هل هذا هو الفقر الذي ليس مدقعاً؟
البيوت الطينية تُناديك .. لتتأمل فيها، وفي ساكنيها؟
هل جاءوا من قرى صغيرة فقيرة مثل قريتك؟
أنت معلق في دوسيه في السماء، في الدور السادس من بيت محمد رحيم في «أبي قتاتة» ..
تُذاكر بعض أخبار الصعاليك في كتاب يوسف خليف، في شقتك الفقيرة، أو وأنت جالس بجوار ترعة الزمر، ترى الأسماك الميتة التي تلفظها الترعة، وتنتظرها القطط الجائعة!
بعض كلاب متخمة تأتي من بعيد، لا تشغل نفسها بعراك مزمن مع القطط!
باقٍ على الامتحان يومان.
وأبوك الأرمل وأختك التي تصغرك بعامين ينتظران نجاحك!
خرجتَ تتمشّى في العاشرة مساءً.
رأيت البنت الغسّالة «جنات» (ذات الستة عشر ربيعاً) التي تقيم في الدور الأرضي في منزل رحيم، والتي تأتي لك في الدور السادس مرةً كل أسبوعين لتغسل ملابسك!
الثلاثاء من كل أسبوعين، تأتي لك في حياء، وتأخذ ملابسك في الصباح قبل أن تذهب إلى الكلية، وتُعيدها لك نظيفة ناصعةً بعد المغرب!
كأنها أختك الصغيرة «ماجدولين»، فلم تنظر إليها نظرة ريبةٍ أبدا .. ولم تفكر في أنها بنت يُمكن أن تجذبك أو تُثيرك، رغم بشرتها البيضاء الناعمة وفرعها الطويل وعينيها السمراوين الجميلتين!
ها نحن في العاشرة من مساء الأحد.
إنها «جنات»!
ها هي معلقة في دوسيه في الهواء .. في أول دكان على رأس الحارة، والأولاد يأكلونها دون أن يمهدوا للطبخ!
أكثر من عشرة شبان من حليقي الرءوس يتقاذفونها بينهم كالكرة، بلا رحمة!.
حارتنا في القرية البعيدة، تنام بعد صلاة العشاء. وحي «أبي قتاتة» مسكون بالسهر وابتلاع المتع الرخيصة، والنوم حتى العاشرة صباحاً .. مع أنهم فلاحون مثلنا! ..
لماذا لا يخف أحد لنجدتها؟
بل لماذا لا أخف أنا لنجدتها، وأنا أقول دائماً إنها كأختي؟!.
قناديل «أبي قتاتة» لا تضيء دائماً، ولا تخبو أبداً! .. أنها نصفُ مغمضة .. نصف مفتحة .. فلماذا أرى ضوءها الأحمر يُعشي العيون هذه الليلة؟
ها أنت تراقب تدافع حليقي الرءوس حول جسدها الغض، و«جنات» تنزلق رجلاها إلى الحفرة، ونادل المقهى المُجاور يُراقب انزلاق قدميها في الحفرة، ولا يمد يداً!
النادل جارها في الطابق الأول، في بيتنا نفسه!
جارها الأدنى ..
مثلك تماماً!
بل قبلك!
هل يخشى الوقوف أمام حليقي الرءوس الذين يحملون الشفرات الحادة بين أسنانهم، مستعدين دائماً للنزال وتشويه الضحية؟!
...
في صباح الاثنين رأيتها تمشي غاضة البصر، تتعثَّرُ خطواتها!.
حينما سألتها:
ـ هل ستجيئين غداً لأخذ الثياب؟
أشارت إلى جبهتها:
ـ هذا بعض ما تركته الحفرة على جبيني ليلة الأمس! .. ألم تسمع ما جرى لي؟
سألتها عما حدث كأني لا أعلم!، قالت:
كانت الموسيقا صاخبة عند البقال.
وأنا حينما أخرجُ من البيت، أترك الموسيقا الهادئة تؤنسُ وحدة أبي ..
موسيقا تحملُ أنساً للفؤاد، ومتعة للروح!
لكن موسيقا الأمس كانت تتسرب منها رائحة غريبة، ما بين رائحتي البول ويود البحر!
ناداني أبي قبل أن أخرج من البيت موصياً أن أحرسَ عذريتي، وأن أغلق بابه عليه، حتى لا يُهاجمه لص!
كانت الموسيقا عند البقال صاخبة أكثر مما ينبغي،
وكان الشباب يتحرشون بكل شيء!
وعدتُ فوجدتُ أبي مفتوح العينين غائباً عن الوعي،
ووجدتُ الدماء على ملابس أبي ..
تشي بما جرى!
الموسيقا لم تكن تنبعث في الدهليز الضيق ـ في بيتنا ـ هادئة ومريحة!
كانت قد رحلت بأبي إلى الأرض البعيدة .. البعيدة، فقد فَقَدَ وعيه، ونقلناه إلى مستشفى "أم المصريين" في الفجر.
...
سألتها:
ـ ألم ينجدك أحد من بين أيديهم؟
يبدو أنها لم ترني، فقد كان بيني وبينها شجرة جميز عتيقة.
قالت في مرارة:
ـ لم يتدخل أحد؛ حتى جاري النادل «عطوة» حينما هاجموني.
أضافت في سخرية:
ـ وحينما عدتً وجدتُ صوته عالياً في الشقة المجاورة، يردد أغنيةً يحبها!
...
كان ـ كما أخبرتتي ـ في شقته المجاورة، لحجرتها التي تقيم فيها مع أبيها، الأرمل العجوز .. والمذياع يذيع أغنية لفايزة أحمد عن الطاقية التي صنعتها بيديها، ولم يلبسها الحبيب!
ويردد وراء فايزة ما تقول، بصوته الأجش المنفر القبيح!.
ابتعدت «جنات» .. في خطا واهنة، متجهة إلى المستشفى .. .. وأمام البقالة كان صبية صعار يثرثرون عن سقوط «جنات» في الحفرة، ليلة الأمس!
هل قلتُ «ماجدولين» أختي؟!
يتحدثون بكل صفاقة .. وكأنهم لم يروْها ساعتها، وهي تستنجد بطوب الأرض!
وكأنهم كانوا بعيدين، لم يمد أحدٌ إليها يداً!
وفرّت دمعة سريعة من عيني، أنا الذي رأيتُ ... وجبنتُ، والتحفتُ بالصمت!!
الرياض 9/1/2007م
مجموعة «عندما تكلم عبد الله الصامت!» لــ د. حسين علي محمد
البيوت الطينية تُناديك .. لتتأمل فيها، وفي ساكنيها؟
هل جاءوا من قرى صغيرة فقيرة مثل قريتك؟
أنت معلق في دوسيه في السماء، في الدور السادس من بيت محمد رحيم في «أبي قتاتة» ..
تُذاكر بعض أخبار الصعاليك في كتاب يوسف خليف، في شقتك الفقيرة، أو وأنت جالس بجوار ترعة الزمر، ترى الأسماك الميتة التي تلفظها الترعة، وتنتظرها القطط الجائعة!
بعض كلاب متخمة تأتي من بعيد، لا تشغل نفسها بعراك مزمن مع القطط!
باقٍ على الامتحان يومان.
وأبوك الأرمل وأختك التي تصغرك بعامين ينتظران نجاحك!
خرجتَ تتمشّى في العاشرة مساءً.
رأيت البنت الغسّالة «جنات» (ذات الستة عشر ربيعاً) التي تقيم في الدور الأرضي في منزل رحيم، والتي تأتي لك في الدور السادس مرةً كل أسبوعين لتغسل ملابسك!
الثلاثاء من كل أسبوعين، تأتي لك في حياء، وتأخذ ملابسك في الصباح قبل أن تذهب إلى الكلية، وتُعيدها لك نظيفة ناصعةً بعد المغرب!
كأنها أختك الصغيرة «ماجدولين»، فلم تنظر إليها نظرة ريبةٍ أبدا .. ولم تفكر في أنها بنت يُمكن أن تجذبك أو تُثيرك، رغم بشرتها البيضاء الناعمة وفرعها الطويل وعينيها السمراوين الجميلتين!
ها نحن في العاشرة من مساء الأحد.
إنها «جنات»!
ها هي معلقة في دوسيه في الهواء .. في أول دكان على رأس الحارة، والأولاد يأكلونها دون أن يمهدوا للطبخ!
أكثر من عشرة شبان من حليقي الرءوس يتقاذفونها بينهم كالكرة، بلا رحمة!.
حارتنا في القرية البعيدة، تنام بعد صلاة العشاء. وحي «أبي قتاتة» مسكون بالسهر وابتلاع المتع الرخيصة، والنوم حتى العاشرة صباحاً .. مع أنهم فلاحون مثلنا! ..
لماذا لا يخف أحد لنجدتها؟
بل لماذا لا أخف أنا لنجدتها، وأنا أقول دائماً إنها كأختي؟!.
قناديل «أبي قتاتة» لا تضيء دائماً، ولا تخبو أبداً! .. أنها نصفُ مغمضة .. نصف مفتحة .. فلماذا أرى ضوءها الأحمر يُعشي العيون هذه الليلة؟
ها أنت تراقب تدافع حليقي الرءوس حول جسدها الغض، و«جنات» تنزلق رجلاها إلى الحفرة، ونادل المقهى المُجاور يُراقب انزلاق قدميها في الحفرة، ولا يمد يداً!
النادل جارها في الطابق الأول، في بيتنا نفسه!
جارها الأدنى ..
مثلك تماماً!
بل قبلك!
هل يخشى الوقوف أمام حليقي الرءوس الذين يحملون الشفرات الحادة بين أسنانهم، مستعدين دائماً للنزال وتشويه الضحية؟!
...
في صباح الاثنين رأيتها تمشي غاضة البصر، تتعثَّرُ خطواتها!.
حينما سألتها:
ـ هل ستجيئين غداً لأخذ الثياب؟
أشارت إلى جبهتها:
ـ هذا بعض ما تركته الحفرة على جبيني ليلة الأمس! .. ألم تسمع ما جرى لي؟
سألتها عما حدث كأني لا أعلم!، قالت:
كانت الموسيقا صاخبة عند البقال.
وأنا حينما أخرجُ من البيت، أترك الموسيقا الهادئة تؤنسُ وحدة أبي ..
موسيقا تحملُ أنساً للفؤاد، ومتعة للروح!
لكن موسيقا الأمس كانت تتسرب منها رائحة غريبة، ما بين رائحتي البول ويود البحر!
ناداني أبي قبل أن أخرج من البيت موصياً أن أحرسَ عذريتي، وأن أغلق بابه عليه، حتى لا يُهاجمه لص!
كانت الموسيقا عند البقال صاخبة أكثر مما ينبغي،
وكان الشباب يتحرشون بكل شيء!
وعدتُ فوجدتُ أبي مفتوح العينين غائباً عن الوعي،
ووجدتُ الدماء على ملابس أبي ..
تشي بما جرى!
الموسيقا لم تكن تنبعث في الدهليز الضيق ـ في بيتنا ـ هادئة ومريحة!
كانت قد رحلت بأبي إلى الأرض البعيدة .. البعيدة، فقد فَقَدَ وعيه، ونقلناه إلى مستشفى "أم المصريين" في الفجر.
...
سألتها:
ـ ألم ينجدك أحد من بين أيديهم؟
يبدو أنها لم ترني، فقد كان بيني وبينها شجرة جميز عتيقة.
قالت في مرارة:
ـ لم يتدخل أحد؛ حتى جاري النادل «عطوة» حينما هاجموني.
أضافت في سخرية:
ـ وحينما عدتً وجدتُ صوته عالياً في الشقة المجاورة، يردد أغنيةً يحبها!
...
كان ـ كما أخبرتتي ـ في شقته المجاورة، لحجرتها التي تقيم فيها مع أبيها، الأرمل العجوز .. والمذياع يذيع أغنية لفايزة أحمد عن الطاقية التي صنعتها بيديها، ولم يلبسها الحبيب!
ويردد وراء فايزة ما تقول، بصوته الأجش المنفر القبيح!.
ابتعدت «جنات» .. في خطا واهنة، متجهة إلى المستشفى .. .. وأمام البقالة كان صبية صعار يثرثرون عن سقوط «جنات» في الحفرة، ليلة الأمس!
هل قلتُ «ماجدولين» أختي؟!
يتحدثون بكل صفاقة .. وكأنهم لم يروْها ساعتها، وهي تستنجد بطوب الأرض!
وكأنهم كانوا بعيدين، لم يمد أحدٌ إليها يداً!
وفرّت دمعة سريعة من عيني، أنا الذي رأيتُ ... وجبنتُ، والتحفتُ بالصمت!!
الرياض 9/1/2007م
مجموعة «عندما تكلم عبد الله الصامت!» لــ د. حسين علي محمد