جاء الشتاء دون سابق إنذار، أخلف مواعيده، واختار يوما كنت متخففا فيه من كل شيء لأنني أكره ثقل الصيف وألجأ فيه إلى الهرب حتى من الذكريات، التي تصبح في غاية اللزوجة وتختلط بالعرق والأتربة فتولد لديّ الكآبة والحزن، أكره في الصيف حاجتي للاستغناء حتى عن دمائي فهي تلهب وريدي، أبحث الآن عن ذلك اللهيب الذي تحول إلى ذكرى.
في تلك اللحظة بالذات ترتعش يدي ببرودة الحاجة وهي أجمل هبات الشتاء العزيز إذا جاء في موعده، أما أن يأتي هكذا فيقتلوني لافتقادي لكل ما استغنيت عنه بالأمس؟!
لم أتعود أبدا على البكاء في الشتاء، والماء الدافئ المنساب على خدي يختلط الآن بهواء بارد يشعرني برجفة لا أقدر على مواجهتها، اللهم ابعث لي بشرارة ذكرى قديمة لأتدفأ.
في منطقة منزوية في عقلي قليلا بدأت تنجلي صور مشوشة عن مملكة قديمة من ممالك الجان، تقع على قمة جبل "الزمرد والحكايات"، يطالعني وجه جني حكيم طيب اسمه "ياكوش الأحمر" ويقف أمامه ولده الوحيد "ألفباء"، يبدو على الولد سماحة وجه أبيه وتلمع عيناه بذكاء أصحاب الفضيلة والعلم، إلا أن ذلك الذكاء يختلط ببعض الساذجة والطفولة، أسمع "ياكوش" وهو ينصح ولده قائلا:
ــ يا بنيّ لا تعطِ معروفا إلا لأهله، وتجنب مخالطة الغرباء، وكن حذرا لأن هناك جنس آخر من مخلوقات إلهنا العظيم مكلف لأنه يفكر مثلنا، يسمى بالبشر، فإذا رأيتهم صدفة، أرجوك يا بنيّ لا تحاول التحدث معهم أو التعرف عليهم.
نظر "ألفباء" لأبيه بدهشة المفاجأة، وسأله:
ـــ إذا كان ذلك الجنس مكلف ومفكر مثلنا، فلماذا لا نختلط بهم فنتعلم من فنونهم، ويتعلموا من فنونا، فالعقل يسبغ على العاقل حكمة ووقار، وتكون ثمرة إعماله عادة علم نافع.
كان "ياكوش" يحب ولده كثيرا ويعرف خطر التجربة الضيقة المختلطة بحبٍ للاكتشاف والتعلم، إلا أنه على غير العادة لم يحاول شرح أسبابه واكتفى بطرح النصيحة دون تفسير لها، ثم رحل.
جلس "ألفباء" يفكر في غرابة كلام أبيه، الذي يعد نوعا من أنواع الازدواجية والشطط، فهو من علّمه أهمية مساعدة الجميع ومحبتهم، وقيمة المشاركة البنّاءة، كما علّمه العطف على كل الأجناس غير العاقلة التي تحيط به، ورعايتها لعبور حياتها القصيرة ببساطة وسعادة وهدوء، فكيف ينصحه بعد ذلك بتجنب مساعدة جنس آخر خاصة وإن كان مفكر وعاقل؟
انشغل الولد الطيب لأيام بخيالات مختلفة عن شكل وطبع ذلك الجنس، فتارة يتصور أنهم كائنات حجرية لديها قرون طويلة ترتفع حاملة لعقل دائري ومسطح، وتارة أخري يراهم كائنات صغيرة تنتشر على وجه الأرض مثل زبد ينتشر على سطح بحر..، وذات يوم من الأيام وبينما يغرس فسيلة في أرض حديقة منزله لمست يده ثقبا خفيا في الأرض، فوجد نفسه بغتة وسط جماعة من أبناء جنس غريب لم يشاهده من قبل، ولشدة خوفه همّ بالهرب فتعثّر في قدم أحد الجالسين فوجد أنه لم يشعر بوجوده، ففرح كثيرا لنجاته وبعد لحظات عرف أن أولئك الغرباء هم من جنس البشر، فوقر في قلبه استغراب وريبة من أمر أبيه، كيف يتجنبهم ويهرب منهم، وهو يراهم من حيث لا يرونه؟
قرر الجلوس والاستماع لحديثهم، الذي كان في غاية العذوبة والجمال، يقطر صدقًا ويرسم آمالا عريضة لمستقبل مشرق عند انتهائهم من بناء برج أسطوري أطلقوا عليه اسم "بابل" ليتمكنوا بالارتقاء عليه لاكتشاف أسرار معرفة أهل السماء واستجلاء علمهم الأزلي حتى يستطيعوا الخروج من أزمة جهلهم بالمستقبل ومحنة ظلام الغيب.
ولأن "ألفباء" كان شغوفا بالمعرفة وقع في قلبه حب خالص لفكرة اكتشاف الغيب والاطلاع على أسرار أهل السماء، رغم جهله لطباع وسلوك الجنس البشري، لكنه استشف تميزه من سحر الكلمات التي تفوّه بها زعيمهم، فاقترب أكثر ليطلع على خطتهم في بناء الأساس، فوجد أنها خطة هشة تفتقد لخبرة أبناء جنسه الماهر في فنون العمارة والبناء، فأضاف بعفوية على الأوراق بعض الخطوط والمواد التي ظهرت فجأة أمام الحاضرين، فتفرقوا هلعا وخوفا، فأسرع الولد الطيب يحدثهم ويهدئ روعهم، وأخبرهم بأنه أحد أبناء عالم آخر يسكن في بعد أخر يسمى عالم الجان، وأنه يراهم من حيث لا يرونه، إلا أنه أعجب كثيرا بفكرتهم وقرر الانضمام إليهم ومساعدتهم فجنسه بفطرتهم بنّائين مهره.
وبفطرة البشر الطيبة اطمئنوا لكلامه وقرروا مصاحبته، وقبول مساعدته والاستماع إلى نصائحه التي أظهرت الأيام صدقها، وبعد عام واحد اكتمل بناء برج "بابل" الأسطوري، وفي ليلة الاحتفال الذي يسبق ارتقاء البشر إلى السماء أعلنوا فخرهم بأنهم في الغد سيقومون بقطف ثمرة مجهود عملهم الفردي الذي أنجزوه دون مساعدة من أحد...
صدم "ألفباء" ولم يستطيع سماع باقي الخطبة العصماء واكتشف خطأه واستوعب حكمة والده وأسباب نصيحته بوجوب تجنب مساعدة البشر، لأن ما حدث على أرض واقعه كان عكس ذلك!
ففي اليوم الأول للعمل تحدث البشر كعادتهم التي لم يكن يعرفها الجني لنصف اليوم ثم عملوا بجد وإخلاص في نصفه الأخر، حتى تعبوا وذهبوا إلى أسرتهم للنوم والراحة، ولأنه لا يعرف ذلك التعب، ولم يجرب يوما هذا الشعور السحري بالنوم سهر وحده ليلا يعمل في إكمال بناء الأساس، فأصبح البشر وتوجهوا لقاعدة البرج فوجدوا أن الأساس أوشك على الاكتمال، ففرحوا كثيرا وهنأ بعضهم البعض على ذلك المجهود الجبار الذي مكنهم من انجاز هذا الجزء الكبير في هذا الوقت القصير، فالبشر أصحاب ذاكرة ضعيفة، وكلما مرت الأيام زاد البناء بالارتفاع بفضل مجهود الجني غير المرئي، وقل عمل البشر الذين انشغلوا بالثرثرة، وظهر أنهم أيضا يمتلكون مع ذاكرتهم الضعيفة كسلا يصاحبه كبرا يحبب إليهم مدح ذاتهم وفرحها بحمدها والثناء عليها بما لم تفعل!
جلس "ألفباء" مرتبكا وحزينا لا يعي طريقة تفكير أولئك البشر، ولا يعرف لها حكمة مرجوة، وبينما يفكر ويحاول فهم أسباب فعلتهم والتغلب على صدمته وحزنه، سمع صوتا سماويا يقول له:
ــ لا تحزن أيها الجني الطيب ولا تفكر كثيرا فأنت فعلت الصواب على كل حال، وعملك كان رائعا، والسماء تحبك، وتكافئك بالاطلاع على سر الغيب، أنت كنت تعمل بجهد كل يوم وتعرف يقينا أن البناء سيعلو في الغد بقدر عملك، لمعرفة الغيب لا تحتاج ارتقاء برج أو الاطلاع على أخبار السماء، خذ حجرا واحدا من أساس البرج وأرحل في اتجاه شجرة اللوز وستجد هناك ثقبا يعيدك إلى أهلك الطيبين.
لم يصدق "ألفباء" أذنه إلا أنه أحس بحكمة تلك الكلمات ولأنه كان ممن يسمعون القول فيعقلونه ثم يتبعون أحسنه، فأخذ حجرا عزيزا على قلبه من أساس البرج ورحل تجاه شجرة اللوز ووجد الثقب فلمسه وإذا به واقفا في حديقة منزله وفي يد من يديه الفسيلة التي لم يكن غرسها بعد، وفي اليد الأخرى حجره الغالي دليلا على صدق رحلته التي اكتشف أنها لم تكن في بُعد عالمه إلا كطرفة عين.
ترك "ألفباء" الفسيلة وركض يبحث عن أبيه، الذي وجده في مجلس علم مع بعض سادة مملكة "الزمرد والحكايات"، فدخل عليه وهو يلهث وقص عليه كل ما مر به دفعة واحدة، ثم وضع أمامه الحجر الذي يدل على صدق روايته، فاندهش الحاضرون من تلك الحكاية العجيبة وقرروا بعث رسول من مجلسهم ليطلع على أمر البشر ويعرف ماذا حدث لهم.
ذهب الرسول إلى البقعة التي وصفها "ألفباء" ولكنه لم يجد أية أبراج، أو حضارة أو حتى مدن، فطاف يجوب الأرض التي تناثر أهلها في بقاع شتى، وكل مجموعة من أهلها تختبئ مع بعض الأحجار التي تنام عليها وتبكي وهي تهمهم بأصوات غريبة، وعند أخر نقطة في الأرض وجد رجل حكيم يتكلم بلغة سليمة، فسأله الرسول عن أسباب شتات البشر ولماذا فقدوا القدرة على الكلام بلغة مفهومة، فقص عليه الحكيم، أنه منذ 100 عام اجتمع البشر وقرروا أن يبنوا برجا عاليا ليكتشفوا علم أهل السماء الأزلي بالغيب، وأنهم في يوم الارتقاء وجدوا حجرا ناقصا من أساس البرج فتفرقوا حول ماهية السارق واختلفوا فيما بينهم وتقاتلوا وركض كل واحد منهم بحجر من أحجار الأساس فانهار البرج عليهم، فأخذ الذين نجوا أحجارهم وهربوا لمناطق شتى، وجلس كل واحد منهم يبكي ظلم السماء وقسوتها، وظلم أخيه الإنسان، ومن قلة كلامهم لأنهم تجنبوا بعضهم البعض تبلبلت ألسنتهم وأصبحت تهمهم بأصوات غير مفهومة.
فعاد الرسول إلى المجلس وقص عليهم ما سمع وما رأى، وفي أوج دهشتهم من غرابة ما سمعوا دخل عليهم رسول من حاكم مملكتهم يبحث عن "ألفباء" ليمثل أمامه في الساعة والتو، وعندئذ لمست دون قصد كوب شاي كان أمامي فانسكب على ملابسي الخفيفة التي تصطك من البرد.
في تلك اللحظة بالذات ترتعش يدي ببرودة الحاجة وهي أجمل هبات الشتاء العزيز إذا جاء في موعده، أما أن يأتي هكذا فيقتلوني لافتقادي لكل ما استغنيت عنه بالأمس؟!
لم أتعود أبدا على البكاء في الشتاء، والماء الدافئ المنساب على خدي يختلط الآن بهواء بارد يشعرني برجفة لا أقدر على مواجهتها، اللهم ابعث لي بشرارة ذكرى قديمة لأتدفأ.
في منطقة منزوية في عقلي قليلا بدأت تنجلي صور مشوشة عن مملكة قديمة من ممالك الجان، تقع على قمة جبل "الزمرد والحكايات"، يطالعني وجه جني حكيم طيب اسمه "ياكوش الأحمر" ويقف أمامه ولده الوحيد "ألفباء"، يبدو على الولد سماحة وجه أبيه وتلمع عيناه بذكاء أصحاب الفضيلة والعلم، إلا أن ذلك الذكاء يختلط ببعض الساذجة والطفولة، أسمع "ياكوش" وهو ينصح ولده قائلا:
ــ يا بنيّ لا تعطِ معروفا إلا لأهله، وتجنب مخالطة الغرباء، وكن حذرا لأن هناك جنس آخر من مخلوقات إلهنا العظيم مكلف لأنه يفكر مثلنا، يسمى بالبشر، فإذا رأيتهم صدفة، أرجوك يا بنيّ لا تحاول التحدث معهم أو التعرف عليهم.
نظر "ألفباء" لأبيه بدهشة المفاجأة، وسأله:
ـــ إذا كان ذلك الجنس مكلف ومفكر مثلنا، فلماذا لا نختلط بهم فنتعلم من فنونهم، ويتعلموا من فنونا، فالعقل يسبغ على العاقل حكمة ووقار، وتكون ثمرة إعماله عادة علم نافع.
كان "ياكوش" يحب ولده كثيرا ويعرف خطر التجربة الضيقة المختلطة بحبٍ للاكتشاف والتعلم، إلا أنه على غير العادة لم يحاول شرح أسبابه واكتفى بطرح النصيحة دون تفسير لها، ثم رحل.
جلس "ألفباء" يفكر في غرابة كلام أبيه، الذي يعد نوعا من أنواع الازدواجية والشطط، فهو من علّمه أهمية مساعدة الجميع ومحبتهم، وقيمة المشاركة البنّاءة، كما علّمه العطف على كل الأجناس غير العاقلة التي تحيط به، ورعايتها لعبور حياتها القصيرة ببساطة وسعادة وهدوء، فكيف ينصحه بعد ذلك بتجنب مساعدة جنس آخر خاصة وإن كان مفكر وعاقل؟
انشغل الولد الطيب لأيام بخيالات مختلفة عن شكل وطبع ذلك الجنس، فتارة يتصور أنهم كائنات حجرية لديها قرون طويلة ترتفع حاملة لعقل دائري ومسطح، وتارة أخري يراهم كائنات صغيرة تنتشر على وجه الأرض مثل زبد ينتشر على سطح بحر..، وذات يوم من الأيام وبينما يغرس فسيلة في أرض حديقة منزله لمست يده ثقبا خفيا في الأرض، فوجد نفسه بغتة وسط جماعة من أبناء جنس غريب لم يشاهده من قبل، ولشدة خوفه همّ بالهرب فتعثّر في قدم أحد الجالسين فوجد أنه لم يشعر بوجوده، ففرح كثيرا لنجاته وبعد لحظات عرف أن أولئك الغرباء هم من جنس البشر، فوقر في قلبه استغراب وريبة من أمر أبيه، كيف يتجنبهم ويهرب منهم، وهو يراهم من حيث لا يرونه؟
قرر الجلوس والاستماع لحديثهم، الذي كان في غاية العذوبة والجمال، يقطر صدقًا ويرسم آمالا عريضة لمستقبل مشرق عند انتهائهم من بناء برج أسطوري أطلقوا عليه اسم "بابل" ليتمكنوا بالارتقاء عليه لاكتشاف أسرار معرفة أهل السماء واستجلاء علمهم الأزلي حتى يستطيعوا الخروج من أزمة جهلهم بالمستقبل ومحنة ظلام الغيب.
ولأن "ألفباء" كان شغوفا بالمعرفة وقع في قلبه حب خالص لفكرة اكتشاف الغيب والاطلاع على أسرار أهل السماء، رغم جهله لطباع وسلوك الجنس البشري، لكنه استشف تميزه من سحر الكلمات التي تفوّه بها زعيمهم، فاقترب أكثر ليطلع على خطتهم في بناء الأساس، فوجد أنها خطة هشة تفتقد لخبرة أبناء جنسه الماهر في فنون العمارة والبناء، فأضاف بعفوية على الأوراق بعض الخطوط والمواد التي ظهرت فجأة أمام الحاضرين، فتفرقوا هلعا وخوفا، فأسرع الولد الطيب يحدثهم ويهدئ روعهم، وأخبرهم بأنه أحد أبناء عالم آخر يسكن في بعد أخر يسمى عالم الجان، وأنه يراهم من حيث لا يرونه، إلا أنه أعجب كثيرا بفكرتهم وقرر الانضمام إليهم ومساعدتهم فجنسه بفطرتهم بنّائين مهره.
وبفطرة البشر الطيبة اطمئنوا لكلامه وقرروا مصاحبته، وقبول مساعدته والاستماع إلى نصائحه التي أظهرت الأيام صدقها، وبعد عام واحد اكتمل بناء برج "بابل" الأسطوري، وفي ليلة الاحتفال الذي يسبق ارتقاء البشر إلى السماء أعلنوا فخرهم بأنهم في الغد سيقومون بقطف ثمرة مجهود عملهم الفردي الذي أنجزوه دون مساعدة من أحد...
صدم "ألفباء" ولم يستطيع سماع باقي الخطبة العصماء واكتشف خطأه واستوعب حكمة والده وأسباب نصيحته بوجوب تجنب مساعدة البشر، لأن ما حدث على أرض واقعه كان عكس ذلك!
ففي اليوم الأول للعمل تحدث البشر كعادتهم التي لم يكن يعرفها الجني لنصف اليوم ثم عملوا بجد وإخلاص في نصفه الأخر، حتى تعبوا وذهبوا إلى أسرتهم للنوم والراحة، ولأنه لا يعرف ذلك التعب، ولم يجرب يوما هذا الشعور السحري بالنوم سهر وحده ليلا يعمل في إكمال بناء الأساس، فأصبح البشر وتوجهوا لقاعدة البرج فوجدوا أن الأساس أوشك على الاكتمال، ففرحوا كثيرا وهنأ بعضهم البعض على ذلك المجهود الجبار الذي مكنهم من انجاز هذا الجزء الكبير في هذا الوقت القصير، فالبشر أصحاب ذاكرة ضعيفة، وكلما مرت الأيام زاد البناء بالارتفاع بفضل مجهود الجني غير المرئي، وقل عمل البشر الذين انشغلوا بالثرثرة، وظهر أنهم أيضا يمتلكون مع ذاكرتهم الضعيفة كسلا يصاحبه كبرا يحبب إليهم مدح ذاتهم وفرحها بحمدها والثناء عليها بما لم تفعل!
جلس "ألفباء" مرتبكا وحزينا لا يعي طريقة تفكير أولئك البشر، ولا يعرف لها حكمة مرجوة، وبينما يفكر ويحاول فهم أسباب فعلتهم والتغلب على صدمته وحزنه، سمع صوتا سماويا يقول له:
ــ لا تحزن أيها الجني الطيب ولا تفكر كثيرا فأنت فعلت الصواب على كل حال، وعملك كان رائعا، والسماء تحبك، وتكافئك بالاطلاع على سر الغيب، أنت كنت تعمل بجهد كل يوم وتعرف يقينا أن البناء سيعلو في الغد بقدر عملك، لمعرفة الغيب لا تحتاج ارتقاء برج أو الاطلاع على أخبار السماء، خذ حجرا واحدا من أساس البرج وأرحل في اتجاه شجرة اللوز وستجد هناك ثقبا يعيدك إلى أهلك الطيبين.
لم يصدق "ألفباء" أذنه إلا أنه أحس بحكمة تلك الكلمات ولأنه كان ممن يسمعون القول فيعقلونه ثم يتبعون أحسنه، فأخذ حجرا عزيزا على قلبه من أساس البرج ورحل تجاه شجرة اللوز ووجد الثقب فلمسه وإذا به واقفا في حديقة منزله وفي يد من يديه الفسيلة التي لم يكن غرسها بعد، وفي اليد الأخرى حجره الغالي دليلا على صدق رحلته التي اكتشف أنها لم تكن في بُعد عالمه إلا كطرفة عين.
ترك "ألفباء" الفسيلة وركض يبحث عن أبيه، الذي وجده في مجلس علم مع بعض سادة مملكة "الزمرد والحكايات"، فدخل عليه وهو يلهث وقص عليه كل ما مر به دفعة واحدة، ثم وضع أمامه الحجر الذي يدل على صدق روايته، فاندهش الحاضرون من تلك الحكاية العجيبة وقرروا بعث رسول من مجلسهم ليطلع على أمر البشر ويعرف ماذا حدث لهم.
ذهب الرسول إلى البقعة التي وصفها "ألفباء" ولكنه لم يجد أية أبراج، أو حضارة أو حتى مدن، فطاف يجوب الأرض التي تناثر أهلها في بقاع شتى، وكل مجموعة من أهلها تختبئ مع بعض الأحجار التي تنام عليها وتبكي وهي تهمهم بأصوات غريبة، وعند أخر نقطة في الأرض وجد رجل حكيم يتكلم بلغة سليمة، فسأله الرسول عن أسباب شتات البشر ولماذا فقدوا القدرة على الكلام بلغة مفهومة، فقص عليه الحكيم، أنه منذ 100 عام اجتمع البشر وقرروا أن يبنوا برجا عاليا ليكتشفوا علم أهل السماء الأزلي بالغيب، وأنهم في يوم الارتقاء وجدوا حجرا ناقصا من أساس البرج فتفرقوا حول ماهية السارق واختلفوا فيما بينهم وتقاتلوا وركض كل واحد منهم بحجر من أحجار الأساس فانهار البرج عليهم، فأخذ الذين نجوا أحجارهم وهربوا لمناطق شتى، وجلس كل واحد منهم يبكي ظلم السماء وقسوتها، وظلم أخيه الإنسان، ومن قلة كلامهم لأنهم تجنبوا بعضهم البعض تبلبلت ألسنتهم وأصبحت تهمهم بأصوات غير مفهومة.
فعاد الرسول إلى المجلس وقص عليهم ما سمع وما رأى، وفي أوج دهشتهم من غرابة ما سمعوا دخل عليهم رسول من حاكم مملكتهم يبحث عن "ألفباء" ليمثل أمامه في الساعة والتو، وعندئذ لمست دون قصد كوب شاي كان أمامي فانسكب على ملابسي الخفيفة التي تصطك من البرد.