المستشار بهاء المري - في ذكرى اغتيال القاضي أحمد الخازندار في 22 مارس 1948.. القضية رقم 604 لسنة 1948 جنايات حلوان

القضية رقم 604 لسنة 1948 جنايات حلوان

قاضٍ مصري جليل عالي القَدْر، رَفيع الذِّكر، حميد الأثر، أردته أيدٍ إرهابية خائنة لا لسبب إلا ضِيقًا بقضائه وضجَرًا من قيامه بواجبه.
رجلٌ هذا شأنه تُراق دماؤه الزكية، وتُزهَق روحه الطاهرة النقية بأيدي زُمرة من أشرار الإخوان، عُصبة من الفُجَّار تنتمي لهذا الوطن الكريم والوطن منهم بَراء، وتعتزي إلى الدين القيِّم وهم له من أكبر الأعداء، فالوطن يأبَى أن يكون بنوه حربًا على رجل من أعَز بَنيه عليه وأبرُّهم به.
كانت هذه الجريمة بداية لإرهاب مُروِّع كان يحمل في تَضاعيفه مَقتل النقراشي باشا، وأن جماعة الإخوان لتَبوء بوزر الجريمتين كلتيهما.
- مَن هو أحمد الخازندار:
أحمد الخازندار، قاضي مصري، تَخرجَّ في مدرسة الحقوق عام 1912 وعُيِّن مُعاونًا للنيابة العامة في عام تخرُّجه، ثم تدرَّج في الوظائف القضائية إلى وكيل نيابة، فرئيس نيابة استئناف مصر، حتى صار وكيلاً لمحكمة استئناف القاهرة في عام 1947.
والذي تجهله كتب التاريخ - وسيرته القضائية - أن مسقط رأسه قرية (العُتقا) مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة. وأولاده السفير حسين سفير مصر في سيراليون سابقا الذي شارك في محادثات كامب ديفيد مع الرئيس السادات، والمستشار محمود رئيس محكمة جنايات القاهرة سايقا، ومحمد - رحمه الله - مدير الإدارة الأفريقية بوزارة الخارجية سابقا.
سُجِّل اسمه في تاريخ الاغتيالات السياسية في مصر، وكان عمره وقت اغتياله ثمانية وخمسين عامًا، وكانت جريمة اغتياله من أبشَع الجرائم التي أدانها الرأي العام المصري في الأربعينيات.
- مَن القاتل:
القاتلان هما محمود سعيد زينهم، وحسن محمد عبد الحافظ، وخطَّطَ للحادث عبد الرحمن السِّندي رئيس التنظيم الخاص للإخوان المسلمين في ذلك الوقت.
- من هو عبد الرحمن السندي:
عبد الرحمن السندي من أكثر الشخصيات غموضًا في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وهو الرجل الذي ارتبط اسمه بالنظام الخاص للإخوان، أول مُنظمات العنف في حركة الإسلام السياسي المعاصرة.
وُلد في عام 1917 بقرية "بني سند" بأسيوط، وكان والده شيخًا للبلدة ومزارعًا ميسورًا يملك 25 فدانًا ووابورًا للمياه وحديقة للفواكه وخمسة أبناء، وفي عام 1938 حصل على البكالوريا فشدَّ الرحال إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وتشاء المصادفة أن يَسكن إلى جوار طالب بكلية الزراعة هو محمود عبد الحليم المسئول آنذاك عن قسم الطلبة بالإخوان المسلمين والذي انتهت إليه المسئولية بعد قليل عن النظام الخاص.
وفي عام 1941 نُقل محمود عبد الحليم إلى عمل خارج القاهرة، ولم يكن قد مَرَّ على النظام عام واحد، فرشَّح السندي لكي يَحل مَحله في قيادة النظام وترك السندي دراسته الجامعية والتحق بوظيفة في وزارة الزراعة لكي يتفرغ لمسئوليته الجديدة.
وكان النظام الخاص يَضُم عدة مئات من المقاتلين الأشدَّاء، من الطلاب والحرفيين والمهنيين على السَّمع والطاعة، ويَتلقون تعليماتهم منه مباشرة ويَفترضون أنه لا يَصدر لهم أمرًا بالقيام بأية عملية ضد أي هدَف إلا بعد أن يُستأذن المرشد العام حسن البنا.
وبدأ النظام الخاص عملياته في 4 ديسمبر 1946، 1947 وتركزت هجماته ضد الاحتلال البريطاني لمصر والغزو الصهيوني لفلسطين، وشملت عمليات قتل جنود الاحتلال في القاهرة وفي بعض مدن القناة، ونسف المؤسسات التجارية التي يمتلكها اليهود في مصر.
وفي مارس 1948 أصدر السندي أمره لمجموعة من النظام الخاص باغتيال المستشار أحمد الخازندار رئيس محكمة استئناف القاهرة، لأنه حَكم على اثنين من أعضائه اتُّهما بإلقاء قنابل على جنود الاحتلال بحبس أحدهما ثلاث سنوات وبسَجن الآخر خمس سنوات( ).
- إرهاصات اغتيال القاضي الخازندار:
كان الخازندار يرأس محكمة جنايات الإسكندرية قبل نقله رئيسًا لمحكمة جنايات القاهرة، وعُرضت عليه القضية رقم 3155 لسنة 1946 جنايات العطارين، المتهم فيها مجموعة من شباب الإخوان المسلمين بتهمة الشروع في قتل سائق إنجليزي بالبحرية البريطانية وضابط بريطاني، بأن ألقوا قنابل عليهما قاصدين قتلهما مع سبق الإصرار والترصد، وأشهرا في وجهيهما مسدسات فأحدثوا بهما إصابات، كما شرعوا في قتل من يوجد من الجنود الإنجليز في النادي البريطاني، وعاقبهم الخازندار بالسَّجن مدة خمس سنين، وبعضهم بالسَّجن أربع سنين في 10 يونية 1946.
أثار هذا الحكم استياء حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين وراحوا يُنددون به ضد الخازندار، نظرًا لقسوته من وجهة نظرهم، في حين قالوا إنه عاقَب سفاح الإسكندرية حَسن قناوي الذي راح ضحيته سبعة قتلى بدوافع جنسية بالأشغال الشاقة سبع سنوات.
بعد عِلم حسن البنا بهذا الحكم، قال في مجلس عام: إنَّ الخازندار "يستاهل القتل" وقد اعتبر عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص للإخوان (التنظيم العسكري السري المسئول عن الاغتيالات) أنَّ هذه العبارة تُعتبر إذنًا ضمنيًا بقتل الخازندار.
وحينما نُقل الخازندار رئيسًا لمحكمة جنايات القاهرة عُرضت عليه الجنايتين رقم 767 لسنة 1947 عابدين، 1403 لسنة 1947 الوايلي المتهم فيهما مجموعة من شباب الإخوان المسلمين لأنهم في يوم 25 ديسمبر 1946 ألقوا قنابل حارقة ومُتفجرة في مدينة القاهرة على بعض الأماكن منها نادي الاتحاد المصري الإنجليزي، وبان بانكوك، ومطعم كاليفورنيا، وبار أثينا وجميعها من الأماكن التي يَغشاها البريطانيون، مما ترتب عليه تفتيش المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين وشُعَبها في مدينة القاهرة، وعاقبهم الخازندار بجلسة 15 يناير 1948 بحبس بعضهم ثلاث سنين وغرامة مائة جنيه، وبعضهم بالسَّجن خمس سنوات، وكذلك قضى ببراءة بعضهم.
- أسباب الإغتيال وعلم الجماعة به:
1- أحكام الخازندار المغلظة ضد مجرمي الإخوان:
يقول أحمد عادل كمال أحد أعضاء النظام الخاص للإخوان المسلمين في كتابه "النقط فوق الحروف":
"كان بعض شبابنا قد امتلأ بأنَّ القاضي أحمد الخازندار كان يرى شرعية الوجود الإنجليزي في مصر بموجب معاهدة 1936 وتطوَّع بعضنا لتخليص الحركات التحررية منه، فإن أمامنا مُنطلقًا كبيرًا وجهادًا مَريرًا طويلاً، فإذا سمَحنا لهذا السَّيف أن يَظل قائمًا يَقتطع من أطرافنا وأعضائنا، فأي خسارة سوف تُصيبنا، وأي تضحيات من ذواتنا سوف نقدمها على مَذبح الحرية بدون مُبرر، تلك كانت النظرة عند شباب يريد تحرير وطنه"( ).
ويقول محمود الصباغ في كتابه حقيقة التنظيم الخاص للإخوان: "لقد استحلَّ هؤلاء الإخوان الثلاثة لأنفسهم، عبد الرحمن السندي، ومحمود سعيد زينهم، وحسن عبد الحافظ، القيام بهذا العمل لدوافع وطنية اقتضتها ظروف هذا الحادث، فالظروف الملابسة لهذا الحادث كانت تثير الشعور الوطني ضد هذا القاضي من المصريين كافة، وهو ما يُبرر أن يفكر بعض المتطرفين في اغتياله إرضاء لهذا الشعور، حتى أن جميع أفراد شعب مصر وبدون أي مبالغة تمنوا أن يُخلِّص القضاء المصري سُمعة مصر وشرفها وحياءها من هذا الوحش الكاسر"( ).
ويقول أحمد مُرتَضي المراغي آخر وزير للداخلية (قبل الثورة) في عهد الملك فاروق عن أسباب اغتيال القاضي الخازندار:( )
"انعقدت محكمة الجنايات برئاسة الخازندار، وكان قاضيًا يتميز بالعلم الغزير وبنزاهة لا يَرقى إليها الشك لمحاكمة جماعة من الإخوان المسلمين اتُّهموا بحيازة متفجرات وأسلحة، وكانت القضية قد عُرضت على دائرة أخرى تلقَّت تهديدات عديدة بالقتل إذا حكَمت على المتهمين، وأخذت القضية تُؤجَّل حتى انتهت إلى الدائرة التي يرأسها الخازندار، وطلب محامو المتهمين التأجيل ولكن الخازندار رفض التأجيل وأصرَّ على النَّظر في القضية رغم تهديده بالقتل، سواء برسائل أو مكالمات هاتفية لصلابته المعهودة وحكَم في القضية، وهنا صدر عليه هو حكم الإعدام من محكمة الإخوان".
- تنفيذ الاغتيال وضبط الجناة:
بعد مُراقبة القاضي الخازندار عدَّة أيام، عَلِم الجناة أنه يذهب إلى المحكمة في باب الخلق بالقاهرة، ويعود إلى حلوان بالمواصلات العامة وسيرًا على الأقدام إلى محطة السكة الحديد، ثم قطار حلوان إلى باب اللوق ثم المواصلات المعتادة.
وضَع السندي خُطته بأن يتم انتظار الخازندار أثناء خروجه من بيته في حلوان، فيغتاله حسن عبد الحافظ بمسدس، بينما يتواجد محمود سعيد زينهم على مسرح الجريمة مُحرزا قنابل صوت، ثم ينسحبان معًا بعد القتل وإذا تبعهما الجمهور أطلقا عليه الرصاص وألقوا بالقنابل.
باتَ حسن عبد الحافظ، ومحمود سعيد ليلة الحادث في منزل عبد الرحمن السّندي، وفي صباح يوم الإثنين الموافق 22/3/1948 وقبل الموعد المعتاد لخروج القاضي الخازندار من بيته، كان القاتلان يترصدانه قُرب بيته.
خرج الخازندار من بيته في الصباح المبكر من يوم 22 مارس 1948 من منزله الكائن بشارع رياض بضاحية حلوان حوالي الساعة السابعة والثلث صباحًا قاصدًا محطة حلوان ليستقل القطار منها إلى العاصمة ليرأس دائرة محكمة الجنايات، وما أن سار بضع خطوات من منزله وهو هادئ النفس مطمئن البال، حتى فاجأه المتهمان محمود سعيد زينهم، وحسن محمد عبد الحافظ (السكرتير الخاص لحسن البنا) بإطلاق النار عليه من مسدسين أعدَّاهما لهذا الغرض قاصدين من ذلك قتله؛ فسقط على الأرض مُضرجًا في دمائه، واستمرا يُطلقان النار عليه حتى أَفرغا جميع الطلقات المحشوَّة في المسدسين وهي أربع عشرة رصاصة، أصابه منها سِت مزَّقت القلب والكبد، ولم ينقطعا عن إطلاق النار حتى بعد سقوطه على الأرض وهو يلفظ أنفاسه الطاهرة الأخيرة، وكان بعض الشهود الذين بدأوا يفتحون حوانيتهم ليتهيأوا لعملهم قد سَمعوا تلك الطلقات وهي تُدوِّي في مكان القتل فالتفتوا إلى جهة مصدرها، فإذا هم يَرون المتهَمين وهما يُسدِّدان مسدسيهما على القتيل ويَبصرونه وهو يَخر على الأرض صريعًا، بينما المتهمان مُستمران في إطلاق النار عليه، ففزعوا مُستغيثين من هول الحادث.
وما أن أتم المتهمان جنايتهما المُنكرة، حتى بدآ يتركان مكان الحادث في تَؤُدة المجرم المُستخِف بجُرمه يلوذان بالفَرار، فهبَّ الجمهور سواء مَن شاهَد الجناية، أو مَن سَمع صوت الطلقات النارية، أو مَن ترامَى إليه خبر الحادث للقبض على هذين المجرمين من وقت أن سارا من مكان القتل يتبعونهما بالصياح من شارع إلى شارع، حتى إذا ضُيِّق الخناق عليهما وأدركا أنهما لابد مَقبوض عليهما وهما يحملان آثار الجريمة، ألقى المتهم الأول محمود سعيد زينهم قنبلة على المطاردِين في شارع إبراهيم باشا؛ ليَستعينا بذلك على الفرار ولكنها لم تُصب أحداً، كما تمكن المتهم المذكور إذ ذاك، من أن يتخلص من المسدس الذي كان يحمله، فألقاه في فناء منزل عثمان أفندي بدر الكائن في ذلك الشارع، كما ألقى بجراب المسدس في فناء منزل مجاور يملكه مصطفى كامل عبد الجواد أفندي.
وظل المتهمان يواصلان هروبهما من شارع إلى شارع والجمهور يُطاردهما بالصِّياح، إلى أن وصلا إلى سور المستشفى المخصص للأمراض المستعصية، والمعروف بين سكان حلوان "بالمستعصية" فقفزا ذلك السور من ثغرة مُتهدمة فيه، وهناك خلع كل منهما مِعطفه وألقى به على الأرض حتى لا يَعوق فرارهما، وألقى المتهم الأول قنبلة على المطاردين انفَجرت وهو في داخل فناء المستشفى فلم تُصِب أحدًا أيضا، واستمر وزميله يجريان وتخطيا سور المستشفى إلى الجبل ينطلقان في جريهما والجمهور ما زال يتابعهما ويطاردهما.
وكان سعيد السيد محمد عبد النبي الشاهد الأول قد شاهد الحادث عن قُرب، ورأى المتهمَّين رأيَ العين وهما يُطلقان النار على القتيل؛ فانطلق إلى القسم على دراجته بأقصى سرعة فقطع المسافة إليه في دقيقتين وأبلغ الخبَر إلى الضابط المنوب وهو الكونستبال فتحي عبد الحليم السيد علام أفندي، وذلك بعد أن كلَّف الشاهد اثنَين ممن هُرعوا لمكان الجريمة وقد شاهدا ارتكابها عن بُعد أن يتعقَّبا المتهمين إلى أن يعود هو من القسم، فخفَّ الكونستابل من فوره في سيارة القسم والمبلِّغ معه، ترافقه قوة من رجاله قصدَت بهم إلى مكان الحادث ثم اتخذوا طريق هروب المتهمين إلى أن خرجت بهم السيارة إلى منطقة الصحراء، وهناك لمحوا المتهمَين يجريان؛ فرتَّب الضابط طريقة ضبطهما، ووزَّع رجاله حتى سَدُّوا عليهما المسالك وتبُودَلت الأعيرة النارية أثناء ذلك بين أفراد القوة وبين أحد المتهمين الذين كان لا يزال محتفظًا بمسدسه وهو المتهم الثاني، كما ألقى المتهم الأول قنبلة أخرى وهي الثالثة نحو رجال القوة ولكنها لم تنفجر لسقوطها بين الرمال.
ثم تمكن الكونستابل ورجاله من ضبط المتهميَن، وبتفتيشهما عُثر في جيب بنطلون المتهم الثاني حسن عبد الحافظ على مِشط لمسدس ينطبق على المسدسين المضبوطين وبه سبع رصاصات غير مطلوقة من نوع وشكل الرصاصات التي أطلقت من المسدسين على المجني عليه في مكان القتل، واستطاع المتهم الثاني في أثناء ذلك أن يُلقي بمسدسه في الصحراء غير أنه عُثر عليه عند البحث عنه على مَقربة من مكان ضبطه.
عاد الكونستابل ومعه المتهمان في سيارة القسم، وفي طريق العودة أرشده بعض الشهود عن المنزل الذي ألقى المتهم الأول المسدس في فنائه فذهب إليه والتقطه، كما قُدِّم إليه جِرابه الذي عُثر عليه في المنزل المجاور، وعند وصوله إلى القسم أبلغ عن الحادث الجهات المختصة.
تولَّى النائب العام محمود منصور بك التحقيق، واستدعى حسن البنا ليَسأله عن صلة المتهمين بالجماعة فأنكر تلك الصلة، ولكن لمَّا واجهه النائب العام بأن حسن عبد الحافظ هو سكرتيره الخاص، اعترف بصلتهما بالجماعة وأنكر علمه بالجريمة.
- استهتار المتهمين بالواقعة:
يقول أحمد مُرتضَى المراغي( ): أسرعتُ بحكم وظيفتي إلى القسم لحضور استجوابهما، رأيتهما هادئَين باسمَين، كان أحدهما ضخم الجثة طويلاً وكان الآخر قصيرًا نحيفًا، وبدأ وكيل النيابة التحقيق وسأل أولهما عن اسمه فأجاب: ولماذا تريد مَعرفة اسمي؟ وسأل الثاني فأجاب: اسأل زميلي يَقل لكَ اسمي وضحك، فنهرهما وكيل النيابة وأعاد السؤال فذكر كل منهما اسمه، فسألهما هل أطلقا الرصاص على المستشار الخازندار؟ فردَّا بكل برود: ومَن هو الخازندار؟ ثم امتنعا عن الرد على أي سؤال، فتوقف وكيل النيابة عن التحقيق، ولكن أحد رجال البوليس حاول التكلم معهما فضحكا، ولم يَردَّا عليه فسَكت، وبعد ذلك مال الصغير النحيف على أذن الضخم وأسرَّ إليه شيئًا استغرق بعده في ضَحك مكتوم حتى دمَعت عيناه، فقلتُ له: هل أستطيع أن أعرف ما الذي أضحكك؟ فردَّ مُبتسمًا: أصل صاحبي خفيف الدم، وقال نُكتة حلوة.
تملَّكني غضب وحًنق لا حدَّ لهما، قاتلان يَقتلان مُستشارًا على درجة ممتازة من العلم والخُلق، ويُرمِّلان زوجة، ويُيتِّمان طفلَين، ولا يأبهان بشيء، ولا يحسَّان بفداحة الجُرم الذي ارتكباه، ثم يتماديان في الاستهتار بالمحقق ورجال الأمن، ويتبادلان النِّكات بدلاً من الرد على أسئلة وكيل النيابة".
وثَبُت من حكم المحكمة في قضية مَقتل القاضي الخازندار "الصحيفة 335" "أنَّ المتهمَين تابعان لجماعة الإخوان المسلمين، فالأول ضُبطت في غرفته أوراق تدل على أنه مُنتم إليها، وشهدت والدته في التحقيق بأنه مُنتم إلى هذه الجماعة، وأنَّ أخاه وأباه عضوان فيها، وأما الثاني فهو عضو عامل فيها".
- استناد القَتَلة إلى فتوى حسن البنا:
في يوم الحادث دَعَا البنا إلى اجتماع عاجل بمنزل عبد الرحمن السّندي رئيس النظام الخاص للإخوان، وسأل السّندي لماذا قتَل القاضي الخازندار قبل العَرض على مجلس إدارة النظام؟ فأجابه السّندي بأنه استطلع رأيه في حاكم ظالم يَحكم بغير ما أنزَل الله، ويُوقِع الأذى بالمسلمين، ويُمالئ الكفار والمشركين والمجرمين، وأنه أجابه بالآية الكريمة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ) وأنه اعتبر هذه الإجابة إذنًا بقتل الخازندار( ).
ولمَّا واجهَت الجماعة السِّندي بما جرَّه عليها من هُجوم من الصحف والأحزاب، قال إنَّ المرشد (حسن البنا) قال في مجلس عام: إنَّ القاضي الخازندار "يستاهل القتل" وذلك عندما سَمع بالأحكام القاسية التي أصدرها الخازندار ضد أشخاص من الإخوان في تهمة إحراز قنابل أمام نادي الجيش بالإسكندرية، فاعتبر السِّندي أنَّ عبارة البنا هذه إذنًا بقتل الخازندار.
- ادعاء القتل باسم الوطن:
ويضيف محمود الصباغ عن القَتَلة الثلاثة: "لقد استحلَّ هؤلاء الإخوان الثلاثة لأنفسهم القيام بهذا العمل لدوافع وطنية اقتضتها ظروف هذا الحادث واستشعَرها جميع شَعب مصر في حينها"( ).
- حسن البنا يتبرَّأ من الحادث:
يقول الدكتور عبد العزيز كامل عضو النظام الخاص بالإخوان ووزير الأوقاف الأسبق، وعضو مكتب الإرشاد إنَّ حسن البنا قال:
"إنَّ كل ما صدر منه من قول أمام عبد الرحمن السّندي تعليقًا على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان "لو ربّنا يخلَّصنا منه" أو "لو نخلص منه" أو "لو حَد يخلصنا منه" لم يقصد به تكليف بالقتل، ولكن السّندي فهِم هذه الأمنية أمرًا واتخذ إجراءاته التنفيذية، وأنه (أي البنا) فوجئ بالتنفيذ أما السّندي فقال: "عندما يَتمَنَّى المرشد الخلاص من الخازندار، فرغبته في الخلاص أمرٌ منه"( ).
ويُضيف عبد العزيز كامل: إنها المرَّة الأولى التي يجلس فيها عبد الرحمن مجلس المُحاسبة والمؤاخذة أمام البنا وقيادات النظام، إلى الدرجة التي قال فيها البنا لعبد الرحمن:
- أنا لم أقل لكَ، ولا أحمل المسئولية.
وعبد الرحمن يرد:
- لا، أنتَ قُلتَ لي، وتتحمَّل المسئولية.
وقال الكاتب محسن محمد: ( ) "قال لي فهمي أبو غدير المحامي ـ عضو الهيئة التأسيسية):
- لو كنتُ فتيًا قويًا لقتلتُ الخازندار. وأضاف:
- اعتدى رجل في أسيوط على طفل اعتداءً مشينًا فحكم الخازندار على المتهم بالحبس سنة مع وقف التنفيذ.
وأصدر حكما بسجن أم ثلاث سنوات لأنها قتلت ابنتها التي رفضت مصاحبة أحد الأثرياء، و.......... إلخ.
وهذه الأحكام الهيِّنة تقابلها أحكام قاسية على الذين يريدون عزة مصر بقذف الإنجليز بالقنابل، إن الخازندار يحل قتله، فهو يقتل دعوة تضم الملايين!
ـ قلتُ: وما موقف الشيخ حسن البنا من هذه الجريمة؟
ـ قال: نُسب إلى الشيخ البنا إنه قال: "ربنا يريحنا من الخازندار" أو "ربنا ينتقم منه" وذلك بعد إصدار الأحكام العنيفة ضد شباب الإخوان.
- محمود الصباغ ومصطفى مشهور يَعلمان بالحادث قبل وقوعه:
علِمَ محمود الصباغ المسئول في التنظيم الخاص، بتكليف عبد الرحمن السّندي لحسن عبد الحافظ، ومحمود سعيد زينهم بقتل الخازندار، وفي ذلك يقول:( )
"زارني الأخ حسن عبد الحافظ بمنزلي قُبَيل وُقوع مَقتل الخازندار وصارَحَني بأنَّ الأخ عبد الرحمن السّندي اختاره مع أخ آخر لقتل الخازندار بك لمِا ظهَر من جُحوده للشعور الوطني وتَعاطفه مع القَتلة والسَّفاحين في أحكامه، وقد ذُهلتُ لهذا الخبَر وأصدرتُ أمرًا صريحًا إلى الأخ حسن عبد الحافظ باعتباري أمير مجموعته إلى ما قبل سفري إلى فلسطين، ألا ينُفذ تعليمات عبد الرحمن في هذا الشأن، ولكن يبدو أن حسن لم يستطع أن يُقاوم رغبته الشخصية في الإتيان بعمل مَرمُوق، فلم يَمتثل لأمري واستجاب لعبد الرحمن، وقد شاء القدَر أن يزورني في اليوم التالي لزيارة الأخ حسن عبد الحافظ لي الأخ مصطفى مشهور، فأبلغته بما دار بيني وبين حسن، وقلتُ له لولا مَرضي لذهبتُ إلى عبد الرحمن لأمنعه عن هذا العمل ورَجوته أن يَنوب عنِّي في ذلك، ولكن إرادة الله الغالبة حالت بين لقاء مصطفى، وعبد الرحمن في الوقت المناسب، فوقع قضاء الله لحِكمة لا يعلمها إلا الله ".
- النظام الخاص يحاكم عبد الرحمن السندي ويبرر له جريمته:
يقول محمود الصباغ:( ) "عقَدَت قيادات النظام الخاص مُحاكمة لعبد الرحمن السّندي، وحضَرها حسن البنا، وباقي أفراد قيادة النظام، والدكتور عبد العزيز كامل، ومحمود الصباغ، ومصطفي مشهور، وقد أكدَّ عبد الرحمن في المحاكمة أنه فَهِم من العبارات السَّاخطة التي سَمعها من المرشد العام ضد أحكام المستشار الخازندار المُستهجَنة، أنه سَيرضَى عن قتله له، وأنه نفَّذ القتل فعلاً، وقد تأثر المرشد العام تأثرًا بالغًا لكلام عبد الرحمن لأنه يعلم صِدقه وأجهش بالبكاء، وتَحقَّق للحاضرين أنَّ عبد الرحمن قد وقع في فهم خاطئ، فرأوا أن يُعتبر الحادث قتلاً خطأ حيث لم يقصد عبد الرحمن ولا أحد من إخوانه سَفك نفْس بغير نفْس، وإنما قصدوا قتل روح التبلُّد الوطني في بعض أفراد الطبقة المثقفة من شعب مصر أمثال الخازندار بك، ولما كان هؤلاء الإخوان قد ارتكبوا هذا الخطأ في ظل انتمائهم إلى الإخوان المسلمين وبسببه، فقد حقَّ على الجماعة دفع الدِّية كعقوبة على القتل الخطأ، وأن تَعمل على إنقاذ حياة المتهمَين البريئين من حَبل المشنقة، ولما كانت جماعة الإخوان المسلمين جُزءًا من الشعب، وكانت الحكومة قد دفعَت بالفعل ما يُعادل الدِّية إلى ورثة المرحوم الخازندار بك، حيث دفعَت من مال الشعب عشرة آلاف جنيه، فإنَّ من الحق أن نُقرر أنَّ الدّية قد دفعتها الدولة عن الجماعة، وبَقيَ على الإخوان إنقاذ حياة الضَّحيتَين الأخرتين محمود زينهم، وحسن عبد الحافظ، واستراح الجميع لهذا الحكم دون استثناء وكانت براءة عبد الرحمن من القتل العمد إجماعية وبَقيَ في موقعه مَرضيًا عنه من الإمام الشهيد (يقصد حسن البنا).
- محاولة إنقاذ القاتلين:
يُضيف محمود الصباغ:( ) "صدَق إخوان النظام في الدفاع عنهما (عن القاتلين)، والعمل على نجاتهما مما وقعا فيه نتيجة لخطأ غير متعمَّد من رئيس النظام، فتحمَّلوا مصاريف الدفاع عن المتهمَين، كما تحمَّلتُ بنفسي وضع خُطة لخطف الأخوَين عبد الحافظ، ومحمود زينهم، من سجن مصر تَحسُّبًا لما يُمكن أن يقع في نفس القضاة من غضب لزميلهم فيحكموا عليهما بالإعدام، وحرصتُ على ألا تكون في هذه الخطة فرصة لإراقة دماء، وقد اشترك معي الأخ صلاح عبد الحافظ في متابعة تنفيذ الخطة، فقد كان ولعه بنجاة شقيقه حسن ولعًا كبيرا.
وقد انْبنَت الخطة على الاستعانة باثنين من السجانين في نقل صورة المفتاح الماستر الذي يفتح جميع الزنازين على قطعة من الصابون، حيث يمكن صُنع مفتاح مُطابق له عند البرَّاد الماهر "الخولي" ومن الطبيعي أنني دفعتُ لهذين السجانين أتعابهما عن هذا العمل، وقد كان اختيارهما دقيقا فلم يقصحوا لأحد عن عمليتهما الخطِرة .
كما كان من الخُطة الاستعانة باثنین من المسجونین العادیین الذین تعوَدا الخروج لعیادة طبیة في المستشفیات، وكانت علاقتهما بالسَّجانین المرافقین لهما تسمح بأن یتركوا لهما حرية التنقل وزیارة أهلهما، ثم العودة إلى السجن دون إضرار بالسجَّانین .
وقد تم فعلاً الاتفاق مع هذين المسجونَین على فتح باب زنازین كل من الأخوین حسن عبد الحافظ، ومحمود زينهم، بالمفتاح المصنوع بمعرفتنا ومساعدتهما في القفز من سور السجن في الوقت الذي نتفق عليه، ومن الموضع الذي نتفق عليه، ولقد دفعتُ بنفسي لهذين المسجونین أتعابهما سَخیًا عن هذه العملیة، ولكن إرادة الله شاءت أن یُلقَى القبض علینا في قضیة "السيارة الجيب" قبل تنفیذ هذه الخطة، على الرغم من أن تجربة المفتاح قد نجَحت في فتح الزنازین، كما أن القبض علینا لم یَسمح لنا بتنفیذ خطة بدیلة كانت تقضي بخطف الأخوَین من سیارة السجن عند دخولهما بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن بتهويش حراستهما بقنابل صوت، ثم الفرار بهما بعیدًا عن الموقع المختار .
وكان كل ذلك من فضل الله الذي قدَّر لهذين الأخوین أن يخرجا من سجنهما سالمَین مُعافین، ولم یقضیا فيه أكثر من ثلاث سنین، وذلك بأن شملهما العفو الشامل الذي صدر عن كل المسجونین السیاسیین في أوائل أیام ثورة یولیو سنة 1952 وكان من بین الذین خرجوا الأخوین حسن عبد الحافظ، ومحمود زينهم، وجمیع المتهمين في قضایا الأوكار بینما تم القبض على ابراهيم عبد الهادي قاتل الإمام الشهيد، وحُوكم أمام محكمة الثورة وحكم عليه بالإعدام الذي خُفِّف إلى السجن المؤبد".
- سهولة اقتحام السجون عند الإخوان ـ صورة لما حدث في سجن وادي النطرون عقب ثورة 25 يناير 2011:
يقول أحمد عادل كمال في كتابه "النقط فوق الحروف" عن محاولة تهريب المتهمَين بقتل القاضي الخازندار:
"تمت دراسة العملية، مباني السجن من الخارج، ومسَالكه من الداخل، ونظام الحراسة فيه، وأُعِدَّت مُعدات الاقتحام، سلالم من الخشب يمكن طيّها وفردها، وسلالم من الحِبال ذات عُقَد وذات عُقَل من الخشب، واختير مكان الاقتحام من سور السجن الخلفي الجنوبي، ودُرس كل ما سَوف تُقابله مجموعة الاقتحام، وتمَّ اختيار هذه المجموعة ودُرِّبت على العمل الموكول إليها، وانتُخِب السلاح المناسب وكان في جملته من الرشاشات الصغيرة والمسدسات، ولم يكن مع الطرف الآخر من حُراس السجن سوى بنادق قديمة الطراز مما يُحشَى طلقة طلقة، وتم استمالة بعض حرَس السجن وزنازينه وتم تجربتها على أبوابها، وأُعدت السيارات اللازمة للاختطاف، كما أُعد المخبأ الذي يَلجأ إليه الهاربان، ودُرس نظام الإنارة في المنطقة لقَطْع التيار الكهربائي ساعتها، وكان كل شيء يسير في مساره المرسوم، ولكن جاء حادث السيارة الجيب وقُبض على المُخطِّطين وعلى بعض المرشحين للاشتراك فيها قبل التنفيذ، وحتى نفس المفتاح الذي كان مقررا أن يَفتح أبواب السِّجن سَقط مع ما كان بالسيارة الجيب"( ).
مرافعة النائب العمومي
محمود منصور بك
- تولى التحقيق في القضية والمرافعة فيها أمام محكمة الجنايات سعادة النائب العمومي محمود منصور بك، فقال:
- حضرات المستشارين:
قبل أن أبدأ كلمتي في الدعوى، أُحب أن أتخفَّف دَينًا أشعر به في ذمتي، دينًا بالشكر والإعجاب لحضراتكم على ما ساد نظر هذه القضية من حِكمة وبصيرة، ومُثابَرة، وسِعة صدر وأُفق ليست جديدة على حضراتكم، ولا غريبة في تاريخ قضائنا المصري، ولا أظن أنى في ذلك أنفرد في التعبير، بل يشاركني فيه مُخلصين، بقية أطراف هذه القضية.
- حضرات المستشارين:
مع شدة أُلفي لهذا الموقف، أجد اليوم مَشقة في الاضطلاع به، فهنا حيث أنتم تجلسون يا حضرات المستشارين، كان منذ أشهر قلائل يجلس زميل، كان يُزين كما تُزينون هذا المحراب، ويملأ هذه القاعة جلالاً ووقارًا وعِزةً ومَهابة، ذهب في طَرفة عَين شهيد الواجب صريع البَغي والحُمق.
وهنا حيث كان الشهيد العزيز يقضي في نفوس أَودَع الله مصائرها في كلمة تخرج من فيه، أقفُ لأطالب بدمِه الغالي البريء غير مُستصرخ بزمالة ولا مُستغيث بعَصبية.
جئتُ أستنصفُ له القضاء، لا أستعدي الزملاء، جئتُ أطلبُ القِصاص من المتهمَين وقد دفنتُ حُزني على الزميل الجليل في صدري، وأخرسْتُ لوعَتي وردَدْتُ عَبْرتي، وكبَّلتُ عواطفي، لكي يخلو هذا المجلس لسلطان القانون ويَخلص لوجه الحق، ويَصفوا لجلال النُّصفة والعدل.
لم أعرف حادثًا غَلَتْ له الصدور غليانًا من السُّخط والغضب والاشمئزاز كهذا الحادث، ولم أرَ جريمة أحَسَّ كل مَن علم بها أيا كان موضعه من المجتمع بأنه مجنيّ عليه فيها كهذه الجريمة، ولم أشهد عملاً حارت الأمة في صَرفه وتفسيره كهذا العمل الشائه البَشع، الذي أخذ الناس على غرَّة، وفاجأهم على غير استعداد، والذي ما خَطر وقوعه في خيالٍ مهما أغرق وأسَرف وأبَعد في إساءة الظن، وتَطرَّف في توهُّم الشَّر وتوقُّع السوء.
قاضٍ مصري جليل عالي القَدْر، رَفيع الذِّكر حميد الأثر، تُرديه أيدٍ مصرية لا لسبب إلا ضِيقًا بقضائه وضجَرًا من قيامه بواجبه.
عجيبٌ والله أن يقع هذا في مصر، وهي التي قدَّست العدل منذ عرَفتهُ، وهي التي عرَفت العدل مُذ عرَفت نفسها وفطنت إلى وجودها وانطلقت تحمل مشعل الحضارة توقظ به العالم من سُباته، وتُبدد ما غشيَه من ظلم وظُلمة، لكنها الفتنة نَشرت حبائلها وبَنت شباكها ونفثَت سُمومها، وتَرصَّدت بعض الشباب تُحيلهم عن واجبهم وتَصرفهم عن خيرهم، وتلويهم عن قصدهم، حتى استحال هذا البعض نارًا لا تصلح إلا للإحراق، وسُمًّا لا ينفع إلا في القتل، ومِعْولاً لا يتحرك إلا للهدم والتخريب.
حسِب أحدهم أن تصل يده إلى مسدس أو تقبض كفّه على قنبلة أو يَنضم جيبه على سكين، حتى يَظن أنه قد ملَكَ رقاب العباد، وحَكم في الدماء والأرواح، وحتى يَهون في نظره كل كبير، ويُحقِّر كل عظيم وحتى يُبيح الممنوع ويَمنع المباح.
حسِب أحدهم وقد بات هذا السلاح في يده، وهذا الغُرور الجامح في رأسه أن يَتلقف كلمة خبيثة، أو يَسمع قولة في بيئة، أو تُقطر في أذنيه ألفاظ مسمومة يوحِى بها إليه مَن يعرف كيف يركبه إلى غايته، حسْبه هذا ومثله حتى يتخذ أخطر القرارات وأفحشها، وحتى ينُفذها بتصميم فاجر وغِلظة خارقة، وقسوة وحشية كما فعل المتهمان في هذه القضية.
إنما الشباب شبابٌ ببشائره ومَخايله بما يُرجَى منه من خَير، وما يُعقد عليه من آمال، إنما الشباب شبابٌ بما يتوقع الآباء من توقيره والأمهات من بِرِّه والأهل من عَطفه، والناس من صفاء قلبه، والوطن من نَفْعِه وعَونه وإخلاصه فإذا خاب فيه الرجاء، وضاع الأمل وظهر أنه لا يُقدِّم لوطنه إلا الشر والهدم والتدمير، فليس ذلك بشباب صغُرت سنّه في حساب الأعمار، إنما هو عمل غير صالح، بل هو كالنبات الضار السام الذي يَحق قَطْعه في كل وقت، ويَحل استئصاله في أي حين، وكلما عاجَله القطع قبل أن يستشري، وبادَره الاستئصال قبل أن يَمتد، كان ذلك خيًرا لغارسِه وللناس وللأرض التي نبَت فيها.
ولكأنه كان ينبغي في شِرعة هؤلاء المفتونين، ألا يَقضي قاضٍ إلا وفق ما يَشتهون، ولا أن يُصدر حُكمًا إلا ولهم فيه حُجة على الناس تشهد بأنهم فوق الناس، وفوق ما يخضع له الناس من أوضاع وقوانين.
لكأنه كان ينبغي عندهم أن يَكفر هذا القاضي الجليل برسالته التي أبلى في سبيلها الشباب، وأفنى العُمر وأجْهد الصحة، وأشقى البَدَن.
لكأنه كان ينبغي عندهم أن يَهدر ذلك القاضي النابه الماجد خمسًا وثلاثين عامًا قضاها في جو من النزاهة والحَيدة، يجدها في نفسه ويجدها فيمن كان معه وحوله من الزملاء طبعًا في الطبيعة، وأن ينسى تاريخه الطويل المجيد ليصطنع من أجلهم المُلاينة بدل الحزم، والمُسايرة بدل العدل.
ولكأنه كان ينبغي أن يتوقف هذا القاضي العالِم المجرِّب كلما أراد الحكم في قضية تهمُّهم من قريب أو بعيد، وأن يُنحِّي عِلمه وقانونه ومُثله وتجاربه وخبرته وفضائله كلها جانبًا، ويضرب عنها صَفْحًا ويُهملها إهمالاً ليتعرَّف رأي الصِّبيان والجُهلاء والحمْقَى فيَمضي فيه وينزل عليه ويحكم به.
ولكأنه كان ينبغي ذلك كله ونحوه لينجو الخازندار بك بحياته وليعيش آمنًا في سِربه، ولكن هَيهات، فقد مَضى ذلك القاضي المهيب في طريقه القويم الذي اعتاده، واعتاده الناس منه.
لم يصرفه عن واجبه صارف، ولم يَلْوه عن قصده الكريم تهديد ولا تدبير، حتى تبرَّع هذان المتهمان باغتياله، أقول تبَرعَا، لأنه لم يقض قَط في شأنٍ يخصهما أو يخص أهلهما، تَبرعَا بسفك دمه الغالي كما يتبرع الناس بالقليل المقدور عليه من مال أو عمل، وإنه ليهون على مثلهما وقد مات في قلبهما الوازع، ورانَت عليه أطباق من التعصُّب والغرور وشهوة التبطُّل، أن يتطوعَا لهذا الجرم البَشع ما دامت مخاطره قد ذُللت في حسابهما حتى كادت تنعدم، وما دام تنفيذه لا يستغرق إلا دقائق يعودان بعدها وقد كبُرا بعد صَغار، وظهرا بعد خُمول، واستعليا على أمثالهما بعد هوان، وعَوَّضا برصاصاتٍ تنطلق في ثوان إخفاق أعوام في الدراسة والتحصيل، فدبَّرا جُرمهما شَر تدبير، وأعدَّا له من الأسلحة والرصاص والقنابل كأنهما كانا يتأهبان لقتال جيش، ثم انحطَّا من العاصمة إلى حلوان كما تَنحط الجنود الفدائيون وراء خطوط الأعداء، وتَرصَّدا القاضي الشهيد حتى خرج من داره إلى عمله في الصباح الباكر، فصبَّا عليه الرصاص كأنما كانا يُردِيانِ جبلاً لا رجلاً، وكأنما كانا يُهاجمان حِصنًا لا إنسانًا.
لقد انتفَت الصلات يا حضرات المستشارين بين المتهمَين والمجني عليه، وانعدمت الروابط وتَباعدت بينهما وبينه الطرق، وترامَت المسافات، واختلفت مذاهب الحياة، ثم لقد لاذ المتهمان بإنكار العاجز، وقابَلَا الأدلة الدامغة بصمت الغَيْ.
- دوافع القتل:
ومع ذلك فسُطور التحقيق تَنبس بموضع هَواهُما، وتهمس بدوافعهما، وتُشير في غير ما لبْس إلى أن المجني عليه قد اغتُيل لأنه كقاض لم يَرضَ تعصُّبهما، ولم تُساير أحكام الدائرة التي كان يرأسها مَيلهما.
فتجدون حضراتكم من أوراق التحقيق أن المتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ ينتمي إلى جماعة مُعينة قدِم من بين المنتسبين إليها ثلاثة في جنايتين هما الجناية رقم 767 لسنة 1947 والجناية رقم 1403 لسنة 1947 الوايلي وقد حكمت فيهما دائرة الجنايات التي كان يرأسها المجني عليه، فقضت في أُولاهما بمعاقبة المتهم حسين محمد عبد السميع بالحبس ثلاث سنوات وغرامة قدرها مائة جنيه عن تهمة إحراز القنابل، وببراءة الثاني محمود نفيس حمدي، وقضت في الثانية بمعاقبة عبد المنعم إبراهيم عبد العال بالسَّجن لمدة خمس سنوات بتهمة الشروع في القتل باستعمال قنبلة ألقاها على سيارة أصابت سيدة كانت بها، وقد ضُبط بمنزل المتهم الثاني في قضيتنا ورقة تحمل اسم حسين عبد السميع المحكوم عليه في الجناية 767 سالفة الذكر.
كما يَبين لحضراتكم من خلاصة ما أُثبت في التحقيق من الاطلاع على الجنايتين المذكورتين أنَّ المتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ، لم يكن غريبًا عن الدفاع في هاتين الجنايتين ولا أجنبيًا عنه، ولا مقطوع الصلة به، وتجدون في العلاقة الوثيقة ما بين هذا المتهم والمتهم الأول محمود سعيد زينهم، وفيما بينهما من تلازم، وفي الأوراق التي ضُبطت في منزل المتهم الأول وفي الجو الذي يعيش فيه والذي يَغمره تأثير تلك الجماعة التي يتردد هذا المتهم على نواديها الرياضية، والتي ينتمي إليها أيضا والده وأخوه، تجدون في ذلك كله حقيقة الدافع الذي دفع المتهمين إلى اغتيال المجني عليه.
- وقائع الدعوى:
تَجمُلُ تلك الوقائع في أن المغفور له أحمد الخازندار بك خرج في الصباح المبكر من يوم 22 مارس 1948 من منزله الكائن بشارع رياض بضاحية حلوان حوالي الساعة السابعة والثلث صباحًا قاصدًا محطة حلوان، ليَستقل القطار منها إلى العاصمة ليرأس دائرة محكمة الجنايات.
وما أن سار بِضع خُطوات من منزله وهو هادئ النفس مُطمئن البال؛ حتى فاجأه المتهمان محمود سعيد زينهم، وحسن محمد عبد الحافظ، بإطلاق النار عليه من مسدسين أعدَّاهما لهذا الغرض قاصديَن من ذلك قتله؛ فسقط على الأرض مُضرجًا في دمائه.
واستمر المتهمان يُطلقان النار عليه حتى أفرَغا جميع الطلقات المحشُوة في المسدسين وهي أربع عشرة رصاصة، أصابهُ منها سِت مزَّقت القلب والكبد، ولم ينقطعا عن إطلاق النار حتى بعد سُقوطه على الأرض وهو يلفظ أنفاسه الطاهرة الأخيرة، وذلك كله واضح من تقرير الصفة التشريحية ومَحاضر المعاينات، مما يدل على مَبلغ الإجرام والوحشية والقوة التي بدت من المتهمين أثناء ارتكاب الحادث.
وكان بعض الشهود الذين بدأوا يَفتحون حوانيتهم ليتهيأوا لعَملهم قد سَمعوا تلك الطلقات وهي تُدوِّي في مكان القتل، فالتفتوا إلى جهة مصدرها، فإذا هم يَرون المتهَمَين وهما يُسدِّدان مُسدسيهما على القتيل ويُبصرونَه وهو يَخر على الأرض صريعًا، بينما المتهمان مُستمران في إطلاق النار عليه، ففزعوا مُستغيثين من هَول ذلك الحادث البشع.
وما أن أتمَّ المتهمان جنايتهما المُنكرة، حتى بدآ يتركان مكان الحادث في تَؤدة المجرم المُستخِف بجُرمه يلوذان بالفرار، فهبَّ الجمهور سواء مَن شَاهد الجناية أو من سَمع صوت الطلقات النارية، أو من تَرامَى إليه خبر الحادث للقبض على هذين المجرمَين من وقت أن سارا من مكان القتل يَتبعونهما بالصياح من شارع إلى شارع، حتى إذا ضُيِّق الخناق عليهما وأدركا أنهما لابد مقبوض عليهما وهما يحملان آثار الجريمة، ألقى المتهم الأول محمود سعيد زينهم قنبلة على المطاردِين في شارع إبراهيم باشا، ليستعينا بذلك على الفرار ولكنها لم تُصِب أحدًا، كما تَمكن المتهم المذكور إذ ذاكَ من أن يتخلص من المسدس الذي كان يحمله، فألقاه في فناء منزل عثمان أفندي بدر الكائن في ذلك الشارع، كما ألقى بجراب المسدس في فناء منزل مجاور يملكه مصطفى كامل عبد الجواد أفندي.
وظل المتهمان يواصلان هروبهما من شارع إلى شارع والجمهور يطاردهما بالصياح، إلى أن وصلا إلى سور المستشفى المخصص للأمراض المستعصية، والمعروف بين سكان حلوان "بالمُستعصية" فقفزا ذلك السور من ثغرة مُتهدمة فيه، وهناك خلع كل منهما مِعطفه وألقى به على الأرض حتى لا يَعُوق فرارهما، وألقى المتهم الأول قنبلة على المُطاردِين انفجرت وهو في داخل فناء المستشفى فلم تُصب أحدًا أيضًا، واستمر وزميله يجريان وتخطَّيا سور المستشفى إلى الجبل ينطلقان في جريهما والجمهور ما زال يُتابعهما ويطاردهما.
وكان سعيد السيد محمد عبد النبي الشاهد الأول قد شاهَد الحادث عن قُرب، ورأى المتهمَين رأيَ العَين وهما يُطلقان النار على القتيل؛ فانطلق إلى القسم على دراجته بأقصى سرعة؛ فقطع المسافة إليه في دقيقتين، كما ثبت من التجربة التي أُجريت خصِّيصا أثناء المعاينة، وأبلغ الخبر إلى الضابط المنوب وهو الكونستَابل فتحي عبد الحليم السيد علام أفندي، وذلك بعد أن كَلف الشاهد اثنَين ممن هُرعوا لمكان الجريمة وقد شاهدا ارتكابها عن بُعد، أن يَتعقَّبا المتهمَين إلى أن يعود هو من القسم فخفَّ الكونستابل من فوره في سيارة القسم والمُبلِّغ معه تُرافقه قوة من رجاله قصدَت بهم إلى مكان الحادث، ثم اتخذوا طريق هروب المتهمين إلى أن خرجت بهم السيارة إلى منطقة الصحراء، وهناك لمحوا المتهمَين يجريان فرتَّب الضابط طريقة ضبطهما ووزَّع رجاله حتى سدُّوا عليهما المسالك وتبودَلت الأعيرة النارية أثناء ذلك بين أفراد القوة وبين أحد المتهمَين الذين كان لا يزال مُحتفظًا بمسدسه وهو المتهم الثاني، كما ألقى المتهم الأول قنبلة أخرى وهي الثالثة نحو رجال القوة ولكنها لم تنفجر لسقوطها بين الرمال.
ثم تَمكن الكونستابل ورجاله من ضبط المتهمَين، وقد فتشهما فعثر في جيب بنطلون المتهم الثاني حسن عبد الحافظ على مِشط لمسدس ينطبق على المسدسَين المضبوطَين وبه سبع رصاصات غير مطلوقة من نوع وشكل الرصاصات التي أُطلقت من المسدسين على المجني عليه في مكان القتل، واستطاع المتهم الثاني في أثناء ذلك أن يُلقي بمسدسه في الصحراء غير أنه عُثر عليه عند البحث عنه على مَقربة من مكان ضبطه.
ثم عاد الكونستابل ومعه المتهمان في سيارة القسم، وفي طريق العودة أرشده بعض الشهود عن المنزل الذي أَلقى المتهم الأول المسدس في فنائه فذهب إليه والتقطه، كما قُدِّم إليه جِرابه الذي عُثر عليه في المنزل المجاور وعند وصوله إلى القسم أبلغ عن الحادث الجهات المختصة.
- الأدلة:
- ويستطرد سعادة النائب العمومي:
هذه الوقائع ثَبتت في التحقيق ثُبوتًا فوق مُتناول الشك، فشهد سعد السيد محمد عبد النبي، بأنه كان راكبًا دراجته في صباح يوم الحادث حوالي الساعة السابعة والنصف صباحًا إلى منزل صَبيّه ليُحضر منه مفتاح محله، ولما وصل إلى شارع رياض باشا سَمع عدة طلقات نارية؛ فاتجه نحو مصدر الصَّوت فرأى المتهمَين يُطلقان مُسدسيهما على المجني عليه الذي كان مُلقَى على الأرض وقت ذلك، ثم رآهما يَتجهان إلى شارع زكي فأسرع إلى القسم على دراجته للتبليغ عن الحادث بعد أن نبَّه أنور إبراهيم أبو العينين، والسيد محمد بطران، الشاهدين الثاني والثالث إلى تَعقُّب المتهمَين حتى يعود مع رجال البوليس.
كما شهد بأنه أبلغ الكونستابل فتحي عبد الحليم السيد علام أفندي بالحاث، وانتقل معه في السيارة مع نَفر من رجال البوليس إلى أن أدرَكوا المتهمَين في فرارهما والجمهور يُطاردهما إلى جهة الصحراء، واستمرَّت المُطاردة حتى تمكن رجال البوليس من ضبط المتهمَين.
ويَشهد بأنه رأى الكونستابل وهو يُخرج المِشط وبه رصاصات غير مطلوقة من جيب بنطلون المتهم الثاني عند تفتيشه بعد القبض عليه، وقد استعرف على المتهمَين دون تَردُّد عند عرضهما عليه بين آخرين.
ومن الإنصاف أن يُذكر لهذا الشاهد فضله، إذ لولا سرعته وحُسن تصرفه بالمبادرة إلى التبليغ، لمَا تهيأت للبوليس أسباب تَعقُّب الجانيَين وضبطهما مُتلبسَين بعد أن انطلقا إلى الصحراء وانفرجَت أمامهما مَسالك الهرَب.
وقد جاءت شهادة كل من أنور إبراهيم أبو العينين، والسيد محمد بطران مُطابقة لأقوال الشاهد السابق جُملة وتفصيلاً، وهما من جمهور المطاردِين للمتهمَين من مكان القتل حتى مكان الضبط.
وشهد إبراهيم علي عبد الرحمن، بأنه كان واقفًا في صبيحة يوم الحادث أمام مَعمل والده رقم 9 الكائن بشارع رياض على مسافة قريبة من مكان الحادث فشاهَد المتهمَين يَمران أمام المحل مُتجهَين نحو منزل المجني عليه والأول يرتدي مِعطفًا أسود، والثاني مِعطفًا أصفر، وكان الأخير في مَشيته يُحرِّك كتفيه بصفة مستمرة وعلى صورة استرعَت انتباهه، وبعد مُرورهما بقليل سَمع صوت مقذوفات نارية؛ فاتجه ببصره نحو مَصدرها؛ فوجد هذين المتهمَين يُسددان مُسدسيهما نحو المجني عليه ويُطلقان عليه النار، ورأى المجني عليه يَسقط على الأرض، كما رأى المتهمَين يلوذان بالفرار متجهَين إلى شارع زكي فتتبعهما هو ونفَر من الأهالي بالصياح حتى وصلا إلى مستشفى المُستعصية وهناك خلعَا مِعطفيهما وألقياهما على الأرض كما شهد برؤيتهما يُلقيان القنابل على المطارديِن إلى أن تمكن رجال البوليس من ضبطهما، وقد استعرف هذا الشاهد على المتهمَين عندما عُرضا عليه بين آخرين.
وقد شاءت الطبيعة أن تُشارك في إقامة الدليل على صحة رواية هذا الشاهد، فبينما يُنكر المتهم الثاني واقعة مُروره هو وزميله من ذلك الشارع مُتجهَين إلى مكان القتل، إذا بالطبيعة تسُوق دليلها مُؤيدة رواية الشاهد وكاشِفة عن كذب المتهم فتبدُر منه حركة كتفيْه المُميَّزة الخاصة أمامنا في أثناء التحقيق، فنسأله عنها فيَعترف غير مُدرك قدْر ما ساهمَت تلك الحركة في تدعيم شهادة الشاهد وكأنها شَهدت عليه كتفاه بما عمل.
وشهد علي عبد الرحمن النجار والد ذلك الشاهد بواقعة القتل في ذاتها، وأنه رأى المتهمَين يَفران من مكان الحادث إلى شارع زكي باشا ومنه إلى شارع إبراهيم باشا، حيث سَمع انفجار قنبلة فعاد إلى محله، كما شهد بأن أحد المتهمَين كان يلبس على رأسه طاقية، وقد تبين فيما بعد أن المتهم الأول يحتفظ بهذه الطاقية في جيبه إلى ما بعد القبض عليه، وإن ادعى أنه لا يعرف كيف وصلت إليه.
وشهد رمضان إمام حسانين جنايني حدائق التنظيم برؤيته المتهمَين خارجين يَجريان من شارع إبراهيم باشا وهو الشارع الذي ألقى فيه المتهم الأول القنبلة الأولى على المطاردِين، فاشترك في مطاردتهما ورأى أحدهما وهو يُلقي مُسدسًا داخل فناء أحد المنازل الذي دلت المعاينة على أنه منزل عثمان بدر أفندي، ولما وصل المتهمان إلى مستشفى الأمراض المستعصية ألقى أحدهما قنبلة ثانية، وانطلقا بعد ذلك إلى الصحراء وهناك ألقى أحدهما القنبلة الثالثة التي لم تنفجر.
وقد جاءت شهادة إسماعيل محمد السيد زميل الشاهد السابق مؤيدة لشهادة ذلك الشاهد.
وشهد صلاح سالم عبد المقصود بائع اليانصيب، بأنه سمع انفجار قنبلة وهو بمنزله القريب، فخرج فرأى المتهمين يجريان والجمهور يطاردهما فاشترك في المطاردة حتى وصل المتهمان إلى مستشفى الأمراض المستعصية، وهناك ألقى أحدهما قنبلة انفجرت واستمر في مطاردته إلى أن ضُبطا على الصورة المتقدم ذكرها، وأيده في ذلك على حسين محمد (الجنايني).
وشهد عثمان بدر أفندي، بأنه في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الحادث سمع صوت انفجار على مَقربة من منزله، وعند خروجه إلى فنائه رأى جِسما غريبًا يُلقى على الأرض فتبيَّنه فإذا هو مسدس فأبلغ القسم تليفونيًا، ولما خرج إلى الشارع تَقابل مع جاره مصطفى كامل عبد الجواد أفندي فأخبره أنه رأى شخصين يَفران والجمهور يُطاردهما وأنه تمكن من ضبط المتهم الثاني ثم تركه عندما هدَّده زميله المتهم الأول.
وشهد مصطفى كامل عبد الجواد أفندي المذكور، بأنه بينما كان بمنزله سَمع انفجارًا شديدًا ورأى جِرابًا من الجلد بفناء منزله؛ فخرج مُسرعًا ليتعرَّف الخبر؛ فشاهد شخصين يجريان وكان أحدهما يلبس معِطفًا أصفر اللون والثاني يلبس مِعطفًا قاتمًا يطاردهما جمهرة من الناس مُستغيثَين طالبَين القبض عليهما فأمسكَ بالمتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ الذي كان يلبس المعطف الأصفر فهدَّده المتهم الأول بإبداء حركة تدل على أنه سَيستعمل مسدسه إذا هو لم يُطلق المتهم الثاني فاضطرَّ لتركه، واستمرَّ المتهمان في فرارهما نحو مستشفى الأمراض المستعصية والجمهور في أثرهما، وعلم بعد ذلك أن هذين الشخصين قَتلا المجني عليه، وقدَّم الجراب للكونستابل فتحي عبد الحليم السيد علام أفندي بعد عودته من الصحراء ومعه المتهمان مقبوضًا عليهما.
وشهد الكونستابل فتحي عبد الحليم السيد علام أفندي المذكور بأنه في حوالي الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الحادث حضر الشاهد الأول سعد السيد محمد عبد النبي إلى القسم على دراجة، وأبلغه بأن شخصَين قتلا الخازندار بك، فقام الشاهد من فوره بسيارة القسم ومعه الُمبلِّغ وبعض الجنود ورجال البوليس الملَكي قاصدين المكان الذي أرشد عنه المُبلِّغ وهو مكان الجريمة، ومن هناك أخذ يَستفسر من المارة عن الطريق الذي سلكه الجانيان في فرارهما حتى وصل منطقة الصحراء، وهناك شاهد المتهمَين يجريان والجمهور يطاردهما، فعمل على ضبطهما بتوزيع رجال قوته بكيفية استطاع معها هو ورجاله القبض عليهما، وذلك بعد تبادل الأعيرة النارية بين رجاله وبين المتهمَين، وبعد أن ألقى المتهم الأول قنبلة لم تنفجر، وقد فتشهما على أثر ضبطهما فعثَر مع المتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ على مِشط لمسدس به سبع رصاصات غير مطلوقة بجيب بنطلونه الخلفي، وفي طريق عودته إلى القسم علم بأن أحد المتهمين ألقى مسدسًا في منزل عثمان بدر أفندي فانتقل إلى ذلك المنزل والتقط المسدس من فنائه، وعند ذلك حضر مصطفى كامل عبد الجواد أفندي وسَلَّمَ إليه جراب المسدس الذي عَثر عليه في منزله، كما التقط الشاهد غِطاء قنبلة عَثر عليها بشارع إبراهيم باشا قريبًا من مكان الانفجار، وقد أيدَّ الشاهد في روايته جميع رجال القوة الذين كانوا يرافقونه في هذه المهمة.
وشهد أحمد مراد الشيتي أفندي وهو طالب بكلية الزراعة أنه يعرف المتهم الأول محمود سعيد زينهم لأنه يُمرِّنه على المصارعة في نادي الإخوان المسلمين بحلوان، وأنه قابَل المتهم من أسبوع سابق وهو في طريقه إلى مُتنزه الحياة، وكان مع المتهم وقتذاك شخص آخر أقصَر منه قامة لم يتحقق من شخصه (ولعله المتهم الثاني، فهو أقصر قامة من المتهم الأول) والذي اعترف في التحقيق بأنه حضر إلى حلوان من أسبوع وادعى أنه قضى يومه في مُتنزَّه الحياة.
وشهد حمَّاد عبد النعيم، ومحمد علي عمر، من قوة رجال الهجَّانة بأنهما كلُفا بالبحث في المكان الذي انتهى إليه المتهمان في فرارهما داخل الصحراء عن المسدس الذي كان مع المتهم الثاني وأَلقَى به قُبيل ضبطه، فأخذا في تَعقُّب آثار أقدام المتهمَين إلى أن عَثرا على المسدس في مكان قريب من مكان ضبطهما، وتبين من فحصه أنه أحد المسدسين المستعملين في الجريمة.
وقد ثبت من تقارير الكشف الطبي والصفة التشريحية، أن المجني عليه أُصيب بسِت رصاصات أُطلقت عليه من طبنجتين ماركة "بريتَّا" ذات السرعة العالية مثل المسدسين المضبوطين، وأن ثلاثة من هذه المقذوفات أُطلقت عليه أثناء مسيره، وثلاثة أخرى أُطلقت عليه من الخلف، اثنان منها أثناء سقوطه، والثالث أُطلق عليه وهو مُلقَى على الأرض، أما المقذوفات الباقية من الأربعة عشر مَقذوفًا التي أُطلقت عليه فلم تُصبه، وإنما شوهدت الخدوش التي أحدثتها في الأرض حول مكان سقوط المجني عليه، وثبت أن وفاته نتيجة الصدمة العصبية والنزيف الناشئ عن تَمزق القلب والكبد من إصابته بتلك المقذوفات، وكان إطلاقها على مسافة أكثر من متر وقد تصل إلى مترين أو ثلاثة على الأكثر، كما ثَبت أنَّ الطبنجَتين المضبوطتين ماركة "بريتَّا" اشتُم منها رائحة البارود، وتبين من فحصهما أنَّ بهما ما يدلُ على استعمالهما، وأنهما أُطلقا في وقت يتفق وتاريخ الحادث، وأن الأظرف الفارغة التي وُجدت بمكان الحادث هي من عيار الطبنجَتين المضبوطتَين ومن عيار الرصاص المستخرج من الجثة وقد اشتُمّ منها جميعًا رائحة البارود، وأن المِشط الذي ضُبط بجيب المتهم الثاني يمكن تركيبه في الطبنجتين، وأن المقذوفات غير المَطلوقة التي وُجدت به هي من نوع وعيار الأظرف الفارغة التي وُجدت بمحل الحادث ومن نوع وعيار الرصاص المستخرج من الجثة.
تلك هي الوقائع التي أثبتها التحقيق، والأدلة التي قامت عليها وأيدتها شهادة الشهود، وقد جاءت في مجموعها مُتَّسقة متماسكة مُحكمة الأطراف لا خُلفَ فيها ولا انفراج، رواها الشهود على طبيعتها في غير زَيغ ولا مبالغة ولا انحراف.
- المعاينة:
ثم جاءت المعاينة قاطعة في صحة شهادتهم، ولقد عَنيَتْ هذه المعاينة بتصوير واقعة القتل كما شاهدها الشهود وقت وقوعها، وتَتبُّع سير المتهمَين في فرارهما عقب آخر رصاصة انطلقت من مسدسيهما وهما يَبرحَان مكان الجريمة في طريق هربهما الذي رسماه لنفسيهما من مكان إلى مكان، ومن شارع إلى شارع، حتى قفزا إلى فناء مستشفى الأمراض المُستعصية الذي يقع على أبواب الصحراء، ثم إلى الصحراء نفسها إلى أن ضُبطا وهما يَحملان ما تَبقى معهما من أدوات القتل.
وقد كشفَت المعاينة فوق ذلك في كل خطوة من خطواتها من أدلة مادية تَبعث في النفس اليقين وقوة الإيمان بصحة أقوال هؤلاء الشهود، وصِدق ما رَوَوا من أنَّ المتهمَين هما القاتلان، وأنهما بذاتهما تحرَّكا تحت بصرهم من مكان القتل بعد أن قارفاه حتى الصحراء حيث ضُبطا مُخلِّفَين وراءهما على طول طريق الهرَب آثار تدل على مرورهما، وهي آثار وثيقة الاتصال بالجناية وأدوات ارتكابها.
فهذه بقايا القنبلة الأولى التي انفجرت في شارع إبراهيم باشا، وهو أول شارع دخله المتهمان والشهود يُطاردونهما، والحُفرة التي أحدثها الانفجار في أرض الشارع مكان إلقائها.
وذلك المسدس وجرابه اللذان عُثر عليهما بفناءي منزلين متجاورين على طريق هربهما، وهذا المِعطف القائم الذي خلَّفهُ المتهم الأول في فناء مستشفى الأمراض المستعصية وقد عُثر عليه دون المعطف الثاني الذي أخفته يد عَثرت عليه ولم تشأ أن تُقدمه.
وبقايا القنبلة الثانية التي عُثر عليها في فناء ذلك المستشفى، وجسم القنبلة الثالثة التي ألقاها المتهم الأول في الصحراء ولم تنفجر، وأخيرًا ذلك المسدس الذي عُثر عليه في الصحراء بعد أن ألقَى به المتهم الثاني، وقد ثَبت من فحصه وفحص المسدس الأول أنهما هما المستعملان من غير شك في ارتكاب القتل، هذا بالإضافة إلى المشط الذي ضُبط بجيب المتهم الثاني، وسبع رصاصات غير مطلوقة دالة بشكلها ومقاسها وما نُقش عليها من علامات أنها من نوع الرصاصات التي أُطلقت على المجني عليه، وأن المشط مما يستعمل في المسدسين.
- مناقشة التلبس وانكار المتهمين:
وما أظن أن جريمة قامت على مرتكبها الأدلة مادية وغير مادية كما قامت في هذه القضية، وما انطبق وصف التلبس بصُوَرِه الحقيقية والاعتبارية كما انطبق على هذه الجناية، فقد شُوهد المتهمان حال ارتكابها، كما شُوهدا عقب ارتكابها يَفرَّان تتبعهُما العامة مع الصياح حاملَين آلات وأسلحة القتل التي استعملاها في ارتكاب الجناية، وهي الصور التي حددتها المادة الثامنة من قانون تحقيق الجنايات.
والقضية وهي عامرة بكل هذه الأدلة، فهي غَنية عن اعتراف المتهمَين بالجريمة، فإن الأدلة المادية لا تُحابي ولا يُرد عليها بالإنكار، بل هي قائمة بكيانها المادي المحسوس، لا ينال منها انكار المتهمَين ولا يُضعف من قوتها.
- تناقض المتهمَين في أقوالهما:
شاء المتهمان أن يُنكرا الجريمة اعتقادًا منهما بأن ذلك سَيباعد بينهما وبينها، وشاءت الأقدار أن يجيء دفاعهما على نحو هو في ذاته قرينة قوية تبلغ مرتبة الدليل في إثبات التهمة عليهما، ويقيني أنه لسرعة إجراءات الضبط وسلامة الاتجاه في سير التحقيق، والتعاون الذي بدا من شهود الإثبات، وما لاقى من سُرعة تلبية رجال البوليس وعلى رأسهم الكونستابل فتحي عبد العليم أفندي بمجرد تبليغه البلاغ، وما أبداه من نشاط مشكور في ضبط المتهمَين قبل أن يتمكنَّا من الإفلات في جَوف الصحراء، كان لكل ذلك فضله في تضييق الخناق عليهما وإحاطتهما بسياج من الأدلة المتراصة المتماسكة، لم يستطع معه المتهمان تدبير دفاع فلجآ إلى الإنكار المجرد، ولم يتنبها إلى ما يوحي به مكان قضائهما ليلة الجريمة، ولا العلة المقبولة لحضورهما إلى مدينة حلوان في الصباح المبكر في يوم الحادث، ولا كيفية اجتماعهما إلى أن استقلا القطار إلى حلوان، فيقول المتهم الأول عند استجوابه أولا، إنه لم يذهب إلى مدرسته وهي مدرسة الصناعات الميكانيكية ببولاق في اليوم السابق، بينما كان نائمًا في مُتنزه على شاطئ النيل، وإذا بالمتهم الثاني يحضر إليه ويعرض عليه أن يَسير معه، وفي أثناء سيرهما أحسَّ المتهم الأول بالتَّعب بعد اختراقهما عدة شوارع فأدخله المتهم الثاني في منزل لا يعرفه وهناك قضيا الليل به، وفي الصباح الباكر عند استيقاظهما اتفق معه المتهم الثاني على الذهاب إلى مدينة حلوان للتنزه بمنتزه الحياة المعروف بالحديقة اليابانية، وحضرا سائرَين على الأقدام إلى محيط باب اللوق، واستقلا منها القطار في الساعة السادسة أو السادسة والنصف صباحًا، وقال بأنه كان يرتدي مِعطفه القاتم، كما كان زميله حسن يرتدي مِعطفه الكاكي الأصفر، وقد أرشد بعد ذلك عن المنزل الذي قال إنه قضَي الليل به، فإذا به منزل المتهم الثاني ببندر الجيزة، والغريب أنه قال بأنه لا يعرفه فضلاً عن أن المتهم الثاني قال بأنه تَردَّد عليه فيه، بينما يُقرر المتهم الثاني أنه تَقابل مع المتهم الأول في الليلة السابقة بميدان الجيزة، واتفقا على الذهاب إلى حلوان للتنزه ثم انفصلا وقَضى المتهم الثاني ليلته بمنزله، وفي الصباح الباكر تقابل مع المتهم الأول في نفس الميدان وركبا عربة الأومنبوس حتى وصلا إلى محطة باب اللوق واستقلا منها القطار إلى حلوان.
ولكن والدة هذا المتهم، أي المتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ قررت بأنها لم ترَ ولدها من صَبيحة اليوم السابق عند خروجها لزيارة ولد آخر لها بمصر الجديدة، ولما جاءت علمت من الطاهي أنور على بأنَّ ولدها حسن قد خرج من المنزل منذ الساعة الرابعة والربع بعد ظهر اليوم المذكور ولم يَعد إلى أن قُبض عليه.
وقد أيدها في هذه الرواية أنور علي، المذكور، ولكن المتهم أصرَّ على أنه لم يَبِت ليلته خارج المنزل رغم ما قاله زميله المتهم الأول ورغم ما شهدت به والدته وما قرره الطاهي الذي زاد على روايته أن مخدومه عندما خرج كان يحمل حقيبة بها بيجامته، ولا عبرة بعدول هذه الوالدة بعد ذلك عن أقوالها وما قررته أخيرًا من أن ولدها قضى ليلة الحادث بالمنزل.
ولم يقتصر الأمر على هذا الخلاف في الرواية، بل قام خلاف جوهري في روايتَي المتهمَين عن كيفية سيرهما بعد أن غادرا القطار بمحطة حلوان وعبرا الكوبري الموصِّل إلى الجهة الشرقية في طريقهما إلى الحديقة اليابانية.
وما يَجدر ذكره في هذا المقام، أننا إذا سلَّمنا جَدلا بأنهما حضرا إلى حلوان في هذا الصباح المبكر بقصد التنزه بعد أن تخلف المتهم الأول في ذلك اليوم عن مدرسته دون علمه أو سبب، فإن من يريد الذهاب إلى الحديقة المشار إليها يسير في شارع حسين كامل باشا الموصِّل من الكوبري إلى باب الحديقة مباشرة دون حاجة إلى أن ينعطف في شوارع جانبية، ولكن الذي يقوله المتهم الأول ودَلَّ عليه في المعاينة هو أنهما سارا سويا في شارع حسين كامل باشا بضع خطوات ثم انحرفا إلى شارع حيدر من الجهة اليُمنى، ثم إلى شارع محمد سيد أحمد باشا المحاذي لشارع حسين كامل باشا، وبعد أن سارا قليلاً في ذلك الشارع تركه زميله حسن وسبقه في السير ودخل أحد الشوارع، وما سار قليلاً حتى سمع صوتًا وصفه بأنه صوت "جامد" فجرى يستطلع الخبَر؛ فشاهد زميله يَخرُج من شارع قاطع لشارع محمد سيد أحمد باشا أشار إليه في المعاينة، وتبين أنه شارع رياض الذي وقعَت به حادثة القتل، وقال بأن الجمهور كان يتتبعه بالصياح ويُلقي الأحجار عليه؛ فاضطر هو الآخر أن يجري، وتابعهما الجمهور إلى أن وصلا إلى سور المستشفى وإلى أن ضُبطا في الصحراء، واعترف بأنه خلع مِعطفه عندما قفز سور ذلك المستشفى، وصوتٌ ينطلق من شارع وقعت فيه الجريمة وقد قُورفت بأعيرة نارية تُدوي، ثم خرج شخص يجري من ذلك الشارع والناس تتابعه بالصياح وإلقاء الأحجار.
في ذلك إقرار صريح بأن لهذا الشخص الذي يجري صلة بهذا الصوت الذي كان يُدوي، وإن حاوَل قائل هذا القول أن يُباعد بين نفسه وبين الجريمة في الوقت الذي يقول فيه المتهم الثاني بأنه لم ينفصل مُطلقًا عن زميله المتهم الأول، من وقت أن هبَطا من الكوبري إلى أن ضُبطا، ولقد دلَّ المتهم الثاني على شوارع غير الشوارع التي قال عنها المتهم الأول في روايته قبل أن يَصلا إلى مستشفى الأمراض المستعصية كما هو ثابت من مَحاضر المعاينات، عندما طُلب إلى كل منهما مُستقلاً أن يُرشد عن طريق سيرهما إلى أن ضُبطا.
هل هذا دفاع على ما فيه من خُلف واضطراب وتَباين، بل مع ما فيه من إقرار ضِمني من أحد المتهمين بالصلة المباشرة بالجريمة، يمكن أن يُزعزع من شهادة الشهود وما تأيَّدت به من أدلة مادية على أن المتهمَين قد قارفا جريمة القتل معًا وهربا يحملان ما بقي معهما من أدوات القتل إلى أن ضُبطا متلبسَين؟ يقيني أنه دفاع العاجز عن مواجهة الأدلة الدامغة التي تُحيط به وتُلازمه من وقت أن دبَّر جريمته إلى أن جريمته إلى أن أتمَّ تنفيذها.
- أركان جريمة القتل متوفرة:
أركان جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد متوافرة، فالمتهمان فاعلان أصليان قد قارف كل منهما الجريمة بثقة، بأن أطلق النار من مسدسه على المجني عليه، وذلك ثابت من شهادة شهود الرؤية كما تقدَّم بيانه تفصيلاً، ومن ضَبط مسدسَين في طريق هروب المتهمَين، ثبت من فحصهما أنهما استُعملا في وقت يُعاصر وقت الجريمة، وأنَّ الرصاصات التي استُخرجت من جثة المجني عليه هي من رصاصات تُستعمل في هذين المسدسين، كما ثبت من تقرير الطبيب الشرعي أن في بعض تلك الرصاصات اختلافًا في العلامات عن البعض الآخر، وأن منها ما يُشابه ما أُطلق من إحدى الطبنجتَين المضبوطتين، ومنها ما يُشابه ما أُطلق من الأخرى، كما اتَّضح من فَحص الأظرُف الفارغة التي وُجدت بمحل الحادث وجود خدوش تختلف عن بعضها أيضا، مما يُشير إلى إطلاقهما من آلتين مختلفتَين، ويُستخلص منه أن الضارب للقتيل هو أكثر من شخص واحد، هذا إلى أنَّ ما ضُبط في محل الحادثة من الأظرف الفارغة بَلغ أربعة عشر ظرفًا هي جملة ما يُمكن أن يحمله المسدسان المضبوطان من الطلقات.
- ثبوت نية القتل:
نية القتل ثابتة على المتهمَين ثبوتًا لا شَك فيه، من استعمالهما مسدسَين محشوَّين بالرصاص في مقارفة الجريمة، وفي إطلاقهما على المجني عليه عدة طلقات وعلى صورة متتابعة بعضها وُجِّه إلى الصدر والبطن وهما من المَقاتل فمزَّقت القلب والكبد.
- توافر ظرفا سبق الإصرار والترصد:
ظرفا سبق الإصرار والترصد مُتوافران كذلك، من ظروف الحادث ومن تَبْييت نية المتهمَين على ارتكاب جناية القتل، ومن إعدادهما مسدسَين قاتليَن لهذا الغرض، ومن ضَبط جدول مواعيد قطارات حلوان محل إقامة المجني عليه في جيب المتهم الثاني، ومن ترددهما على هذه المدينة من أسبوع سابق طِبقًا لما رَواه المتهمان في التحقيق كما سبَق بيانه، ثم حضورهما مُبكرَين يوم الحادث قبل الميعاد الذي اعتاد المجني عليه الخروج فيه من منزله كل صباح ليذهب إلى مقر عمله، ومن تَرصُّدهما له في طريق المحطة حتى إذا سار بضع خطوات من باب منزله سدَّدا إليه مسدسيهما وأطلقا عليه النار حتى أجهزا عليه.
- جريمة تعريض حياة الناس عَمدا للخطر:
وجريمة تعريض حياة الناس عمدًا للخطر بإلقاء قنابل متوافرة أيضا من حمل المتهمين لهذه القنابل المتفجرة وإلقائها نحو المطاردِين لهما بعد ارتكاب جريمة القتل العمد سالفة الذكر، وكان الخطر محققا إذ أنها ألقيت نحوهم وسقطت على مقربة منهم.
- ادعاء الدفاع جنون المتهمين:
هذه هي ماديات القضية وحقائقها، ماديات ليس في الطاقة ردها، وحقائق لا سبيل إلى إنكارها، والدفاع مَعذورٌ العذر كله في إشفاقه من مواجهة هذه الماديات، مَعذورٌ في أن يَتجنَّب ما استطاع الاحتكام إلى دلالتها والتحدث بمنطقها، مَعذورٌ في أن يُحاول انتزاع المناقشة من قبضة الحقائق وجرِّها إلى ميادين التخمين والافتراض.
فكَّر الدفاع أن يتخلص من ماديات الدعوى وحقائقها بالكلام في شخصيات المتهمين، فَعلَّق آماله على الادعاء بجنونهما، فلما انهارت هذه الآمال تحت وطأة تقرير مدير عام مصلحة الأمراض العقلية ووكيل وزارة العدل للطب الشرعي، شَرَع الدفاع يَتشبَّث بضرورة الكشف بالأشعة على رأس المتهم الثاني، فلما أُجيب إلى طلبه لم يأت ذلك بمطلوبه ولم يحقق مَرامه؛ فتركَ تلك الدائرة المحدودة المعلومة، دائرة الأمراض العقلية التي قال كبار أطبائنا كلمتهم فيها بشأن المتهمَين، تركَ دائرة الأمراض العقلية إلى الميدان الواسع الذي لا حُدود له ولا تُخوم، ميدان الانحرافات والعُقد والمُركبَات النفسية، ولهذا دعا الدفاع شهود نفي لتأييد هذه الخطة الجديدة، فسمعنا فذلكة أو مقدمة في العقل الباطن والعقل الظاهر والعُقد النفسية.
وسمِعنا بعد هذه الفذلكة أو المقدمة مباشرة شاهدًا يشهد بأن هذا المتهم أو ذاك كان ملحوظًا عليه الغَباء، وآخر يشهد بأن مُتهمًا تَردَّد على طبيب نفساني، وثالثًا بأن أحد المتهمين وطِئت قدمه قِشرة موز فسقط على الأرض في سنة 1936 وأن قشرة الموز هذه هي المسئولة عن قتل الخازندار بك في سنة 1948.
لم يُثر الدفاع يا حضرات المستشارين مسألة جنون المتهمَين في التحقيق، وأثارها لأول مرة حضرة الأستاذ فتحي رضوان في الإحالة حين طلب فحص قُوى المتهم الأول العقلية، وقد أمَرت محكمتكم الموقرة في أول جلسة نُظرت فيها القضية بإجراء هذا الفحص على المتهمِين جميعًا، وندبَت لذلك حضرَتيْ مدير عام مصلحة الطب الشرعي ومصلحة الأمراض العقلية، وقد قاما بذلك الفحص وقدَّما تقريرهما، ولقد ذَكَر الخبيران عن المتهم الأول محمود سعيد زينهم أنه كان يَتعمد التظاهر بالجنون، وانتهى الخبيران إلى نتيجة مؤداها، أنه خالٍ من المرض العقلي بأنواعه، وأنه يَعي ما يقول ويَفعل، وأن ظروف ووقائع الحادثة كما قررها الشهود في التحقيق بما فيها سلوك هذا المتهم عقب الحادث مباشرة ولحين القبض عليه، لا تتفق مع أية إصابة بالمرض العقلي، بل إن هذا السلوك يُشير إلى يَقظة المذكور حينذاك ومثابرته وشدة انتباهه وسرعة خاطره وسِعة حيلته مما يدل جميعه على سلامة عقله، ولذلك يتعين اعتبار هذا المتهم مَسئولا عن أعماله وقت الحادث موضوع القضية.
وبالنسبة للمتهم الثاني حسن محمد عبد الحافظ، فقد ثبت من التقرير أنه لم يُشاهَد عليه أثناء فحصه ولا من الاطلاع على أوراق القضية ما يُشير إلى إصابته بالمرض العقلي، ولذلك فهو خالٍ من المرض ويَعي ما يقول ويفعل ويُعتبر مسئولاً عن أعماله، وأن الهزَّات الخفيفة التي تُشاهَد أحيانًا في كتفيه هي من نوع التقلصات العضلية اللاإرادية، وهي حالة عصبية توجد عند الكثير من الأشخاص العاديين، ولا تأثير لها على الحالة العقلية لهذا المتهم.
ومع ذلك طلب الدفاع عن هذا المتهم من المحكمة الأمر بعمل أشعة على رأسه، فأجابته المحكمة وعملت الأشعة، وتبين من اطلاع حضرة الطبيب الأخصائي عليها وهو الدكتور مصطفى راغب بك، أنه لم يجد بجمجمة المتهم أي كسر قديم أو حديث، كما أن عظام الجمجمة خالية من أي تغيير مَرَضي.
- تعقيب على التقارير الطبية:
وإذا كنا قد خرجنا من هذا البحث بأن مسئولية المتهمين تامة، وأن قُواهما العقلية كاملة، خرجنا كذلك بنتيجة أخرى ليست أقل خطرًا من الأولى، نتيجة لا يكاد يَختلف عليها الدفاع والاتهام، هي أن المتهمَين من أسوأ الخَلق أخلاقًا وأقساهم قلبًا، وأشدُّهم غِلظة، وأنه لا يُمكن أن نجد في ماضيهما أو حاضرهما خيطًا من نور يصح أن يتعلق به حُسن ظَن في خير أو صلاح.
- خاتمة المرافعة:
لم يبقَ لي إلا أن أتوجَّه إلى حضراتكم بكلمة أخيرة، تَحرَّوا ما شِئتم وزنوا الأدلة بأدق الموازين، ولا تتركوا خَيطًا من شك إلا قطعتُموه باليقين ولا شُعاعًا من نور إلا تتَّبعوه حتى تَنتهوا إلى الحقيقة مؤمنين.
ستجدون أن الأدلة الدامغة قد تَجمَّعت على إدانة المتهمَين من كل جهة، وانهالت عليهما من كل فَج، يُمسك بعضها ببعض كالحلقات المُحكمَة حول رقابهما لا فِكاك لهما منها ولا خلاص.
ولستُ ألتمسُ بعد ذلك إلا أن تُبصِّروا بحُكمكم السَّديد عيونًا غشيتها الفتنة فلا تبُصر موضع الجِّد من هذا الأمر، وأن تَقرعوا بقضائكم الرادع آذانًا وقرَها الإغواء فلا يصل إليها صوت العقل ولا نداء الواجب ولا حُكم القانون.
إن دواعي التشديد وموجبات التغليظ على المتهمَين في كثرتها وتزاحمها وتراكمها تملأ جو القضية وتسُد آفاقها.
فالرَّوية الفاجرة الظاهرة في تبْييت الاغتيال، وفي الاستعدادات له بأدوات الحروب، وفي إحكام تنفيذه وتَخيُّر زمانه وميدانه، ثم الاستخفاف العَجيب بالأرواح الذي يَشهد به تبرُّع المتهمَين باغتيال المجني عليه وليس بينهما وبينه ضغينة شخصية، وحملِهما القنابل والقاؤهما إياها أكثر من مرَّة في وجه المطاردِين لهما من شهود الإثبات.
ثم ذلك الغدر الذي تَجلَّى في ترصُّد القتيل والتربُّص له في الصباح الباكر ساعة خروجه إلى عمله حيث أقامه الله حَكمًا بين عباده ليُقيم فيهم العدل بالقسط والميزان، والفتك به على خُطوات من داره وأطفاله، ثم الاسترسال في إطلاق النار عليه، هذا الاسترسال الذي بلغ حَد التمثيل بجسده الطاهر، والذي ينَطق بالتعطش للدم والشَّغف بسَفكه.
كل أولئك من شأنه ألا يدَع للرحمة مكانًا ولا للرأفة موضعًا أيا كان المجني عليه، وأيًا كان هدف القاتلَين، فكيف والمجني عليه قاضٍ من أكبر القضاة ومن أعظمهم مكانة وأوسعهم خبرة، وأوفرهم عِلمًا وهَيبة؟ وكيف؟ وليس لقَتلِه عِلَّة يُردّ إليها ويُرجع لها، اللهم إلا الضِّيق بقضائه والضَّجَر من قيامه بواجبه.
إنَّ روحه الطاهرة لترِفُّ علينا من عليائها مُشهدَة الحَكم العدل بأنه لم يُجر قضاءً قَط إلا بما وجَب، ولم يَتصل بغير الحق بسبب، شاكية للمنتقم الجبَّار ما جُوزي به من عُقوق وجُحود وكُفران.
- حضرات المستشارين:
لقد كان الخازندار بك دائما رجل قضاء، ولم يكن قَط رجل سياسة، لقد أعطى العدالة كل شيءٍ ولم يَبخل عليها بشيء، وقد بخل على السياسة بكل شيءٍ ولم يَمنحها شيئًا، لم يمنحها شيئًا تلِجُ منه إلى مجلسه الوقور، أو تَثِب عليه إلى ذمته العالية الطاهرة.
لقد أقصَى السياسة وخصوماتها وصراعها وشكوكها وإفكها عن نفسه وعن مجلسه في حياته، وألحَّ في إقصائها واشتدَّ في الابتعاد عنها وعدم الالتفات اليها، وكأنه استوجَب بذلك منها الثأر منه، فتولَّى هذا الثأر البَشع هذان المتهمان.
- حضرات المستشارين:
إن كلمة القضاء مَسموعة مُطاعة، لأن الناس تَعوَّدوا فيها الحَيدة واعتادوا منها الوقار، واعتقدوا عندها الصَّواب، ولأنهم درجوا على أن يرَوا القاضي يَسمُو بنفسه وبمجلسه وبرسالته عن كل ما يَختصم عليه الناس، ويَتناحر بسببه الناس ويَضعف من أجله الناس، ويَسقط في سبيله الناس من عَرَض زائل، أو جاهٍ زائف أو سُلطان مَهما طالت حياته قصيرة الأجل.
ألا إنَّ شباب هذه الأيام يُعاني مَوجات من القلق زُلزلت بها القيم واضطربت لها الموازين، والتوَى معها التفكير وفسَد الذَّوق.
ألا إنَّ القضاء مَثابةً للناس وأمنْ، هو حِصن الأمة الحصين وكفيل الحريات والحقوق، إليه تتجه الأنظار إذا وقعت على فساد، وعليه يعتمد أفراد الشعب حين يَنتابهم حَيفٌ أو يَتهددهم خَطر.
هو البقية التي يَجب أن تَسْلم حين يَستشري الفساد، لتكون منها صخرة النجاة وسفينة الإنقاذ، فمَن يَكسر شوكته أو يُضعف سلطانه يُصيب الأمة في حاضرها ومُستقبلها بأفدح الشرور والكوارث.
فلتكن كلمتكم يا حضرات المستشارين في هذه الدعوى كلمة الخَلاص من هذا القلق، ورسالة الطُمأنينة في هذا الاضطراب، ومَنار الهداية الذي به يَعتدل الطريق بعد انحناء، ويَستقيم به بعد التواء.
قولوا كلمتكم يا حضرات المستشارين؛ ليَطمئن القُضاة على حُريتهم واستقلالهم، وليَطمئن الشعب على حُريته هو واستقلاله باطمئنانه على استقلال القضاء وحريته.
قولوها كلمة قاطعة مانعة تُزيل ظل الإرهاب عن الضمائر، فلا يَشعُرَنَّ قاضٍ بعدها بأنه ينبغي أن يَرى طريقه إلى الحكم في القضايا من فوَّهة مسدس.
- الحكم:
قضت محكمة جنايات مصر المشكَّلة علنًا من حضرة صاحب العزة عبد الفتاح البشري بك، وعضوية صاحبَي العزة محمد الأحمدي الظواهري بك، وسليمان أباظة بك، وحضور صاحب العزة محمود منصور بك النائب العمومي، وسيد سليمان أفندي كاتب المحكمة، بجلسة 22 نوفمبر 1948 الموافق 21 من المحرم سنة 1368 بمعاقبة كل من محمود سعيد زينهم، وحسن محمد عبد الحافظ، بالسَّجن المؤبد وألزمتهما بالتعويض المدني المؤقت.
- المحكمة تسترشد في حكمها بما رَدَّ به الخازندار في أحكامه على ادعاء أن القتل جهاد في سبيل الله:
من الدفوع التي أبداها قاتِلا الخازندار - على نحو ما جاء بالحكم - أن قَتله يُعدُّ دفاعًا شرعيًا؛ إذ كان يُصرِّح في جلساته بشرعية وجود الإنجليز في مصر احترامًا للمعاهدات.
استرشدَت المحكمة بما رَدَّ به المرحوم الخازندار نفسه على مثل ذات الدفع فقالت: "إن المرحوم الخازندار رَدَّ على هذا الدفع بأن المادة 7 من قانون تحقيق الجنايات (التي تُقابل الآن المادة 60 عقوبات) خاصة بالحقوق الشخصية المقرَّرة في الشريعة وليس منها الجهاد، وأن آيات القِتال التي استند إليها الدفاع لا تَنطبق على صورة الدعوى، إذ أن القتال مَفروض على الجماعة أو على الفرد من الجماعة إذا أعلن الإمام الجهاد، فهو ليس حقًا شخصيًا للأفراد، فالشريعة السَّمحاء تُفرِّق بين القتال الذي أمرَ به الله المسلمين بشروطه وقيوده، وبين القتل والاغتيال الذي يَتولاه الأفراد، لأن اغتيال الأفراد أيما كانت صفاتهم وجنسياتهم هو الغدر والقتل اللذان لا يبُاحان أبدًا، والقول بأن هذا جِهاد خطأ مَحض وتَجنِّ على الشريعة السَمحاء".
وأضافت محكمة قَتلَة الخازندا: بأن ما جرَى في صفحات بعض الصُّحف التي نعَتَت بعض المتهمين بالقتل بالأبطال، وترديده أيضًا في ساحات المحاكم، من شأنه أن يُدخل في رَوع صِغار العقول والأحلام وهم كُثر، فيَستبيحون لأنفسهم ارتكاب الجنايات على من يَتوهمون أنهم من أعداء البلاد، أو المُشايعين لأعداء البلاد انتقامًا منهم، وهذه هي الفوضَى السافرة التي تأكل اليابس والأخضر ولا تُبقى ولا تَذَر.
وأضافت المحكمة: وهذا هو مَقتل المرحوم الخازندار بك، لقد كان نتيجة لهذه العاصفة الهوجاء، ونتيجة للاعتقاد الخاطئ بأنه المسئول عن حُكم الدائرة التي نَظرَت الدعوى، وبأنه شديدٌ في أحكامه على مَن سَمُّوا أنفسهم بالمجاهدين. وقد أُفهما من قبل أن قتل الخازندار انتقامًا منه واسترهابًا للقضاة جميعًا ليَنزل على حُكم هَواهُم، وهُم في ذلك واهمون، فقد لزم القاضي الناس مُذ كان على ظهر الأرض اثنان يَختصمان، ولبِثَ فيهم أمدًا طويلاً حتى نزلت الشرائع وسُنَّت القوانين، فانتُدبَ حَكمًا وليس بخَصم ولا بمُنتقم، قولُه مُعلنٌ مَسمُوع، وصوتُه فوق الأصوات مَرفوع، فهو الرِّفعة والحَيدة، والعِلم وحُسن البَصر، وإليه تُرجع أمور الناس جميعًا، يَجتهد فيها بعلمه ورأيه وسلامة تقديره، وإنْ أخطأ فقد كفَل القانون رد خَطئه، وإن أصابَ فلله الحمد والمِنَّة، إليه سبحانه يُرجَع الفضل كله، لا يَبتغي من أحدٍ جَزاءً ولا شُكورا، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمُوكَ فيما شَجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويُسلموا تسليما" صدق الله العظيم.
ـ ملاحظة: لم نعثر بين طيَّات ملف تحقيقات القضية على مرافعات الدفاع عن المتهمين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى