أمال أرأيا - رقصة صباحية في المنتزة!

إستيقظت خيرية في الصباح الباكر نشيطة كعادتها، إرتدت ملابسها الرياضية في عجلة، وخرجت بعد ان ألقت نظرة خاطفة على إنعكاس صورتها في مرآة الحمام المشقوقة، ثم أشاحت بنظرها عنها لا مبالية. شعرت بقشعريرة قوية تسري في جسدها بمجرد فتح باب شقتها الخارجي، فالهواء ما زال بارداً في هذا الوقت المبكر، رغم دخول فصل الربيع. خرجت مسرعة وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح، قبل أن تتسرب البرودة الى الداخل. أخذت تلقي نظرة متفحصة على امتداد الطريق الذي تقف في وسطه، وهي تعيد إحكام قفل سوستة جاكيتها الرياضي، وتتاكد من ثبوت قبعته فوق رأسها، ثم إنطلقت راكضة في إتجاة المنتزة العام الذي يقع على بعد شارعين من مسكنها.
وصلت إلى مدخل المنتزة، وبدأت تقوم ببعض حركات الإحماء السريعة.
"هل أركض معك"؟
إلتفتت خيرية متسائلة الى ناحية مصدر الصوت، فوجدت شابين بجسدين رياضيين يجلسان فوق صخرة ضخمة، بجوار مدخل المنتزة وينظران إليها. كان أحدهما يبتسم ببلاهة، فخمنت: " أنه بالتأكيد صاحب الصوت العابث".
"لما لا، انها بلاد حرة". ردت وهي تحرك كتفيها دون إكتراث، ثم إنطلقت راكضة.
لاحظت أنه إبتسم في وجه الشاب الذي يجلس بجواره، وبدأ يركض محاولا اللحاق بها. لم تنتظره، أو تقلل من سرعتها، أصبح بمحازتها.
"ألم تخافي مني"؟ سألها في همس.
"ولماذا أخاف، هل كان علي ذلك"؟! سألته بدورها وحاجبيها مرفوعين في تعجب.
"في العادة يخاف الآخريات مني". قالها مؤكدا.
"لست الآخريات، ولكن من تعني بالآخريات"؟ سألته وهي تنظر إليه من تحت رموشي كمن تتوقع الإجابة.
"النساء... مثلك". قالها متردداً وهو يشير إليها برأسه.
"النساء مثلي!، أتعني الأفريقيات"؟ بدأت الحدة في صوت خيرية واضحة، وكانت على إستعداد لخوض معركة بالأيدي إذا تطلب الأمر ذلك.
"لا..لاااا." أخذ يهز رأسه يمياً وشمالاً محاولاً تبرير كلامه.
"أةةة فهمت، تعني السوداوات"! قالتها وهي تلقي عليه بنظرة سريعة مشفقة، وخيطاً رفيعاً من الإبتسامة الساخرة يظهر بين شفتيها المزمومتين.
"نعم، ولكنني أظن بأنك مختلفة". بادلها الإبتسامة وهو يركض الى الخلف، ووجهه في مواجهتها، فقد كان يتباهى. لوت فمها وهي تحيد بنظرها عنه.
"ولماذا هذا الظن، لأنني سمحت لك بالركض في بلدك، فوق أرضك وداخل منتزهك"؟ بدت عليها التسليه، ولم تستطع حبس ضحكاتها، فأطلقتها بصوت عال جعل بعض الراكضين يلتفتون إليهما.
"نعم، ودون ان تترددي". قالها وهو يحرك رأسه لأعلى وأسفل عدة مرات. صمت بعد أن فهم مغزى كلاميها، فاستدرك ضاحكا، وهو يعود الى مواجهة الطريق أمامه: "قصدت بأنك سمحتي لي بالركض معك بكل بساطة".
"هذا لا يعني بأنني لست خائفة". قالت خيرية وشفتيها متجهمتين.
"ولكن لا يبدو عليك الخوف"؟ ظهرت على جانب وجهه الذي يواجهها الحيرة.
"ومع ذلك هذا لا يعني بأنني لا أشعر بالإرتياب من نوياك". قالت مؤكدة.
"مني.. أنا، هل أنتِ جادة"؟ تساءل وهو يشير بإصبعه الى صدره كمن تعرض للطمة قوية في الوجه.
"نعم! فعدم ظهور الخوف على وجهي، لا يعني بالضرورة ان داخلي بنفس الهدؤ واللامبالاة". قالتها وعينيها تنظران إليه مباشرة، ثم أعادت نظرها إلى موضع قدميها في اللحظة التي تعثرت فيها وكادت ان تسقط، لولا انه مد احدى يديه بسرعة وأمسك بمعصمها الأيمن ثم سحبها للخلف بقوة، حتى كادت ان ترتمي بين ذراعيه. لقد أنقذها من السقوط! ظهر الإرتباك والخجل على وجه خيرية جليا، وشعرت بجرح مؤلم يصيب كبريائها.
قالت بصوت خافت، وهي منحنية الرأس: "شكراً لك"!
رد: "العفو"! ثم سالها بإهتمام، وهو يضع يده على كتفها: "هل انتِ بخير"؟
جفلت خيرية مبتعدة كمن لدغها عقرب، وهزت رأسها بنعم، وهي تعيد ترتيب ملابسها الرياضية بعصبية.
لم يفته ما كان يعتريها من مشاعر متناقضة، فقد كانت نبرة صوتها ووجهها يعكسان بكل وضوح المعركة الدائرة داخلها.
مد يده وإبتسامة واسعة تغطي وجهه: "بالمناسبة إسمي بأريش".
إبتسمت لثانية قائلة: "خيرية". ثم أخذت تعيد تثبيت قبعتها فوق رأسها كأنها لم تر يده الممدودة، وإنطلقت راكضة. رفع بأريش كف يده اليمنى الى مستوى عيناه المتسعتين، وأخذ يقلبها بتعجب عدة مرات، ثم قرر الإنطلاق خلفها. تفاجأ بأنها زادت من سرعتها، قرر مجارتها، فليس من عادته الإنسحاب من أي تحدي.
لم يفتها أنه كرر إسمها عدة مرات كمن يحاول إجادة نطقه بدقة، تجاهلته وثبتت نظرها على الطريق أمامها.
"لم تخبرينني عن سبب شعورك بالخوف والإرتياب من شخصي، رغم أنك تبدين هادئة جداً بنظري"؟ سألها بأريش محاولا العودة الى الأجواء الحميمية التي سادت حديثما السابق.
"أتريد حقا معرفة ما يدور داخلي من افكار الآن، وانت تركض الى جواري"؟ ردت عليه خيرية بسؤال، وهي تنظر إليه بطرف عينها، بادلها النظر وهو يحرك رأسه بنعم.
وصلا لآخر الطريق المرصوفة، توقفا وأخذا يقومان ببعض الحركات الرياضية العامة لتقوية عضلات الجسم لعدة دقائق، ثم بدأ بأريش بالقفز لأعلى وأسفل في موضعه، بينما قامت خيرية بعملية الزفير والشهيق عدة مرات، قبل ان تنطلق راكضة في نفس الإتجاه الذي قدما منه، دون ان تشير إليه. فجأة أصبح بأريش بجوارها تماما.
"أرجوك"! قالها متوسلا، كمن يلاحق حديث يعلم بأنها لا تريد الخوض فيه.
فكرت خيرية داخلها، وشفتيها مشدودتين: "ما مشكلة رجال هذه البلاد والفضول"؟
سالته: "حسنا، أتريد أن تعرف"؟ هز بأريش رأسه بنعم، ووجهه يشرق بإبتسامة مثيرة لم تؤثر فيها.
توقفت خيرية عن الركض، وفعل بأريش مثلها، وضعت يديها في وسطها ونظرت في عينيه مباشرة: "إنني أتساءل لماذا إخترتني أنا السوداء دون (الآخريات) من بنات جنسك، فهذا المنتزة لا يخلو أبداً من الشقراوات والسمراوات، وقد لا أنظر إليك مباشرة، ولكنني لم أتوقف ولو للحظة عن متابعتك بطرف عيني منذ البداية، ولأحظت ان تلك الإبتسامة الخبيثة التي تحتل طرف شفتيك، لم تختف تماما منذ لحظة وقوع نظري عليك". سكتت قليلا، ثم أخذت تنظر إليه من فوق لتحت ومن تحت لفوق بصورة متكررة في تحدي مستفز، وتشير بإصبعها الى نفسها (كما فعل هو من قبل) متسائلة: "هل تركض الى جواري للفت الإنتباه والتباهي، أم لشر تضمره في نفسك (للآخريات) من بني جنسي"؟
أخذا ينظران في أعين بعضهما بعضا لبرهة. كان يبدو على بأريش التفكير العميق، بينما كانت خيرية تحاول السيطرة على غضبها المتصاعد، وإخماد تلك النار الملتهبة التي كانت تشتعل داخلها بشدة.
أعادت خيرية نظرها الى الطريق وانطلقت راكضة، زادت من سرعتها عن قصد عدة مرات عسى ولعل ان تتخلص منه، ولكنه لم يتوقف عن اللحاق بها، ولم تتوقف هي ولو للحظة عن مراقبته بطرف عينيها بريبة.
تلاشت إبتسامة بأريش تماماً، وحل محلها تعبيراً جامداً لم تستطع قرأته. إستمرا في الركض بنفس الوتيرة في إتجاه مدخل المنتزة، حيث كان صديقه يلوح (إليه) بيديه الإثنين ويشير الى ساعته بمعني (تأخرنا). خيم صمت ثقيل حولهما مع إقترابهما من نقطة الإفتراق، ولم يعد هناك صوتا يسمع سوى صوت إرتطام أحذيتهما بأرضية المنتزة الأسمنتية، سريعا، مدويا وصاخبا كصوت رقصة أفريقية حماسية حول النار، على إيقاع قرع طبول ضخمة.

أمال أرأيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى