
-" نويت أسمِّيه على اسم جدي، أو على اسم أمي، السونار يحسم لنا الأمر"
في حجرته التي يتزين أحد جدرانها بصورة والديه أثناء أداء فريضة الحج، بينما يزدان الجدار المقابل بصورة زفافه، وبصورة أخرى له مع زوجته وولديه- يختم الأب الصلاة، في سكينة، ينعم برائحة بخور المسك الذي يجعل القشعريرة تسري في جسده.
يخلد للنوم بعد أن يشهد قرآن الفجر، منذ تقاعد من عمله المرموق، حتى يوقظه منبه تليفونه المحمول، قبيل صلاة الظهر.
يرتفع صوت العصافير، على الأشجار المجاورة للبيت، إيذانًا بإعلان مولد صبح جديد، يمر الولدان على الأب بالدور الأرضي، ثم ينصرفان إلى العمل كالمعتاد .
يعمل صلاح مهندس ميكانيكا بشركة مقاولات، و طارق معلم تربية بدنية.
في الطريق ، تجاذب الأخوان أطراف الحديث، ثم انتبه صلاح أن البنزين يكاد ينفد، وأبدى ضيقه من الانتظار في طابور طويل؛ قد يؤخرهما عن الوصول إلى العمل في الموعد المنضبط، هو بطبيعته صبور غير أنه أراد، هذه المرة، أن يتعجَّل من غير تأنٍ.
تذكر، في سعادة، ابنته التي تشبه حركاتها كل تفاصيله المطبوعة في ذاكرته! حينئذ، اقتحم سائق سيارة أجرة، نحيل الجسد متفحم الأسنان، طابور السيارات المنتظر ، من الجانب الأمامي؛ تحدث صلاح معه بأسلوب راق مهذب، لكنه لم يتوقف عن السباب؛ فنزل طارق، مفتول العضلات عريض المنكبين مهيب البنية، يلومه مهددًا بتهذيبه -غير مكترث لكبر سنه- إن تمادى؛ فاشتبك معه لفظيًّا!
تخوف صلاح من تطور الأمر عن هذا الحد، كما خشي وجود لصوص في المكان؛ فطلب من شقيقه الانصراف.
بعد دقائق، اتصل طارق به، فأجاب بصعوبة شديدة :
-"أنا ... آآآآه."
عاد إليه مسرعًا، يسابق الريح، وجده يلفظ أنفاسه الأخيرة، أتي مِن خلفه مَن ضربه بأداة حادة على رأسه؛ فسقط مصروعًا مطروحًا على الأرض يتخبط في دمائه.
تذكر وهو ملقى على الأرض لا حراك فيه، مواقف مرت على مدار سنوات عمره، استرجع طموحات وأحلام تحتضر أمام ناظره!
استيقظ الأب من نومه مصدومًا، قبل موعد المنبه؛ إذ سمع ما لا يمكن توقُّعُه؛ فشعر بآلام شديدة في ظهره كأنه انشطر نصفين، وحاول النهوض مرارًا، لكن قدماه خانتاه لأول مرة في حياته !
اصطحبه ابن عمه بسيارته إلى المستشفى، وخطرت بباله، طوال الطريق، كل الخواطر المبهجة والأخطار التي جمعته بولده، ها هو يحمله صغيرًا فوق كتفيه يرقص به وهو ابن خمسة أعوام، ويمسك بيديه في أول أيام الدراسة، ويحتضنه فرحًا يوم نتيجة الشهادة الإعدادية، يبكي بحرقة ليلة زفافه.
صارع صلاح الموت، وأخذ يستعيد لقطات طفولته، وتدليل والديه؛ فتذكر كيف كان أخوه يشد عضده، وفي اللحظة التي ابتعد عنه هلك !
تذكر كيف كان يحزن من توافه الأمور، و كيف كان يحلم أن يبني لابنه مستقبلًا، تذكره وهو يلعب حتى كاد يسقط، فنهض ليمسك به، وكيف أقسم، وهو يدلل ابنته الرضيعة، ألا يتزوجها إلا من يعرف قدرها، وأن يضعها في كفة، ويأتي بالماس مهرًا لها، في الكفة الأخرى.
تذكر متعجبًا، كيف خرج مسرعًا إلى العمل، دون أن يتناول فطوره، كأنه يهرول لملاقاة موته؟!
دهش في ذهول، كيف ماتت أمه؛ بسبب سائق متهور صدم التاكسي، الذي كانت تستقله إلى العمل، وفر هاربًا؛ فتبسم ضاحكًا من أن نهايته مثلها على يد سائق طائش !
نظر إلى أخيه مبتسمًا، وفي لحظة فارقة أمسك بيده موصيًا :
-"الآن آنَ لي أنْ أرتاح، اهتم كثيرًا بأولادي".
ثم فاضت روحه !
بينما كان العرق يفيض من جلد شقيقه مثل ريح المسك، لم يتمالك نفسه، فانهار باكيًا، وفي غمضة عين حضرت سيارة الاسعاف ورجال الشرطة.
جلس يتذكر اللحظة التي رحل فيها شقيقه، على أهون سبب، وتذكر مواقف الطفولة، المليئة بالضحك، وزيارته في مركز تدريب الجيش، أول مرة غاب صوته عن البيت لخمسة وأربعين يومًا !
فتَّ الموت في ساعده، أظلمت الدنيا في عينيه، توقف نهر حياته عن الانسياب، و بدأت عقارب الساعة تدور ببطء شديد ، أو ربما كفَّت الأرض عن الدوران !
امتلأت صفحات الفيس بوك بكلمات شقيقه طيب الذِّكرِ، بعد أن تفرقت بهما السبل؛ بللت الدموع وجنتيه، وصورة ملامحه المستبشرة لا تفارقه أينما ولَّى، راجيًا أن يتجاوز تلك المصيبة حتى ينفذ وصيته؛ فقرر أن يسمي ابنه على اسمه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى